«نبض الخليج»
منذ اللقاء المعلن بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، منتصف أيار/مايو الفائت، برزت تحولات لافتة في السياسة الأميركية تجاه سوريا، أعادت طرح الأسئلة حول طبيعة الدور الأميركي خلال المرحلة المقبلة، وحدود الانفتاح الأميركي الممكن على السلطة الانتقالية في دمشق.
اتّخذت واشنطن، في أعقاب لقاء الرياض، سلسلة إجراءات متدرجة يُستشف منها توجّه جديد يقوم على إعادة ضبط ما كان يُعدّ خطوطاً حمراء، وتكييف أدوات العقوبات بما يتناسب مع تعقيدات المرحلة الانتقالية. ومع تتابع هذه الخطوات، بدأت تتّضح ملامح مقاربة أميركية جديدة في إدارة العلاقة مع الحكومة الانتقالية السورية.
بين المطالب الأميركية واستجابة دمشق المرحلية شكّل لقاء الرياض (منتصف أيار/مايو الماضي) بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع أول اجتماع مباشر بين رئيسين للبلدين منذ ربع قرن، وقد جاء عقب إعلان مفاجئ من ترامب رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، ما أضفى على اللقاء طابعاً استثنائياً من حيث الرمزية والتوقيت.
وفي بيان رسمي أعقب الاجتماع، صرّحت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، بأن الرئيس ترامب تعهّد بالعمل إلى جانب المملكة العربية السعودية من أجل “تشجيع السلام والازدهار في سوريا”، مشيرةً إلى أن ترامب قدّم خلال اللقاء خمسة مطالب رئيسية إلى الشرع؛ تمثّل أولها في التوقيع على اتفاقية أبراهام للتطبيع مع إسرائيل، وثانيها مطالبة جميع المقاتلين الأجانب بمغادرة الأراضي السورية، وثالثها ترحيل عناصر من فصائل فلسطينية مسلحة، أما رابع المطالب فتمثل في التعاون مع الولايات المتحدة في منع عودة تنظيم “داعش”، في حين انصبّ المطلب الخامس والأخير على تحمّل المسؤولية عن مراكز احتجاز عناصر التنظيم في شمال شرقي البلاد. جاءت نقطة الانطلاق في التحول الأميركي الأخير بإعلان رفع جزئي ومؤقت للعقوبات المفروضة على سوريا، في خطوة اعتبرها مراقبون تحولاً نوعياً في مقاربة واشنطن للملف السوري. وفي 24 أيار/مايو الفائت، صرّح وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، بأن الولايات المتحدة منحت إعفاءً لمدة 180 يوماً من العقوبات المفروضة بموجب “قانون قيصر”، مؤكداً أن هذا الإجراء يهدف إلى “اختبار النوايا والقدرة على الوفاء بالالتزامات الدولية”. وبالتوازي، أصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية الترخيص العام رقم (25)، والذي يسمح بتخفيف القيود المفروضة على التعاملات المالية والاقتصادية في سوريا.
وفي مقاربة تحليلية لمسار التعامل السوري مع هذه المحددات الأميركية، يتّضح أن دمشق قد استجابت بدرجات متفاوتة، اتّساقًا مع تعقيد الملفات وتفاوت حساسياتها السياسية والأمنية. فعلى صعيد المقاتلين الأجانب، وافق المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، في مطلع حزيران/يونيو الجاري، على خطة لدمج نحو 3500 مقاتل أجنبي – معظمهم من الإيغور المنضوين ضمن تنظيمات كـ”حزب تركستان الإسلامي” – ضمن صفوف الفرقة 84 التابعة للجيش الوطني السوري، وذلك بشرط إخضاعهم لرقابة أمنية صارمة. وقد عُدّت هذه الخطوة تراجعاً ملحوظاً عن موقف أميركي سابق كان يرفض دمج المقاتلين الأجانب في مؤسسات الدولة. وبرر باراك القرار بالقول إن هذه المقاربة أكثر أماناً من إبقائهم خارج السيطرة التنظيمية.
أما فيما يتعلق بمسار التطبيع مع إسرائيل أو الانخراط في اتفاقيات إبراهام، فقد برزت خلال الأسابيع الأخيرة مؤشرات تفيد بتقدم محدود لكنه ملموس. فقد نقلت وكالة “رويترز” في 11 حزيران/يونيو الجاري عن قس أميركي مقرّب من ترامب أن “السلام بين سوريا وإسرائيل ممكن جداً”، مشيراً إلى لقائه – إلى جانب حاخام أميركي مؤيد لإسرائيل – بالشرع في القصر الرئاسي في دمشق. وفي تقارير أخرى، أفادت “رويترز” بأن البلدين أجريا خلال الأسابيع الماضية، محادثات غير مباشرة، تلتها أخرى مباشرة، بهدف تهدئة التوتر بينهما، ما يشي بوجود مسار دبلوماسي قيد التبلور، وإن بقي خارج الإعلان الرسمي حتى اللحظة.
وفي ملف الفصائل الفلسطينية، أظهرت دمشق تجاوباً سريعاً مع أحد أبرز المطالب الأميركية، حيث أفادت وكالة الصحافة الفرنسية في أواخر أيار/مايو بأن قادة فصائل فلسطينية مدعومة من طهران غادروا العاصمة السورية بعد تضييق السلطات عليهم، وقيام بعض الفصائل بتسليم أسلحتها. ونقلت الوكالة عن قيادي فلسطيني قوله إن “معظم قادة الفصائل الفلسطينية التي تلقت دعماً من طهران غادروا دمشق”، مشيراً إلى انتقال بعضهم إلى لبنان ودول أخرى. ويُعدّ هذا التطور
بمثابة تغيير ميداني مهم في خارطة تموضع ما يسمى بـ “محور المقاومة” داخل سوريا، في سياق ما يبدو أنه تكيّف مع متطلبات المرحلة الجديدة.
أما في ما يخص ملف تسلّم مراكز احتجاز عناصر داعش، فقد شهد يوم 24 أيار/مايو الفائت زيارة رسمية أجراها وفد من الحكومة الانتقالية إلى مخيم الهول شمال شرقي البلاد، بمرافقة قوة من التحالف الدولي. ووفق ما تم تداوله، ناقش الوفد مع إدارة المخيم – التابعة للإدارة الذاتية – أوضاع قاطني المخيم، وسبل إخراج العائلات السورية منه ضمن آلية تدريجية منسقة.
وفي الرابع من حزيران/يونيو، أدلت وزارة الدفاع الأميركية بتصريحات لقناة “الحدث”، أكدت فيها استمرار التعاون مع “شركائها السوريين” لمواجهة أي تهديد من قبل داعش، معتبرة أن “داعش لا يزال يسعى لاستغلال أي حالة من عدم الاستقرار في سوريا”، وأن واشنطن تعمل على تمكين شركائها المحليين من تنفيذ المهام المتبقية في مكافحة الإرهاب. تكشف القراءة المتأنية لاستجابة دمشق للمطالب الأميركية عن نمط سلوك براغماتي يتقاطع مع ما يمكن تسميته بـ”الانفتاح المشروط” من الطرف الأميركي، والذي لا يرقى بالضرورة إلى مستوى الاعتراف السياسي الكامل، لكنه يُجسد تحولاً تدريجياً في كيفية إدارة العلاقة مع السلطة السورية الجديدة. فواشنطن التي لا تزال حذرة في خطابها العلني، بدأت فعلياً في اختبار مدى التزام دمشق بشروط تعتبرها أساسية لإعادة دمج سوريا في النظام الإقليمي والدولي.
ولعل المفارقة الأبرز أن هذه المحددات الأميركية لم تأتِ بوصفها شروطاً تفاوضية كلاسيكية، وإنما كمصفوفة سياسية–أمنية ترسم مفهوم “الخطوط الحمراء” في التعامل مع السلطة الانتقالية في سوريا، حيث ركّزت واشنطن على قضايا ذات طبيعة أمنية–جيوسياسية.
بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى استجابات دمشق بوصفها تنازلات مجانية، بقدر ما هي جزء من إعادة تموضع محسوبة تسعى فيها السلطة إلى تجاوز الطوق السياسي المفروض عليها، من دون إثارة استفزازات مباشرة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على هامش من الاستقلال السيادي الظاهري.
في المقابل، تبدو واشنطن كأنها تختبر نموذجاً جديداً للتعامل مع الأنظمة غير المعترف بها رسمياً، من خلال اعتماد سياسة “الاعتراف المؤجل”، أي التعامل العملي والمؤسساتي من دون إعلان سياسي رسمي وكامل، بما يسمح لها بالاستفادة من الترتيبات الأمنية والميدانية، من دون دفع ثمن سياسي داخلي أو خارجي.
هذا النهج إذا استمر، قد يؤدي إلى تراكم مؤشرات من شأنها أن تنتج لاحقاً حالة أمر واقع، تتجاوز شروط الاعتراف التقليدية، وتُمهّد لمسار تطبيع تدريجي تحت سقف التحفّظات، لكنه خالٍ من التصعيد أو العزل.
إعادة التموضع الأميركي في الفراغ السوري
في السادس من حزيران/يونيو الحالي، أجرى المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم باراك، مباحثات مع الرئيس دونالد ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو، تناولت الملفات المتعلقة بسوريا وتركيا.
وفي 29 أيار/مايو الفائت، زار باراك دمشق، والتقى الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، في أول زيارة رسمية له منذ تكليفه بمنصب المبعوث الخاص إلى سوريا.
وخلال زيارته إلى دمشق، أعلن باراك أن الرئيس ترامب يعتزم إزالة اسم سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب قريباً، مؤكداً أن الهدف الأساسي للإدارة الأميركية هو تمكين الحكومة الحالية في دمشق. وفي وقت سابق زار باراك إسرائيل بهدف مناقشة تطورات الملف السوري والوضع الإقليمي، بحسب وسائل إعلام عبرية.
وذكرت صحيفة “إسرائيل هيوم” أن باراك اطّلع على الأوضاع الأمنية في الجولان، وزار عدة مواقع استراتيجية برفقة وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، ووزير الأمن الداخلي رون درمر، إلى جانب عدد من القادة العسكريين.
وفي الـ 23 من أيار الفائت أعلن السفير الأميركي لدى تركيا، توم باراك، أنه تولى دور المبعوث الخاص إلى سوريا.
وقال باراك في تغريدة على منصة “إكس” إنه سيدعم وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، في رفع العقوبات عن سوريا، بعد أن أصدر الرئيس دونالد ترامب إعلاناً تاريخياً في وقت سابق من الشهر الماضي بأن واشنطن ستخفف هذه الإجراءات.
الواضح أن واشنطن لا تسعى في الوقت الراهن إلى فرض مسار سياسي تقليدي من أعلى، وإنما تعمل على إعادة تشكيل البيئة السياسية والأمنية من خلال مجموعة أدوات “ليّنة” تعتمد على رفع العقوبات الجزئي، إشارات ديبلوماسية مدروسة انطلقت من تعيين مبعوث رئاسي خاص إلى سوريا، ودفع الحكومة السورية الحالية إلى مزيد من الخطوات التي تصب في خانة بناء الثقة.
وبذلك، يمكن فهم المرحلة الحالية على أنها انتقال من منطق الضغط القصوى إلى منطق “الاحتواء التفاعلي”، الذي يُبقي أوراق الضغط حاضرة، لكنه يُتيح في الوقت ذاته اختبار الفاعلين الجدد وفق شروط متغيرة.
أمام هذا المشهد، يبرز تساؤل جوهري؛ هل تمثل مدة الـ180 يوماً فرصة سياسية حقيقية لإعادة ضبط العلاقة بين واشنطن ودمشق، أم أنها مجرد نافذة مؤقتة للاختبار؟
في حال استمر التنسيق في الملفات ذات الأولوية بالنسبة للإدارة الأميركية، لا سيما مكافحة الإرهاب، فإن من المرجّح أن تذهب واشنطن نحو تمديد العمل بآليات تخفيف العقوبات أو توسيع نطاق التراخيص الخاصة، مع احتمالية الإبقاء على الإطار المؤسسي القائم الذي يفصل بين التعامل الإجرائي والاعتراف السياسي الكامل.
وفي المقابل، إذا تباطأت وتيرة الاستجابة أو طرأت مستجدات داخلية أو إقليمية تُقيد هامش الحركة الأميركية، فقد تتجه واشنطن إلى إعادة تقييم مؤشرات الانفتاح، من دون العودة إلى سياسات التصعيد السابقة، وذلك في ظل ما يظهر من إدراك أميركي لتعقيدات المرحلة الانتقالية في سوريا، وتوازنات الإقليم التي تفرض مرونة تكتيكية في إدارة هذا النوع من الملفات.
ما تقوم به الولايات المتحدة اليوم يمكن وصفه بأنه سياسة إعادة تموضع ذكية، تحاول من خلالها واشنطن استعادة تأثيرها داخل الملف السوري، من دون دفع كلفة سياسية أو عسكرية مباشرة، مستفيدة من نضج ظروف إقليمية ملائمة، وواقع دولي يتطلب ضبط الساحات المتروكة من دون إشعالها.
بين انتظار ما ستؤول إليه الأشهر القادمة، تبقى العلاقة بين واشنطن والحكومة السورية الانتقالية محكومة بمبدأ الانفتاح المشروط والتقدّم التدريجي. وفي ضوء هذه التحولات، تبدو السياسة الأميركية في سوريا أمام مفترق دقيق يتمثل في الحفاظ على التماسك الإقليمي من دون التفريط بملف ظل خارج أولوياتها لسنوات. أما دمشق، فهي بدورها تتحرك في مساحة اختبار لا تزال غير محددة السقف، تسعى عبرها لتثبيت حضورها الإقليمي عبر بوابة التعاون الأمني والبراغماتية السياسية، في انتظار ما إذا كانت النوافذ المؤقتة ستُفتح على أفق أطول مدى.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية