جدول المحتويات
«نبض الخليج»
بين مشهد وقم نشأ ذلك الشاب ابن الطبقة الفقيرة يدخن السجائر والغليون محباً للكتب قارئاً على غير عادة طلاب العلم التقليديين الشيعة لروائيين عالميين وكتاب من الفكر الإسلامي السني، تأثر علي بسيد قطب وتتبع سيرته وكتبه ونقلها لبني قومه، كما كان للعديد من الروائيين العالميين أمثال ليو تولستوي وفيكتور هوغو وجون شتاينبك تأثير بالغ فيه، رغم تبنيه التام لنظرية “ولي الفقيه” وما أخذه عن ملهمه الأبرز “روح الله الخميني”.
ذلك العجوز المريض الذي يضفي عليه أتباعه هالة من القداسة، يواجه “الشيطان الأكبر” و”الإمبريالية والاستكبار العالمي”، انغمس في شبابه بالأيديولوجيات المناهضة للغرب والمعادية للاستعمار في أوج صعود اليسار و”الحركات الإسلامية السياسية” في العالم العربي القريب.
إنه علي خامنئي الرجل الذي تهدده الولايات المتحدة وإسرائيل، وخاض في دماء السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين محتلاً عبر حرسه الثوري 4 من عواصمهم، واضعاً الإيرانيين في مواجهة العرب ومتحكماً في قرار الملايين من المسلمين الشيعة، في مشروع إيراني مشبع بأحلام الإمبراطورية الفارسية الغارقة في التاريخ ونظرة إلى عرش كسرى وعهود الشاهنشاهية وغيرها من الإرث الذي تحمله إيران في موقعها الجغرافي وأثرها الإقليمي والدولي.
في هذه المادة سنمر على سيرة حياة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية أو القائد الفعلي للبلاد، وزعيم ما يعرف بـ “محور المقاومة والممانعة”، وأحد أكثر الشخصيات المحورية التي يتم الحديث عنها في الصراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وما نتج عنه بعد عملية “طوفان الأقصى” (بتاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، من دمار لقطاع غزة المحاصر وإنهاء قوة حركتي المقاومة الفلسطينية “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، والقضاء على قوة حزب الله في لبنان مع اغتيال زعيمه حسن نصر الله وكبار القيادات فيه، وسقوط نظام بشار الأسد على يد قوات ردع العدوان وانتهاء نفوذ إيران في سوريا، وما جرى مؤخراً من الهجوم الإسرائيلي على الأراضي الإيرانية واغتيال كبار القيادات العسكرية وضرب معظم المنشآت النووية وتهديد خامنئي نفسه.
إيراني من أصول أذرية
بعد أيام من اندلاع الحرب العالمية الثانية في أيلول عام 1939، ولد علي جواد حسيني خامنئي في مدينة مشهد عاصمة إقليم خراسان، شمال شرقي إيران، في أسرة فقيرة تشتهر بالعلم الشرعي والأدب، ذلك الأقليم الذي يعد منبت اللغة الفارسية وحاضرة أبرز الشعراء والأدباء الفرس.
اللافت أن علي خامنئي ليس من أصول إيرانية فارسية، إنما والده تركي أذري هاجر من تبريز إلى مشهد، ولهذا السبب يتقن علي خامنئي اللغة التركية جيداً، (وهناك أفلام تظهره ينشد الشعر ويقرأ المراثي لضحايا واقعة كربلاء بالتركية)، وكان جده من العلماء الشيعة الأذريين في النجف أهم حوزة علمية للمسلمين الشيعة في العالم.
أمه هي ابنة سيد هاشم نجف آبادي، أحد علماء مشهد المعروفين أيام الدولة الصفوية، وكانت والدته عالمة بمبادئ القضاء الديني وحافظة للقرآن الكريم.
أبوه عاد للدراسة في الحوزة العلمية بمدينة النجف مرة أخرى، قبل أن ينتقل إلى مدينة مشهد كي يستقر فيها ويكون إمام مسجد كوهرشاد.
لفتت بعد المصادر غير الرسمية إلى أن علي خامنئي (وكل من يرتدي عمامة سوداء بالمذهب الإثنا عشري الشيعي) منسوباً لآل بيت الرسول محمد ﷺ من حفيده الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو ما يعني أنه عربي الأصل وليس أذري؛ إلا أن الموقع الرسمي لم يشر لذلك.
يعد خامنئي الولد الثاني بين 8 إخوة، ثلاثة منهم، علماء متخصصون في العلوم الشرعية الإسلامية وفق المذهب الشيعي إلا أنه – أي خامنئي- لم يصل لرتبة مرجع.
في عام 1964 التقى للمرة الأولى بـ منصورة خوجاستي باقرزاده التي تزوجها فيما بعد وأنجب منها 6 أبناء هم “مصطفى ومجتبى ومسعود وميثم وبشرى وهدى”.
الغليون والأدب العالمي وتأثره بسيد قطب
التحق علي منذ طفولته بحلقات تعليم القرآن في الكتاتيب، ثم أتمّ دراسته الابتدائية، وانتقل إلى مدارس دينية تلقى فيها علوم اللغة العربية والمنطق والفقه والأصول والفلسفة على يد علماء مثل هاشم قزويني وجواد طهراني وأحمد مدرس يزدي، منهياً مرحلة “السطح”.
في سن 16، بدأ بتلقي دروس الخارج، أي أعلى مراحل الدراسة الدينية الشيعية، لدى المرجع محمد هادي الميلاني. لاحقاً، زار العتبات الدينية في العراق، لكنه عاد إلى إيران بناءً على طلب والده.
وكان أول لقاء له بالخميني عام 1957 في كربلاء، قبل أن يتوطد ارتباطه الفكري به خلال دراستهما في قم عام 1958، إذ تشاركا السكن لفترة من الزمن، هذه الشراكة امتدت طويلاً ومكنته من البقاء على يمين الخميني حتى وفاته.
وفي قم تابع دراسته على يد المراجع مثل حسين البروجردي، محمد حسين الطباطبائي، وغيرهم، حتى عام 1964 حيث قطعها للعودة للعناية بوالده الذي فقد بصره، مخالفاً كبار أساتذته في قم.
ويقول خامنئي في مذكراته “إن السجين محيي الدين آل ناصر كان يعلمه الإنجليزية في سجن قزل في طهران أوائل الستينيات من القرن الماضي، وتعرف على الشعر الشعبي الأحوازي من سجين آخر اسمه سيد باقر النزاري، وقد أصدرت سلطات نظام الشاه حكم الإعدام بحق محيي الدين آل ناصر وعيسى المذخور ودهراب أشميل الذين كانوا معتقلين مع خامنئي بتهمة تأسيس تنظيم يعرف باسم حركة تحرير عربستان، وتم تنفيذ حكم الإعدام بحقهم في مدينة الأحواز عام 1964.
الصحافي والناقد السينمائي هوشانج أسدي الذي كان معتقلاً مع خامنئي في زنزانة واحدة زمن الشاه، “أنه كان نحيفاً مرحاً ثرثاراً يمقت بعض الروائيين الإيرانيين الذين ينعتهم بالعبثيين، ويحبذ الشاعرين الخراسانيين أخوان ثالث وشفيعي كدكني”.
وقال هوشانج أسدي في مذكراته “أن خامنئي قال له ذات مرة في السجن الانفرادي إنه إذا وصل الإسلام إلى السلطة فلن تذرف عيون المظلومين الدموع”، وأخبرني مُنظّر الحركة الإصلاحية سعيد حجاريان الذي كان نائباً لوزارة الاستخبارات الإيرانية في فترة رئاسة خامنئي للبلاد، “أنه ذات مرة دخل عليه في مكتبه الرئاسي ورآه يقرأ كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بالعربية”.
ويقول الصحفي العربي الأهوازي يوسف عزيزي: “تزامنت فترة شباب علي خامنئي مع بدايات نشاط المفكر الديني علي شريعتي هناك، إذ اختلط مع شعراء ومثقفين علمانيين ودخن الغليون وعزف الكمان، وقد ترك الدراسة في الصف الثامن للثانوية والتحق بالحوزة الدينية بمشهد والنجف وقم، وإثر ذلك تطورت لغته العربية وتعرف على الأدب العربي وشغف بقصائد الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري”.
وعن الأدب العالمي “قرأ خامنئي من فيكتور هوغو وليون تولستوي وميخائيل شولوخوف، كما أنه، وهو المعروف باحترافه قراءة الروايات، يفضل الروائي اليساري أحمد محمود على سائر الروائيين الإيرانيين”.
حصل خامنئي على رتبة الاجتهاد في الفقه الشيعي من آية الله العظمى الحائري عام 1974، وبدأ التأليف منذ عام 1963، حيث كتب العشرات من الكتب ونقل بعض كتب سيد قطب الذي تأثر به من العربية إلى الفارسية مثل: “المستقبل لهذا الدين” و”بيان ضد الحضارة الغربية” وتفسير “في ظلال القرآن”، وهي الكتب التي تأثر بها الخميني كذلك الأمر.
في وجه الشاه
لم تكن الثورة الإيرانية حدثاً عارضاً في حياة علي خامنئي فقد انضم إلى صفوف المعارضة الإيرانية منذ شبابه، حيث سعى رضا شاه، الذي تأثر بتجربة كمال أتاتورك، إلى تحديث إيران عبر برنامج إصلاحي شامل شمل التعليم والقضاء والعسكر، محاولاً تحويل البلاد إلى جمهورية قبل أن ترفض المؤسسة الدينية ذلك، فنُصّب ملكاً عام 1926 مؤسساً لسلالة “بهلوي”.
ركّز على تقوية الجيش والانضباط، ومنع الأحزاب والصحف، وفرض السفور على النساء واللباس الغربي على الرجال، كما غيّر اسم البلاد من “بلاد فارس” إلى “إيران” عام 1935، في محاولة لربطها بالتحديث والتقدم، ولم يكن ابنه الذي خلفه بانقلاب بريطاني أبيض محمد رضا بهلوي سوى أشد بطشاً وملاحقه لمعارضيه.
في هذه الأجواء بدأت معارضة علي خامنئي للحكم في إيران مع معلمه الأبرز روح الله الخميني، وانخرط في كل التنظيمات المناوئة لنظام الشاه بما في ذلك المسلحة، ما أدى إلى اعتقاله ست مرات خلال الفترة 1962-1975.
وتلخصت أهم إسهاماته السياسية في إنشاء “الحزب الجمهوري الإسلامي الإيراني” بالتعاون مع نخبة من رجال الدين ورفاق دربه من أمثال “محمد بهشتي ومحمد جواد باهنر وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني وموسوي أردبيلي” (كانوا جميعاً يتبعون للخميني) في آذار من عام 1978 قبل أشهر من اندلاع الثورة ما أدى لنفيه إلى إيرانشهر.
من الثورة إلى ولاية الفقيه
في كانون الثاني 1979 فر شاه إيران تاركاً خلفه البلاد تحت قبضة الثائرين الذين ملؤوا الشوارع والساحات، فأصبح الطريق ممهداً أمام عودة الخميني إلى الوطن وكان في مقدمة مستقبليه علي خامنئي الذي تولى سلسلة من المناصب خلال أعوام قليلة في فترة تأسيس “الجمهورية الإسلامية” والتي لم تلبث أن دخلت في حرب طويلة مع العراق.
وتحت قيادة الخميني الذي تخلص من أبرز خصومه في السياسيين من مختلف المشارب والألوان بما في ذلك بعض الحلفاء مؤسساً لنظام سياسي معقد يدور كله حول فلكه.
تعرض خامنئي لمحاولة اغتيال عام 1981 أثناء إلقائه خطاباً في مسجد أبي ذر بجنوب طهران، حيث انفجرت قنبلة مخبأة في جهاز تسجيل على المنبر، ما أدى إلى إصابته إصابات بالغة، شملت كسر عظم الترقوة وقطع الأعصاب في يده اليمنى التي أصيبت بالشلل. وفي أعقاب الحادث، بعث إليه الخميني برسالة يثني فيها على خدمته للإسلام ومشاركته في الحرب رغم زيّه الديني، ودعا له بالشفاء ومواصلة خدمته للشعب.
قبل أن يصل إلى “العرش” أو دفة القيادة التي تشمل “ولي الفقيه (الغائب) وارث النبوة وظل الله في الأرض”. شغل خامنئي كلاً من:
1979: معاون شؤون الثورة في وزارة الدفاع.
1979: قائد الحرس الثوري الإيراني.
1979: عضو مجلس شورى الثورة الإسلامية بأمر من الخميني.
1980: إمام جمعة طهران بعد وفاة آية الله طالقاني.
1980: ممثل الخميني في مجلس الدفاع الأعلى خلال الحرب مع العراق.
1981: انتُخب رئيساً للجمهورية الإسلامية (الرئيس الثالث)، بعد مقتل رجائي وباهنر.
1981: رئيس المجلس الأعلى للثورة الثقافية.
1985: أُعيد انتخابه رئيساً للجمهورية لفترة ثانية.
1987: رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام.
1989: رئيس شورى إعادة النظر في الدستور.
1989: انتُخب قائداً للجمهورية الإسلامية بعد وفاة الخميني.
في 4 حزيران 1989، بعد وفاة الخميني بيوم واحد، اجتمع أعضاء مجلس خبراء القيادة، واختاروا علي خامنئي ليكون خليفة الخميني في منصب يبدو أنه لم يكن على مقاسه ولا يحمل كاريزما وتأثير الخميني، وهو ما يثبته مقطع مسرب يعيد عقارب الساعة إلى ذلك الوقت.
وقف علي خامنئي أمام مجلس خبراء القيادة ليعبر عن عدم رغبته في تولي منصب المرشد الأعلى، قائلاً: “يجب أن نبكي دماً على مجتمع إسلامي يختار أمثالي لقيادته”. ورغم ما بدا أنه تحفظ منه، مضى التصويت قُدماً، مدعوماً بشكل أساسي من حليفه آنذاك، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي رفض فكرة تشكيل لجنة مؤقتة لإدارة البلاد (وفق وصية الخميني)، وأصر على اختيار مرشد جديد فرد فوراً. وهكذا، تم تعيين خامنئي مرشداً مؤقتاً لعام واحد، ريثما يُجرى استفتاء حول تعديل دستوري لتحديد شروط المنصب.
لكن ذلك الاستفتاء لم يُعقد قط، وبمرور الوقت، أشرف خامنئي على تعديل الدستور بما يسمح له بالبقاء في المنصب بشكل دائم. أما تحالفه مع رفسنجاني، فلم يدم طويلاً. فالرجلان، اللذان ظهرا بداية في معسكر اليمين داخل النظام الإيراني بعد وفاة الخميني، بدا أنهما يسعيان معاً إلى كسب نفوذ على حساب التيار اليساري. لكن خامنئي، الذي كان يُنظر إليه في البداية كشخصية أضعف، وجد في المنصب فرصة لم يحسب لها حساباً. أما رفسنجاني، فقد رأى في خامنئي أداة مضمونة لن تمرّ عبرها معارضته لخطته الكبرى: بناء اقتصاد حر ودولة أكثر انفتاحاً، مع الإبقاء على الحكم الديني، وهنا نجح خامنئي ولم يفلح رفسنجاني فيما أبدت قابلات الأيام.
“معجزة طبس”
كان خامنئي من الشخصيات الرئيسية في أزمة السفارة الأميريكية بطهران، إذ دعم عملية اقتحامها من قبل الطلاب الثوريين، التي أسفرت عن احتجاز 52 دبلوماسياً أميركياً مدة 444 يوماً.
في نيسان عام 1980 وقف علي خامنئي عند أطلال طائرة محطمة في صحراء طبس الإيرانية، مؤكداً حصول معجزة سماوية تدعمهم، فقد فشلت عملية مخلب النسر التي نفذتها القوات الأميركية بجانب القوات الخاصة في 25 نيسان 1980 في تحرير الرهائن الأميركيين، بسبب عاصفة رملية مفاجئة واجهت منفذي العملية ما أدى إلى تدمير طائرتين ومقتل ثمانية جنود في صحراء طبس شمال شرقي إيران.
دان الخميني إدارة جيمي كارتر في خطابه بعد وقوع حادثة طبس، قائلاً: “إن الله قد انعم على الحكومة الإسلامية بمعجزة العاصفة الرملية”.
تصدير الثورة واختراع الميليشيا
لم تُخفِ قيادة الجمهورية الجديدة نيتها في “تصدير الثورة” إلى خارج حدودها. فقد اعتبر الخميني أن هذه الثورة ليست شأناً إيرانياً محضاً، بل “رسالة عالمية” موجهة إلى شعوب الأمة الإسلامية، وخصوصاً ما اعتبر أنها الفئات الشيعية المهمّشة في دول الجوار. وقد وجد هذا الطموح حواضن طبيعية في كل من العراق ولبنان والبحرين واليمن، حيث تتواجد مجتمعات شيعية ذات ارتباطات مذهبية وتاريخية مع المراكز الدينية في إيران، وعلى رأسها مدينة قم.
لكن ما بدأ كأطروحة عقائدية طوباوية، تحوّل لاحقاً إلى مشروع سياسي واستراتيجي متكامل في عهد المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي تولّى السلطة بعد وفاة الخميني عام 1989. فقد عكف خامنئي – وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود – على تحويل فكرة “تصدير الثورة” إلى خطة جيوسياسية منظمة، عبر بناء شبكات نفوذ عابرة للحدود تشمل جماعات مسلحة وواجهات سياسية وحركات دينية موالية لولاية الفقيه.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن ولاية خامنئي لم تقتصر على إدارة إيران كدولة، بل كمركز لإمبراطورية عقائدية-أمنية ناشئة، تسعى لبسط نفوذها في الإقليم من خلال أدوات غير تقليدية. وقد ساعده في ذلك جهاز حرس الثورة الإسلامية (الحرس الثوري)، الذي بات يشكّل الذراع الخارجية الأقوى للسياسة الإيرانية، ويقود العمليات العسكرية والمخابراتية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها، إضافة إلى دوره الاقتصادي الهائل داخل إيران.
وفي سياق ذلك، دعمت إيران تأسيس حزب الله اللبناني عام 1982 بدعم مباشر من الحرس الثوري، على خلفية الغزو الإسرائيلي للبنان، وقد تبنّى منذ نشأته منهج ولاية الفقيه بوصفها المرجعية الدينية والسياسية.
تلقّى الحزب تمويلاً وتسليحاً وتدريباً إيرانياً دائماً، وجرى بناؤه كمشروع طويل الأمد لـ”مقاومة إسرائيل” ولكن أيضاً كذراع عسكري وسياسي لإيران في المشرق العربي، خصوصاً في ظل العلاقة القوية بين زعيمه حسن نصر الله وعلي خامنئي.
تحول الحزب لاحقاً إلى قوة تغولت على الدولة اللبنانية وسيطر على قرارها بشكل شبه كامل، شارك في عدة معارك ضد إسرائيل منها حرب تموز 2006 التي ابتدأها الحزب، ثم خاض أكبر معاركه في سوريا واليمن والعراق بناءً على التوجيهات الإيرانية، ما جعل منه أداة استراتيجية في تنفيذ مشاريع طهران العسكرية والسياسية.
وفي بعد معركة طوفان الأقصى التي اشترك فيها الحزب بوتيرة متصاعدة ضمن ما عُرف بوحدة الساحات، تمكن الاحتلال الإسرائيلي من اغتيال معظم قيادات الصف الأول والثاني وفرض وقف إطلاق نار ضمن شروطه، الأمر الذي أنهى فاعلية الحزب في لبنان والمنطقة.
ولم تكن الميليشيات العراقية سوى استكمالاً لدور حزب الله اللبناني، حيث أسست إيران منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 فصائل شيعية مسلحة مثل “كتائب حزب الله، عصائب أهل الحق، منظمة بدر، النجباء، وغيرها” من الفصائل المرتبطة عقائدياً بولاية الفقيه.
هذه الجماعات تم تدريبها وتسليحها وتمويلها من قبل إيران، وتستخدم اليوم كأدوات للنفوذ السياسي والعسكري في العراق، وقد لعبت دوراً محورياً في مواجهة الاحتلال الأمريكي، ثم في الحرب على تنظيم الدولة (داعش)، ولاحقاً في قمع الحراك الشعبي العراقي.
كما شاركت بعض هذه المليشيات في القتال إلى جانب النظام السوري ودعم الحوثيين في اليمن، في إطار استراتيجية محور المقاومة الذي تقوده طهران.
خامنئي وحركات المقاومة
لا شك أن إيران بعهد خامنئي دعمت فصائل “المقاومة الفلسطينية”، وكان ذلك جزءاً أساسياً من استراتيجية إيران الإقليمية، لكنه لم يكن دعماً نابعاً فقط من مبدأ “نصرة القضية الفلسطينية” لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي كما تروج الأدبيات الإيرانية، بل جاء هذا الدعم ضمن رؤية أوسع لتوسيع النفوذ الإيراني وبناء أوراق ضغط فعّالة في الصراع مع إسرائيل والولايات المتحدة، وكذلك للتأثير على القرار الفلسطيني الداخلي والإقليمي، مع الحديث واسعاً عن تمكن “حماس” بالذات من استقلالية قرارها بالعديد من الملفات.
فمنذ تسلّمه منصب المرشد عام 1989، تبنّى خامنئي نهجاً داعماً للفصائل التي تتقاطع مع الأجندة الإيرانية في رفض التسوية مع إسرائيل، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، حيث قُدّمت لهذه الفصائل دعم مالي وعسكري وتقني واستخباراتي، بل جرى تدريب عناصرها في إيران وسوريا ولبنان على يد خبراء من الحرس الثوري، خصوصاً فيلق القدس.
لكن هذا الدعم لم يكن دون ثمن. إذ سعت إيران إلى ربط قرار هذه الفصائل بمحورها الإقليمي، وهو ما ظهر بوضوح في مواقف بعض الفصائل تجاه القضايا الإقليمية، خصوصاً أثناء الثورة السورية، حين انقسمت حماس ما بين جناحها القيادي المقيم في دمشق، وجناحها الشعبي المتعاطف مع الحراك الشعبي ضد نظام الأسد، حليف إيران الأقرب، وفضلت مغادرة سوريا على أن تنحاز لجانب النظام رغم ما حمله ذلك من ضغوط إيراني على قيادتها.
باختصار، فإن دعم خامنئي للمقاومة الفلسطينية لم يكن مجرد تضامن عقائدي أو قومي، بل أداة استراتيجية ضمن مشروع “محور المقاومة” الذي تستخدمه طهران للتمدد في المشرق العربي، وتثبيت نفوذها السياسي والعسكري في القضايا الكبرى، وعلى رأسها قضية فلسطين.
من رفاق السجن إلى الثورة الخضراء
كان خامنئي نفسه من ضحايا بطش الشاه، وقد سُجن وتعرض للتضييق في سنوات ما قبل الثورة، إلى جانب الأحوازيين والبلوش واليساريين. لكن المفارقة المأساوية أنه، بعد أن تسلم الرئاسة ومن ثم ولاية الفقيه، نسي أو تناسى هذه التجربة، وانقلب على شركائه في النضال، وبدأ ببناء دولة تقوم على تصفية كل من يخالفه أو يعارض رؤيته “الأوتوبية” للجمهورية الإسلامية.
وفي صيف عام 1988، إبان تسلمه منصب رئاسة الجمهورية، وقعت واحدة من أكثر الجرائم دموية في تاريخ إيران المعاصر، حيث أُعدم ما يقارب 5000 سجين سياسي من أعضاء منظمة مجاهدي خلق والأحزاب اليسارية، كانوا يقضون فترات اعتقالهم داخل السجون الإيرانية. هذه الجريمة الدموية كانت تتويجاً لانقلاب الدولة الثورية على المبادئ التي نادت بها في بداية الثورة.
في عام 1992، اتهمت محكمة ألمانية خامنئي ومسؤولين إيرانيين آخرين بالتورط في اغتيال زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني صادق شرفكندي في برلين. وفي 1994، اتُّهم بالضلوع في تفجير مركز “آميا” اليهودي في الأرجنتين، والذي أودى بحياة 85 شخصاً، بحسب شهادة منشق عن وزارة الاستخبارات الإيرانية.
ولعل أبرز وجه سلطوي لخامنئي ظهر جلياً في قمع الحركة الإصلاحية وثورة 2009 (الثورة الخضراء)، وكذلك في احتجاجات 2017 و2019، حيث واجه المتظاهرون السلميون رصاص الحرس الثوري والسجون والتعذيب.
في مواجهة السوريين
في عام 2011، انطلقت ثورات التغيير في العالم العربي، ساندت إيران معظم الثورات، خصوصاً في مصر والبحرين، وعندما وصل الأمر إلى سوريا، وقفت بقوة إلى جانب نظام بشار الأسد، وقدمت له دعماً سياسياً ولوجستياً واستخبارياً وعسكرياً ومالياً، شمل تدريب وتسليح عشرات آلاف المقاتلين من فصائل عراقية وأفغانية مثل “فاطميون” و”زينبيون” و”أبو الفضل العباس” وغيرها أيضاً عبر أنظمة الاحتياط المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس.
دخل حزب الله اللبناني الأراضي السورية لدعم نظام الأسد بآلاف المقاتلين الذين ساعدوا على منع سقوط دمشق والحفاظ على خطوط الإمداد الإستراتيجية لإيران نحو لبنان وهجروا سكان العشرات من المدن والقرى وحاصروا أخرى مع رفع شعارات طائفية.
مثّل النظام السوري خلال تلك الفترة معبراً مركزياً لإيران لتزويد حلفائها مثل حزب الله بحاجاتهم من الأسلحة والمعدات العسكرية والدعم الفني واللوجستي عبر سوريا إلى لبنان، وكانت إسرائيل قد غضت الطرف عن ذلك التدخل مستفيدة من الاختراق الاستخباري لإيران وحزب الله وهو ما ظهر في واقعة تفجير أجهزة البيجر واغتيال أبرز قيادات حزب الله وإيران.
وفي عام 2016، وصف مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي القتال الدائر في سوريا بأنه “حرب الإسلام على الكفر”، مشيراً إلى أن ما نعته بباب الشهادة قد فُتح من جديد.
وجاءت تصريحات خامنئي على لسان الأمين العام لـمجلس صيانة الدستور أحمد جنتي في كلمة له خلال حفل تأبين 46 عسكرياً إيرانا قتلوا خلال الاشتباكات بين قوات النظام السوري وفصائل الثوار، بحسب وكالة فارس الإيرانية.
ونقل جنتي عن خامنئي قوله “إذا لم يذهب الشباب للقتال في سوريا وإذا لم يقاتلوا هناك فإن العدو سيهاجم إيران وسيستهدف مدينة كرمانشاه وغيرها من المناطق الحدودية”.
وأضاف خامنئي أن “باب الشهادة الذي أغلق بانتهاء الحرب الإيرانية العراقية فتح مجددا في سوريا، وأن الشباب طلبوا بإصرار السماح لهم بالذهاب إلى جبهات القتال حيث يقاتل الإسلام فيها الكفر كما كان أيام الحرب الإيرانية العراقية”.
في 27 تشرين الأول 2024، انطلقت عملية ردع العدوان ضد نظام الأسد وداعميه، وفي 11 يوماً تمكنت من إسقاط النظام وهرب بشار الأسد إلى روسيا، وبدأ فصلاً جديداً في سوريا انتهى فيه النفوذ الإيراني، وبعد أيام من سقوط النظام، قال المرشد علي خامنئي، إنه يمتلك أدلة لا تقبل الشك في أن ما حصل في سوريا تم التخطيط له في غرفة عمليات أميركية وإسرائيلية، دون أن يقدم دليلاً على ذلك، مؤكداً أن المقاومة لم تضعف.
واتهم خامنئي دولة جارة لسوريا لم يسمها (في إشارة لتركيا)، بأنها لعبت دوراً واضحاً في إسقاط نظام بشار الأسد، وقال إنها تواصل العمل في ذلك.
ما بعد طوفان الأقصى ليس كما قبله
فاجئت حركة حماس إيران بقيادة خامنئي قبل إسرائيل في شنها لعملية طوفان الأقصى، فقد عمل قائد العملية يحيى السنوار ومعه قادة كتائب عز الدين القسام على تنفيذ عملية خاطفة قلبت كل المعادلات في فلسطين والمنطقة.
فقد عمل الاحتلال الإسرائيلي على مواجهة مفتوحة مع فصائل المقاومة وكل ما له صلة بإيران، عمل على تدمير غزة على رؤوس ساكنيها واغتيال عدد كبير من قياداتها وفي مقدمتهم قائد الحركة إسماعيل هنية الذي اغتيل في طهران ومن قبل نائبه صالح العاروري في بيروت، ثم مصادفة قائد حماس الجديد يحيى السنوار.
وفي التزامن مع عدوان إسرائيل على غزة، شنت هجوماً عسكرياً متزامناً على حزب الله في لبنان، أفقدته الفاعلية، ما جعل إيران تفقد أبرز خطوط نفوذها الاستراتيجي والتي ساهمت إلى حد كبير في إنهاء وجود نظام الأسد مع الاستهداف المستمر لقيادات طهران
في حزيران 2025 بدأت إسرائيل سلسلة من الضربات الجوية، استهدفت مواقع عسكرية ونشاطات نووية، مما أدى إلى مقتل كبار القادة العسكريين في إيران وعدد من كبار العلماء النوويين، شملت كذلك تهديداً للمرشد علي خامنئي.
أسفرت الضربات الإسرائيلية عن خسائر في البنية العسكرية والأمنية، وزاد بالتالي التأثيرات الأمنية والاستراتيجية على طهران التي ردت بقصف مئات الصواريخ والمسيرات على إسرائيل ما أحدث أضراراً في العديد من الأبنية بتل أبيب وحيفا قليل من الخسائر البشرية.
ما بعد 7 تشرين الأول وضع إيران عند مفترق طرق: خسرت أدواتها ونفوذها الإقليمي، تدفع ثمن دعمها العسكري، من الداخل والخارج، وتواجه تحدياً صعباً يتمثل في التوازن بين الاستمرار في المواجهة أو البحث عن بدائل تحافظ بها على الدولة.
هل خدع ترامب خامنئي؟
منذ وصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة في 2017، عمل على إعادة ترتيب العلاقات الأميركية مع إيران، في نسف لخطة أوباما الذي تمكن من توقيع اتفاق نووي مع طهران عام 2015، فقد انسحب ترامب من الاتفاق النووي (مايو 2018)، وتبنّى سياسة “الضغط الأقصى”، عبر:
فرض عقوبات ساحقة على الاقتصاد الإيراني، وأبقى خيار المفاوضات مفتوحاً أمام طهران، لكنه ربطه بوقف تمويل “الميليشيات” و”الصواريخ الباليستية”.
من جانبه، رفض خامنئي علناً التفاوض، خصوصاً بعد اغتيال قاسم سليماني (كانون الأول 2020)، تلتها هجمات سيبرانية وعمليات تخريبية ضد منشآت نووية (مثل نطنز) في خضم الحديث عن “احتمالات الاتفاق”، كما جرى استهداف واسع للبنية التحتية للحرس الثوري وفيلق القدس في سوريا.
ثم عاد خامنئي لتحسين وضعه في فترة إدارة الرئيس جو بايدن عبر العديد من المكاسب وتخفيف العقوبات، لكن تقارير استخباراتية أميركية وأوروبية أشارت إلى أن قنوات خلفية فتحت فعلياً في سلطنة عُمان قبيل عودة ترامب إلى الرئاسة (2025)، وسُرّبت معلومات جزئية للجانب الإيراني، وهو ما أغراهم بفكرة أن “ترامب يريد صفقة بأي ثمن قبل الانتخابات”.
ومؤخراً ظهر ترامب بمثابة من يريد التفاوض الجدي مع إيران بناء على شروطه، وأظهر للجميع أنه على علاقة سيئة مع نتنياهو، ما دفع الإيرانيين لرفع سقف المفاوضات، بالوقت الذي كان البيت الأبيض ينسق مع نتنياهو الهجمات الأخيرة على إيران.
هل من عداء بين ترامب وخامنئي؟
من المهم الإشارة إلى أن ترامب وإسرائيل قد هددوا المرشد الأعلى بالاغتيال، ربما بمحاولة للضغط عليه للتوقيع على اتفاق هزيمة مذل لطهران، خصوصاً أن ترامب لديه موقف شخصي له صلة بمحاولة اغتياله الأخيرة قبل انتخابه في 13 تموز 2024.
ترامب الشخصية التي تعتمد في الكثير من القرارات على قراءات شخصية، رغم دور المؤسسات الأميركية، إلا أن الكثير من المحللين يعتقدون أنه لا يمكن توقع قراراته.
وفي نيسان الماضي، هاجمت صحيفة “كيهان” الإيرانية، التابعة لمكتب المرشد علي خامنئي، الرئيسَ ترامب، وهدّدته صراحة بالقتل، وذلك رداً على تهديداته الأخيرة بمهاجمة إيران.
وكتبت “كيهان”: “ترامب تفوّه بحماقة كبيرة! وقد لا يطول الأمر حتى تُطلق بضع رصاصات على جمجمته الفارغة، ليلقى حتفه جزاءً لدماء الشهيد قاسم سليماني!”.
وكان قائد القوة الجو-فضائية في الحرس الثوري، أمير علي حاجي زاده، قد قال في شباط 2023: “نسعى إن شاء الله لقتل ترامب وبومبيو”.
إلا أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، وبعد محاولة الاغتيال التي استهدفت ترامب، قال في تموز 2024 “إيران تتابع ملاحقة ترامب قضائياً، لكنها تنفي بشدة أي دور لها في الهجوم المسلح الأخير عليه”.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية