جدول المحتويات
«نبض الخليج»
بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، بدأ تحدي ملء الفراغ الأمني في البلاد أمام الإدارة السورية الجديدة؛ حيث بُذلت مساعٍ حثيثة في هذا الإطار، عبر العمل المستمر على إنهاء الملفات الداخلية المتعلقة بفلول النظام السابق وأي محاولات للنشاط وزعزعة الأمن، خصوصاً في محافظات الساحل السوري وحمص. كما جرى العمل على إجراء تسوية مع “قسد” لإعادة دمج مناطق سيطرتها تحت إدارة الحكومة الانتقالية السورية، إلى جانب الاجتهاد المتواصل فيما يتعلق بملف الجنوب السوري والفصائل المتواجدة فيه من مختلف الانتماءات، سواء في درعا أو السويداء، بالتزامن مع عدوان إسرائيلي مستمر على الأراضي السورية عبر استهداف مختلف النقاط العسكرية وغير العسكرية في المحافظات كافة.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، يظهر مدى اندماج وتأثر الأمن بالاقتصاد على نحوٍ عضوي؛ فحيثما يتصدّع الأوّل، يهتز أساس الثاني الهشّ بالأصل، نتيجة الدمار الذي تعرض له الاقتصاد على مدى سنوات الحرب، إلى جانب استمرار العقوبات الاقتصادية. وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى تعطيل أو تأخير التنمية الاقتصادية، وإهدار الفرص الاستثمارية التي تحتاجها البلاد بشكل حثيث، في ظل ما تعانيه من تدهور اقتصادي شديد، وارتفاع في معدلات التضخم والبطالة، وتراجع في حجم المساعدات الإنسانية المقدَّمة من الدول الداعمة، مثل تلك المشاركة في مؤتمر بروكسل وغيره.
لمحة عن الأحداث الأمنية الداخلية في سوريا
أدى وجود بعض الجيوب المتنافسة مع الإدارة الجديدة إلى استمرار انتشار السلاح بيد العديد من الجهات. فمنذ سقوط نظام الأسد، بدأت هذه الجيوب بالضغط على الإدارة الجديدة بشتى الوسائل؛ حيث شرعت فلول النظام في تنظيم نفسها ضمن مناطق الساحل السوري في آذار/مارس 2025، وشنّت هجمات متكررة استهدفت قوات الأمن العام هناك. كما وقعت اشتباكات بين مجموعات مسلّحة وقوات الأمن العام في ضاحيتي جرمانا وأشرفية صحنايا في نهاية نيسان/أبريل 2025. يُضاف إلى ذلك استمرار وجود سجناء جنائيين طلقاء، فرّوا أثناء تحرير المدن السورية، وتواصل قوات الأمن العمل على ضبطهم.
وقد أدت هذه الاضطرابات إلى استمرار حالة تعدد الأطراف المسلحة، التي حوّلت بعض المناطق إلى بيئة مضطربة يصعب فيها تقدير المخاطر أو التنبؤ بها، ما يبرز أهمية وجود سلطة مركزية تحتكر حق استخدام القوّة لضبط الأمن واستقرار البلاد.
إلى جانب ذلك، ظلّ شمال شرقي سوريا طيلة سنوات الحرب خزان طاقة مهدوراً ومغلقاً أمام بقية البلاد. ورغم توقيع اتفاقٍ إطاري في آذار/مارس 2025 بين الإدارة السورية وقوات سوريا الديمقراطية لتوحيد الإدارة الضريبية وتوريد النفط عبر المؤسسة العامة الجديدة للطاقة، وإعادة انتشار قوات الجيش والأمن السوري في المنطقة، فإنّ تنفيذ هذا الاتفاق ما زال يصطدم بمواقف متباينة حيال ملفات حساسة مثل: عائدات حقول النفط، ومستقبل سجون تنظيم “داعش”، وتركيبة قوات الأمن المشتركة. وقد شهدت المنطقة مناوشات متكررة، لا سيما حول منطقة سد تشرين.
ويعني هذا التعثر استمرار ازدواج التشريعات والرسوم على شاحنات القمح والقطن والنفط العابرة عبر الفرات، وحرمان الخزينة المركزية من موارد حيوية كان يمكن أن تساهم في إعادة إعمار المحافظات، وزيادة توليد الكهرباء، وبالتالي تشغيل المصانع وتوظيف الأيدي العاملة، مما يسهم في خفض معدلات البطالة وضخ الأموال في الأسواق.
ولا يمكن إغفال تأثير التهريب القائم بين مناطق “قسد” وبقية المناطق السورية، والذي يُفقد الخزانة العامة موارد نقدية كان يمكن أن تغطي بعض احتياجات الحكومة.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث الاقتصادي خالد التركاوي: “يعد النفط ركيزة أساسية في استقرار وتنمية الاقتصاد؛ فبدون تفعيل حقول النفط وإصلاحها وضخ النفط إلى جميع المحافظات، ستتعثر عملية التنمية الاقتصادية أو تكون بطيئة”.
الغارات الإسرائيلية والتأثير على البنية التحتية
عقب سقوط نظام الأسد، دخلت إسرائيل في نمط شبه متكرر من الضربات التي تستهدف البلاد بحجّة منع تموضع فصائل عسكرية مناهضة لها على حدودها، بالإضافة إلى استهداف المقدّرات العسكرية والأسلحة الاستراتيجية. وقد أفضى هذا القصف الممنهج، الذي بدأ منذ عهد نظام الأسد المخلوع، إلى تآكل أصول البنية التحتية، مثل مهابط المطارات، ورادارات الملاحة، ومخازن الوقود، والموانئ وغيرها. كما أدى إلى ارتفاع كلفة التأمين البحري على الشحنات الواردة إلى مرافئ طرطوس واللاذقية، ما تسبب في زيادة التكاليف المرتبطة بإعادة تنشيط مطاري حلب ودمشق أمام حركة الملاحة الجوية.
وهو نهجٌ جعل سماء البلاد مفتوحة على احتمال الانفجار في أيّ لحظة، ما رسّخ خوفاً مزمناً من الاستثمار في سوريا؛ إذ إنه مع كل صاروخٍ يدوّي، تتوزّع الخسارة بين هدرٍ فوري في الأصول المادية، وفاتورة مؤجَّلة يدفعها المواطن عبر ارتفاع أسعار السلع والخدمات. فالغارات لا يقتصر أثرها على الدمار المرئي فحسب، بل يتسرّب تأثيرها إلى عمق حركة المال، فيقعد قنوات التجارة والتأمين والاستثمار، ويبقي الاقتصاد رهينة هشاشة أمنية.
تأثير الحالة الأمنية على البيئة الاستثمارية
لا يحتاج المستثمر إلى قراءة بيانات اقتصادية كي يدرك أن رأس المال “جبان”، بل يكفيه أن يشاهد أعمدة الدخان تتصاعد من منطقةٍ ما أو يسمع بوقوع كمينٍ على طريقٍ ما، حتى يعدّل بوصلته نحو أسواق أكثر أماناً. فالتوتر الأمني يرفع تكاليف التأمين والنقل، ويهدّد سلاسل التوريد الهشّة، ويحرم المشاريع الناشئة من تمويل خارجي بحاجة إلى مناخ استقرار قضائي وأمني للانطلاق.
كما أن الاعتداءات الإسرائيلية والاضطرابات الأمنية ضاعفت من شعور المخاطرة، لأن المنشآت الاقتصادية المدنية مثل مستودعات التخزين، وشبكات الكهرباء، وورش الصيانة، والموانئ، ومؤسسات الدولة، باتت أهدافاً لأي جهة تسعى لاستمرار حالة الانفلات الأمني في البلاد. وفي هذا السياق، قد يؤدي ذلك إلى تعثّر توقيع مذكرات تفاهم مع مستثمرين ينوون إعادة إحياء صناعة معينة أو تنشيط قطاع محدد، بسبب وجود بقع مضطربة خارجة عن سيطرة الحكومة السورية.
وهكذا، يتحوّل رأس المال الوطني الراغب في العودة إلى البلاد إلى حالة من التريث، ويستمر في “سياحة أموال” خارجية، أو على الأقل يُحتفَظ به في خزائن المستثمر الشخصية. وفي الوقت نفسه، تواصل شريحة من العمالة الماهرة في بلاد المهجر التريث في العودة، بانتظار تحقيق قدر كافٍ من الاستقرار الأمني، لا سيما في شمال شرقي سوريا وجنوبها وغربها.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث الاقتصادي خالد تركاوي: “بعد التحرير، كانت هناك حالة من الحماس الواضح لدى المستثمرين للاستثمار في البلاد، لكن بعد وقوع الأحداث الأمنية تراجع هذا الحماس لدى بعضهم، خشية ضخ أموالهم في الوقت الراهن، وأجّلوا ذلك إلى وقت لاحق ريثما يتم ضبط الأمن بشكل كامل”.
ويقول الباحث أدهم قضيماتي: “الاستقرار الأمني هو من أساسيات جذب الاستثمارات إلى البلاد، وهو لا يعني الاستقرار في منطقة أو اثنتين فقط، بل يجب أن يشمل كل سوريا، لكونها تملك منافذ برية وبحرية وجوية تربط جميع أراضيها بالخارج”.
ومن جانبه، يقول الباحث في الشؤون العسكرية رشيد حوراني: “لم يتأثر الاقتصاد كثيراً بالأحداث الأمنية سواء في الساحل أو السويداء، لأنه معطّل بالأصل، ولا توجد دورة اقتصادية لها مدخلات ومخرجات واضحة، إذ إن النظام البائد كان يعتمد بشكل رئيسي على تجارة المخدرات، وعائداتها لم تكن تنعكس على المجتمع السوري أو على سوق العمل والتجارة والصناعة والزراعة. لكن من جانب آخر، تأثّر الاقتصاد أيضاً بفعل تصرفات بعض حلفاء النظام، مثل إيران، التي قطعت إمدادات النفط التي كانت تقدّمها لسوريا في عهد النظام البائد”.
متطلبات أمنية أمام التنمية الاقتصادية المستدامة
يتطلّب البناء الاقتصادي التنموي نفساً طويلاً واستراتيجيةً تتجاوز الدورات الحكومية القصيرة، بيد أنّ الأمن المنفلت في بعض المناطق، والتنافس الحاصل، وضربات الفاعل الخارجي الإسرائيلي، جميعها تؤدي إلى عرقلة خطط التنمية؛ إذ إن عدم الاستفادة من حقول النفط والغاز الموجودة في شرق الفرات، والأراضي الزراعية التي تنتج أهم المحاصيل السورية مثل القمح والشعير والحنطة وغيرها، يؤدي إلى إعاقة التنمية الاقتصادية.
فالمستثمر، قبل أن يضع حجراً، يطلب رؤيةً معقودةً على عقدٍ اجتماعي يضمن سيادة القانون وردع السلاح المنفلت، كما يطلب منظومةَ قضاءٍ موحّدة ومنظمة، وأجهزة شرطة مندمجة، وإغلاقاً فعلياً لجيوب تهريب السلاح والمخدرات؛ إذ إن جهود إعادة الإعمار تتطلّب مزيجاً من هذه المتطلبات على المدى القصير لتحقيق القيمة المضافة طويلة الأجل.
بالإضافة إلى ذلك، يؤدّي استمرار استنزاف العملة الصعبة عبر المدفوعات الأمنية، مثل رواتب بعض الفصائل الخارجة عن سلطة الدولة، وإعادة ترميم البنية المتأثرة من الاستهداف العسكري، إلى تقليص الموارد المتاحة للاستثمار في التعليم، والبنى التحتية الاجتماعية، والصحة، وغيرها. وهذا ما ينتج دائرةً مفرغة: أمن هشّ يولّد اقتصاداً هشّاً، والعكس بالعكس.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث الاقتصادي قضيماتي: “إن الاستقرار الأمني يؤدي إلى جلب الأموال الساخنة، والتي تُعد المحرك الرئيسي للتنمية الاقتصادية والأسواق والبنوك، كما يسهم في جذب الشركات العالمية للاستثمار في البلاد”.
من جانبه، يقول الباحث في الشؤون العسكرية الحوراني: “على الرغم من وجود اضطرابات في بعض المناطق، يمكن القول إن سوريا ستشهد نمواً اقتصادياً بفضل مبادرات بعض رجال الأعمال السوريين لفتح استثماراتهم في البلاد، ونقل البعض الآخر منهم لأعماله، وهو ما يسهم في التأسيس لبناء الاقتصاد انطلاقاً من المشاريع الصغيرة، وذلك شريطة توفّر الأمن بالحدّ المطلوب”.
بشكل عام، إن العلاقة بين الأمن والاقتصاد ليست جدليةً فحسب، بل وجودية؛ فلا تجارة بدون طرقٍ آمنة، ولا إعادة إعمار بلا مطاراتٍ سالمة، ولا طاقة بلا اتفاقٍ سياسي يُنهي ازدواج السلطة. فالاشتباكات الحاصلة بين مختلف الأطراف، وتعقيدات التفاهم مع قسد، وضربات إسرائيل المتكررة، ليست أحداثاً منفصلة، بل حلقات في سلسلة تؤخر اندماج الاقتصاد السوري في محيطه، وتحرم البلاد من عوائد استثمارية كانت كفيلة بخلق فرص عمل لجيلٍ مجتهد يمتلك طاقات كامنة.
ولئن كان سقوط النظام السابق مناسبةً لإطلاق عملية تغيير شاملة، فإنّ ما يؤثر في هذه العملية اليوم هو غياب مظلّة أمنية موحّدة تُطمئن المواطن قبل المستثمر. وعند هذه النقطة بالذات، تبرز مسؤولية السلطة الانتقالية وشركائها الدوليين، عبر الذهاب سريعاً نحو ترتيبات أمنية تضع السلاح تحت إمرة الدولة فقط، وتستوعب الهواجس المحلية، وتضمن عدم تضييع الفرص أو تحوّل سوريا إلى هامش على خرائط المستثمرين والعمّال على حدّ سواء.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية