جدول المحتويات
«نبض الخليج»
بعد مرور عقد ونيف عليهم في المنافي، أصبح السوريون الذين انتشروا في بقاع العالم يطرحون على أنفسهم ذلك السؤال الذي لم يكن وارداً طرحه قبل الآن، ألا وهو: هل آن أوان العودة إلى الوطن أخيراً؟
عندما اندلعت الحرب السورية في عام 2011، غادر الملايين سوريا، فلم تستوعبهم أي دولة كما استوعبتهم الجارة تركيا التي فتحت أبوابها لنحو ثلاثة ملايين سوري وفقاً لما أحصته وكالة اللاجئين الأممية.
غير أن الترحيب باللاجئين السوريين تراجع في تركيا، إذ خلال السنوات القليلة الماضية، أعرب أغلب السوريين عن ازدياد إحساسهم بالنبذ في المجتمع التركي، وأنحوا باللائمة على المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها البلد والتي تحولوا بسببها إلى كبش فداء في الخطاب السياسي.
ومع ذلك، ظل كثير من السوريين في تركيا، رغبة منهم بالبقاء قريبين من بلدهم، في حين رأى آخرون أن عليهم ألا يطيلوا أمد لجوئهم في هذا البلد.
تحولت بضعة أسابيع من الانتظار إلى أشهر، ثم استحالت إلى سنوات، وخلال مرحلة من المراحل غدت فكرة العودة إلى سوريا مستحيلة.
إلا أن كل ذلك تغير في كانون الأول من عام 2024، وذلك عند سقوط الرئيس السابق بشار الأسد، بعد مرور 24 سنة على حكمه، فقد انهار نظامه في غضون أيام، وفتح الباب أمام حقبة جديدة للسوريين.
والآن، وبعد تبوّء الحكومة الانتقالية للسلطة، تحركت الآمال، وكذلك المخاوف، فعاد أكثر من نصف مليون سوري إلى بلدهم وفقاً لإحصائيات وكالة اللاجئين الأممية، على الرغم من أن العودة لا يمكن أن تتم بلا اتخاذ قرار مصيري.
خلال الأشهر الماضية اندلع العنف الطائفي في سوريا، وبدأت عملية رفع العقوبات بما يعيد ربط سوريا بالاقتصاد العالمي، غير أن الطرقات وخطوط السكك الحديدية والبيوت ما تزال مدمرة، كما أن سنوات النزاع دمرت الخدمات الأساسية، إذ ما تزال الكهرباء والماء تصلان بصورة متقطعة في كثير من المناطق، وما يزال الشك يحيط بالرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع الذي ارتبط في السابق بتنظيم القاعدة.
إذن، كيف يقدر السوريون مخاطر العودة؟ وهل بوسع الوطن أن يكون وطناً حقاً بعد كل هذا الخراب؟ وبعد تعرض الأهل والأصدقاء للتعذيب والقتل؟ وبعد نهب بيوت الطفولة وتدميرها؟
بالحديث إلى أربعة سوريين وعائلاتهم المقيمة في الجنوب التركي، تبين أن كل واحد منهم يقف على مفترق طرق، إذ بعد أن يترك المرء حياة أسسها في مكان ما، هل يصبح مستعداً لتكرار تلك التجربة؟
“أحلامك مجرد أحلام”
كشاعر يتحدث أدهم الجاموس عن تجربته، وهو طالب اقتصاد، 32 عاماً، فيقول: “حتى الأشياء التي تكرهها عندما تجبر على مغادرة وطنك ستحبها وتشتاق إليها”.
من السطح الذي يقيم فيه برفقة أبويه بمدينة غازي عنتاب القريبة من الحدود السورية، يخرج أدهم من كيس صور قديمة للعائلة، وهي من الأشياء القليلة التي حملتها الأسرة معها عند نزوحها من سوريا في عام 2014.
تظهر الصور أمسيات اجتمعت فيها الأسرة حول مائدة عامرة بالطعام، تلك الذكريات التي تصبح أحلى في المنفى على حد تعبير أدهم.
صور أدهم في سوريا حينما كان طفلاً
وصلت الأسرة إلى تركيا بعد أن استهدف نظام الأسد تمام الشقيق الأكبر لأدهم، وذلك على خلفية إدارته لمنظمة إنسانية في العاصمة السورية، وفي تلك الفترة، ظنت الأسرة أنها ستبقى في عنتاب لبضعة أسابيع فحسب، وكان ذلك قبل 11 عاماً من الآن.
ما يزال أمام أدهم سنة دراسية واحدة حتى يحصل على شهادة الماجستير من جامعة غازي عنتاب، لكنه يخبرنا بأن السؤال الذي كان يسأله لنفسه وهو: هل سأعود إلى سوريا؟ قد تغير، وأصبح اليوم: كيف سأعود؟ وكم ستكلفني العودة؟
يعلق على ذلك بقوله: “عندما تصبح الظروف مناسبة ستكون هنالك عودة للوطن إن شاء الله”.
بيد أن كلمة “مناسبة” تشير إلى معيار عال، وذلك لأن المدن مدمرة، والبنية التحتية محطمة، وما يزال الاقتصاد يعاني من أزمة في الوقت الذي تعمل الولايات المتحدة وأوروبا على رفع معظم العقوبات المفروضة على سوريا.
كما أن شخصية الرئيس الشرع لن تتكشف خلال الشهور، بل السنين المقبلة، ومع ذلك، فإن كل تلك الأمور لا تقف في طريق أدهم الذي يقول: “عندما كان النظام [البائد] يسيطر، كنت على استعداد للسير خلف الشيطان إن كان ذلك سيفضي إلى إسقاطه، لأن ذلك النظام كان أسوأ من الشيطان نفسه”.
وهذا يعني أنه على استعداد لمنح الشرع فرصة، ولكن عندما سئل عن تفاصيل الأمر، اعترف بأنه لم يخطط بعد للعودة بشكل واضح، ثم نظر إلى قدميه وكشف بهدوء عن أكبر مخاوفه، وهي العودة إلى وطن بالكاد يعرف معالمه، وعن ذلك يقول: “في بعض الأحيان أجلس وأحاول أن أفكر فيمن بقي في سوريا، إذ حرفياً لم يبق أحد من أصدقائي، كما أنني لا أعرف أحداً هناك، ولهذا فإن ذلك سيشكل معضلة كبيرة بالنسبة لي في حال عودتي، لأن أحلامك هي مجرد أحلام”.
العيش من الأشباح
في بقعة أخرى من غازي عنتاب، يحاول زوج الإجابة عن أسئلة مماثلة برفقة زوجته، وكلاهما يحملان ذكريات عن الحرب، وعلاقة تشكلت في ظل مقاومتها.
التقت بشرى عجاج وحسن عجم، وكلاهما في الخامسة والثلاثين من العمر، خلال الأيام الأولى للثورة، إذ كانت بشرى وقتئذ طالبة جامعية تعمل على تنظيم المظاهرات، أما حسن فقد كان عضواً في تلك الشبكة السرية، وكلاهما يحمل الرسالة نفسها، وفي نهاية المطاف أصبح كلاهما يشاطر الآخر الحياة نفسها.
الزوجان بشرى عجاج وحسن عجم في بيتهما بغازي عنتاب
تحدثنا بشرى عن ذلك وهي تبتسم فتقول: “التقينا خلال الثورة، ونجونا من كل ذلك معاً”.
واليوم، يعيش الزوجان برفقة طفليهما الصغيرين في غازي عنتاب، وقد علقا علم سوريا الجديد الذي يرمز للفخر والألم في غرفة المعيشة.
تعرض كلّ منهما للاعتقال بسبب نشاطه السياسي، وخسر كلاهما أصدقاء وأقرباء، ثم فرّا من سوريا قبل أكثر من عقد، وعادا إليها في زيارة قصيرة بعد سقوط الأسد، غير أن كلاً منهما لم يستطع التعرف إلى البلد الذي تركاه، إذ يقول حسن: “زرت سوريا مرتين، من دون أن أدخل إلى بيتي القديم”.
واليوم، يعمل حسن لدى رابطة عائلات قيصر التي تطالب بالعدالة من أجل المفقودين في سجون النظام البائد، وقد حملت الرابطة الاسم الحركي للمصور الجنائي قيصر الذي هرّب أكثر من 55 ألف صورة توثق عمليات التعذيب والقتل وذلك قبل فراره إلى الولايات المتحدة في عام 2013.
قبل خمس سنوات تعرف حسن إلى جثمان شقيقه في إحدى الصور التي هربها قيصر، فأكد لأهله ما ظلوا لفترة طويلة يخافون من أن يتأكد، والآن، أصبح حسن عازماً على العودة إلى سوريا حتى يعثر على المكان الذي دفن فيه شقيقه.
بالنسبة لبشرى، كانت عودتها في شهر نيسان تعني مجابهة الأشباح بمفردها، بما أن بيت أهلها قد دمر، إلا أن أكثر شيء بعثر كيانها هو رؤية جامعتها من جديد، ذلك المكان الذي شهد مظاهرات كثيرة، واستشهدت فيه خيرة صديقاتها، وعن ذلك تقول: “بكيت كثيراً عندما عاودتني الذكريات”.
أما طفلاهما اللذان ولدا في تركيا فيجيدان التركية أكثر من العربية، وعن ذلك تقول بشرى: “أحياناً أرى بأن ذلك أفضل، لأنهما يشعران بأن هذا البلد بلدهما” غير أن فكرة العودة إلى سوريا أصبحت تثير لديها مخاوف جديدة، ولهذا تقول: “ماذا لو أحس طفلاي نفسيهما غريبين في بلدهما؟”
في حال عودة تلك الأسرة بشكل نهائي إلى سوريا، تأمل بشرى ألا تعود إلى قريتها الصغيرة المدمرة، بل تتمنى الاستقرار في مدينة حلب، أو في مكان جديد آخر حيث يمكنهم خلق ذكريات جديدة.
المراهنة على حلب بكل شيء
اتخذ أحمد الطالب قراره بالنسبة للعودة، وهو مهندس مدني يبلغ من العمر 33 عاماً. تعود أصول أحمد إلى مدينة حلب، وقد فر من سوريا في عام 2014 بعد أن سيطر تنظيم الدولة على مدينته.
المهندس المدني السوري أحمد الطالب
في ذلك الحين، كان أحمد يوثق انتهاكات حقوق الإنسان، ولهذا كان هو وعائلته في خطر بسبب عمله ذاك، كما أن شقيقه تعرض للاعتقال، ولذلك نزح أحمد إلى تركيا، ومنذ ذلك الحين أسس لنفسه حياة في مدينة غازي عنتاب، حيث درس وتزوج وأسس شركة وأصبح أباً.
ولكن في شهر تشرين الأول المقبل، ومع انتهاء عقد إيجار بيته، سيحزم هو وزوجته سحر وطفلهما كمال البالغ من العمر ثلاث سنوات أمتعتهم وأغراضهم ليعودوا إلى حلب بشكل نهائي، وعن ذلك يقول أحمد وهو يرتشف عصير البرتقال الذي قطفته والدته من مدينة اللاذقية: “أحس بأمان أكبر الآن، ولا شك بأني خائف، إلا أني متفائل أيضاً، فقد حان الوقت لإعادة البناء”.
وأحمد ليس أسيراً لأي وهم، فهو يعرف أن حلب ما تزال مدمرة، والإيجارات مرتفعة للغاية، والخدمات قليلة.
أما سحر التي لم تنهِ دراستها الجامعية، فتتمنى أن تتابع دراستها هناك، من دون أن تلوح أمامها أي فرصة تضمن لها تحقيق ذلك.
وعن قراره بالعودة يقول أحمد: “أصولنا تعود إلى سوريا، أما تركيا فهي وطننا الثاني، لكنها ليست البلد الذي تنحدر أصولنا منه”.
يتذكر أحمد الفرحة العارمة التي عمت البلد إثر سقوط الأسد في العام المنصرم، والتي راقبها هو وسحر وهما جالسان على الأريكة في الساعات المبكرة من تلك الليلة. وبما أن صدره قد ضاق وهو يشاهد الاحتفالات في دمشق عبر شاشة التلفاز، لذا ركب سيارته وتوجه نحو العاصمة، وعندما وصل، غمرته مشاعر مختلطة من الفرح والألم، فقد عاودته ذكريات المجازر التي وثقها، والأصدقاء الذين خسرهم، والغارات الجوية التي شاهدها وهي تقتل الأبرياء من النساء والأطفال، وعن مشاعره وقتئذ يقول: “كانت مزيجاً من مشاعر الانتصار والحزن”.
وبابتسامة عريضة، يخبرنا أحمد بأنه حافظ على نظرة إيجابية للمستقبل، فهو يصدق وعود الحكومة الانتقالية، ويؤمن بأن له دوراً في إعادة بناء سوريا بما أنه مهندس مدني، وهنا يعلق قائلاً: “كل ما أتمناه ألا يسألني ولدي: لماذا أعدتموني إلى هنا، ولكن إن كبر في المكان الذي ينتمي إليه، فسيدرك معنى ذلك في يوم من الأيام”.
الوطن ينادي
عشية رحلته إلى دمشق، بدا محمد جميل الشمري منتشياً، ولهذا أخذ يردد كلمات هذه الأغنية بصوت عال: “ارفع راسك لا لا ذلة.. وعن أرضك لا لا تتخلى”.
يبلغ الشمري من العمر 44 عاماً، وهو مترجم فوري متمرس مولع بالأدب عمل في قاعات الاجتماعات من جنيف إلى باريس، حيث ترجم للرؤساء ولقادة العمل الإنساني على حد سواء.
ويقتبس من اللغوي نعوم تشومسكي في أثناء حديثه، كما يشير إلى فيلم (الساعات)، ويقحم كلمات أغاني جورج مايكل في كلامه.
على الرغم من عروض العمل التي تلقاها في كل من كندا وأوروبا، فضل البقاء في تركيا مع أسرته طوال السنوات الخمس عشرة الماضية، ويعلق على ذلك بقوله: “لم ترد زوجتي أن تتربى بناتنا في ثقافة أجنبية، وتركيا قريبة لبلدنا”.
أما اليوم، فيخبرنا محمد بأنه على استعداد للمساهمة في إعادة بناء سوريا على الرغم من تحفظاته، إذ يقول: “الأمان أولاً ثم الاقتصاد، إذ حتى لو تقاضيت ألف دولار باليوم في دمشق، فلن آتي بأسرتي إلى هناك إن لم يكن الوضع آمناً”.
يدرك محمد التحديات التي تنتظره، فقد حلقت الإيجارات في دمشق إلى أعلى المستويات بسبب شح البيوت المتاحة للإيجار، كما قد يتعرض أولاده الذين يتحدثون التركية بطلاقة لحالة غربة ثقافية في حال عودتهم إلى بلدهم.
يحدثنا محمد عن نفسه فيقول: “أنتمي للطبقة الوسطى، ولكن ماذا عن البقية؟ إن أغلب السوريين لا يستطيعون تحمل تكاليف الإيجار أو أقساط المدارس”.
ومع ذلك يخبرنا بأنه ما يزال على استعداد للعودة إلى سوريا حيث يأمل بافتتاح مكتب للترجمة بدمشق، ويضيف: “علينا ألا نستنسخ الماضي، إذ لا نريد مزيداً من الفساد أو الإقصاء”.
المصدر: npr
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية