«نبض الخليج»
حتى هذه اللحظة، ورغم مضي قرابة ستة أشهر على سقوط نظام الأسد، وتكشّف الكوارث التي فُخخ بها الواقع السوري، والأزمات المتلاحقة التي لا تكاد تنتهي واحدة منها حتى تلحق بها أخرى!
ورغم أن ما يجري على الأرض كفيل بتوليد التشاؤم في عقول كثير من السوريين، إلا أنه ينبغي الاستزادة من الفرح بأن البلاد لم تعد محكومة من الحثالة الأسدية. فاستغراق الناس في السعادة والاستمتاع بالحرية اليوم، يمنح حتى أكثر المتشائمين فرصة لتقسيم اللوحة التي يرسمونها عن الواقع، بين الأبيض والأسود، بين الجميل والقبيح، بين الأمل واليأس.
قبل انطلاق عملية (ردع العدوان)، نحو مدينة حلب، الذهاب بعدها نحو جنوبها، كان السوريون يرممون ما بقي من جسد الآمال المحطمة، وها هم، مع مرور الوقت، يخوضون يوميًا في شؤونهم العامة دون خوف، يقارعون الإدارة الجديدة، يحاولون تصويب سلوك بعض أدواتها، ويوجّهون الانتقادات العلنية لرجالاتها، دون أن يخفوا تبرمهم، من أن نتائج الثورة السورية حتى اللحظة، ما تزال دون طموحات الشباب الثائر، الذي خاض بشعاراته السلمية وأدواته البسيطة جولة الصراع الأولى مع النظام البائد.
هل ثمة ما هو أسوأ من الحكم الأسدي؟ أجزم بأن ما عاشته سوريا في ذلك العهد كان الوقوع في حفرة الشر، وأن الخروج منها احتاج إلى أربعة عشر عامًا من الآلام المركّزة، ومئات الآلاف من المعتقلين والمغيّبين، وأكثر من مليون قتيل.
المسافة بين الطموحات والواقع ما تزال كبيرة، ليس فقط لدى جزء من الجمهور، بل لدى أشخاص من داخل الدولة الجديدة أيضًا.
فبعض هؤلاء بَنَوا تصوّرهم على أن الوصول إلى دمشق وخضوعها كعاصمة البلاد لهم، يعني قدرة هائلة على التحكم دون مقاومة، وفعل ما يشاؤون بلا مساءلة.
لكن هذا الاعتقاد تدحضه الفيزياء ببساطة، عبر قانون نيوتن الثالث: “لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضادّ له في الاتجاه”.
لكن من يظنون أنفسهم قادرين على السيطرة لا يقرؤون الفيزياء كفلسفة، بل يحصرونها في العناصر المادية، بينما يستبدلونها بقراءة سطحية لميكيافيللي وكتابه “الأمير”، كدليلٍ للحكم والسيطرة، يبرر استخدام أكثر الأساليب قتامة لبلوغ غايات ليست دائمًا نبيلة، وقد تكون في أحيان كثيرة ذات مصالح ضيقة أو جماعية، تُعيد السوريين إلى ما هو أسوأ مما سبق.
هل ثمة ما هو أسوأ من الحكم الأسدي؟ أجزم بأن ما عاشته سوريا في ذلك العهد كان الوقوع في حفرة الشر، وأن الخروج منها احتاج إلى أربعة عشر عامًا من الآلام المركّزة، ومئات الآلاف من المعتقلين والمغيّبين، وأكثر من مليون قتيل. إن عودة بعض ملامح النظام القديم تعني ببساطة عودة أعلى درجات السوء، فهل هناك ما هو أقسى على أبناء هذا البلد من أن تذهب كل تلك التضحيات هباءً بسبب بعض الحمقى في الإدارات والفصائل؟
يجاهر السوريون اليوم بأنهم، بعد 54 سنة من حكم الأبد الأسدي الذي انقضى كنهار طويل مظلم، لا يقبلون الخضوع من جديد لا لفيزياء قسرية، ولا لعقلية سلطوية!
ويقترح كثيرون أن تُحل الإشكاليات القائمة بالحوار والتفاهم، ضمن أفقٍ واضح يرنو إلى مستقبل أفضل بعد عقود الخراب.
ولأجل أن يشعر المواطنون بأنهم والقيادة السورية الجديدة يقفون على الأرضية ذاتها، فإنهم يطالبونها بالشروع الفوري في مسار العدالة الانتقالية، وبأن يكون القرار واضحًا لا تشوبه الاستثناءات أو الصفقات التي يُقال إنها تُعقد في الكواليس باسم “مصلحة الوطن”!
لا يمكن مواجهة أصحاب النزعات الانفصالية، أو الجماعات التي ترفض تسليم سلاحها للدولة، إلا بتفريغ حججهم من مضمونها.
ويطالبونها بكبح النزعات المتطرفة لدى بعض الجهات التي تنزع للانتقام الدموي، دون منح العدالة فرصتها لتأخذ مجراها وفق القانون، وبأن تقيّد الفصائل التي تحاول فرض تصوراتها الخاصة عن الشريعة على مجتمعٍ عريق اعتاد صيغة من التدين المتوازن طوال تاريخه.
لا يمكن مواجهة أصحاب النزعات الانفصالية، أو الجماعات التي ترفض تسليم سلاحها للدولة، إلا بتفريغ حججهم من مضمونها.
ولا يمكن تحقيق ذلك إلا حين تنفذ الإدارة السورية الجديدة أجندة وطنية حقيقية، وخطة عمل عاجلة، تُبنى على حاجات السوريين، بعيدًا عن المحاصصات الطائفية أو القومية.
فكلما أُحيطت الغايات المشروعة لأفراد المجتمع بالاهتمام والعمل، انهارت الأسوار المعنوية والحواجز النفسية أمام صدق النيات في التقدم نحو المستقبل المأمول.
إن سوريا التي دفعت أثمانًا باهظة للخلاص من الحكم الأسدي لا تحتمل أن تُؤخذ رهينة من جديد لأوهام السيطرة أو شعارات تُعيد إنتاج القهر بصيغٍ أخرى. إن العدالة، لا الانتقام، والحرية، لا الفوضى، هي ما طالب به السوريون منذ البدء، وما زالوا يطالبون به اليوم، بصوتٍ أعلى، وأملٍ أكثر نضجًا من أي وقت مضى.
ودون هذا، لن يكون من المفيد الاحتفال بنهاية عهد الأسديين الإجرامي.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية