جدول المحتويات
«نبض الخليج»
نشرت مجلة فورين بوليسي تقريراً مطولاً يطرح تساؤلات بشأن قدرة إسرائيل على إعادة تشكيل التوازن الأمني في سوريا الجديدة. التقرير يسلّط الضوء على الدور المتنامي للاحتلال الإسرائيلي في الجنوب السوري، مستعرضاً تدخلاتها العسكرية، وسعيها لرسم خطوط حمراء أمنية تعكس “تصوّرها” لدور القوة الإقليمية.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بواقع الأمن في سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:
يبدو بأن القتال الدائر في مدينة السويداء قد انتهى أخيراً في هذا الأسبوع بعد الالتزام بالهدنة الأخيرة من سلسلة هدنات وقف إطلاق النار التي جرى الإعلان عنها، فقد اتفقت الميليشيات البدوية مع الدروز، بعد أن قاتل كل طرف الآخر على حساب أرواح 1200 شخص، على وضع سلاحهم وتبادل الأسرى، ثم سيطرت قوات الأمن السوري على المنطقة في الوقت الذي تعهد الرئيس أحمد الشرع بحماية الأقليات العرقية والدينية في سوريا ومحاسبة المسؤولين عن أحداث العنف. أما إسرائيل التي أعلنت بأنها تدخلت للدفاع عن الدروز، فقد أوقفت قصفها قبل أيام قليلة على ذلك، وصارت تقدم المساعدات الطبية للسويداء منذ يوم الإثنين.
سوريا أرض خصبة للتدخل الإسرائيلي
ولكن لا أحد يتوقع جدياً أن تكون هذه الفورة هي الفورة الأخيرة للعنف الطائفي في سوريا، فقد وقف المقاتلون من داخل الحكومة وخارجها ضد مساعي الرئيس لإقامة مجتمع متسامح دينياً منحاز للغرب، وذلك لأن قبضة حكومة الشرع على السلطة في البلد ضعيفة، ومعظم الأراضي السورية ما تزال بأيدي ميليشيات محلية لا تثق بحكام سوريا الجدد. إذن، فكل تلك الأمور تمثل أزمة بالنسبة لإسرائيل في الوقت الذي بدأت بالبحث عن توازن جديد للقوى في الشرق الأوسط يمكّنها -نظرياً على الأقل- من أن تتصرف بما يناسبها، وسوريا أضحت أرضاً خصبة للتدخل الإسرائيلي مرة أخرى.
طوال الحرب السورية التي امتدت قرابة 14 عاماً، نأت إسرائيل بنفسها عن المشهد، حيث اقتصر نشاطها العسكري على ضرب الأسلحة الإيرانية المتوجهة لحزب الله، وتقديم بعض المساعدات البسيطة للدروز والكرد. إلا أن كل ذلك تغير على حين غرة في كانون الأول الماضي، عندما أسقطت قوات الشرع نظام بشار الأسد، إذ سيطرت إسرائيل على منطقة منزوعة السلاح على الحدود السورية وعلى قمة جبل الشيخ الاستراتيجية، كما هاجم سلاح الجو لديها منشآت تابعة للجيش السوري. وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن الجنوب السوري أضحى منطقة محظورة ليس فقط على الميليشيات، بل حتى على الجيش السوري (وهي المنطقة المجاورة لمرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل والتي يعيش فيها أغلب الدروز السوريين)، ولكن النهج الإسرائيلي تجاه سوريا لم يغيره تغير النظام وحسب في سوريا.
“شمشون الضعيف”
قبل عشرات السنين، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول تصورات إسرائيل عن نفسها على الصعيد السياسي والعسكري في الشرق الأوسط بأنها شمشون الضعيف (مقارنة بالصورة التي قدمها سفر القضاة في الكتاب المقدس عن شمشون المعروف بقوته الجسدية). فمن جهة أولى، تتمتع إسرائيل بقوة عسكرية تضاهي أي قوة يتمتع بها أعداؤها منذ ستينيات القرن الماضي، ومن جهة ثانية، تشعر إسرائيل بأن وجودها بحد ذاته محل تهديد دائم، ومنذ هجوم حماس في السابع من تشرين الأول عام 2023، أصبح شمشون الإسرائيلي أقوى إلا أن خوفه لم يتراجع.
ضخمت صدمة السابع من تشرين الأول الجانب الضعيف لدى إسرائيل، إذ بعد التقليل من خطورة حماس خلال السنوات التي سبقت الهجوم، والتعامل مع هذا الخطر كمشكلة يمكن احتواؤها من خلال عمليات استخبارية متميزة، ونصب سياج حدودي، فضلاً عن العمليات العسكرية الإسرائيلية التي كانت تتم بين الفينة والأخرى، أصبحت إسرائيل اليوم ترى في كل المناطق المجاورة لحدودها منصة محتملة لتنفيذ هجمات أخرى عليها تشبه ما حدث في هجوم السابع من تشرين الأول، ولهذا السبب يصر كثيرون في إسرائيل على مواصلة الحرب في غزة حتى “القضاء” على حماس تماماً بحسب تعبير نتنياهو. وفي لبنان، تتحدث إسرائيل عن السبب الذي يدفع جيشها لمواصلة احتلاله لخمسة مواقع استراتيجية في ذلك البلد، إلى جانب الهجمات المتكررة التي تستهدف أصول حزب الله، على الرغم من توقيع اتفاقية لوقف إطلاق النار في تشرين الثاني الماضي. أما سياسة إسرائيل تجاه سوريا فتقوم على المخاوف نفسها، فلقد وصف مسؤولون إسرائيليون، مثل وزير الخارجية جدعون ساعر الشرع وحكومته بالجهاديين “الذين يرتدون بزات رسمية” لكنهم على استعداد لضرب إسرائيل مع أول فرصة تسنح لهم، وبأن الشرع حتى لو كان صادقاً في تعامله مع الغرب، فإنه لن يسيطر على كامل البلد، وهذا ما تبين من خلال الفوضى التي عمت السويداء.
شمشون الجبار
يعزى الجانب الشمشوني إلى كل شيء حدث تقريباً منذ السابع من تشرين الأول، وعلى الرغم من الريبة تجاه عودة حماس، فإن هذا التنظيم قد مني بهزيمة ساحقة (وبقيت الحرب مستعرة حتى هذه الأيام إرضاء لليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية الذي يحلم بتهجير الفلسطينيين من غزة). كما هزم حزب الله هزيمة منكرة هو الآخر، فقد اغتيل زعيمه وتكبد خسائر جسيمة في ترسانته الصاروخية، فلم يعد يبد أي مقاومة إزاء الهجمات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي اللبنانية. وعلى الرغم من أن إنجازات الحرب مع إيران ما تزال محل جدل، لاشك بأن إسرائيل دمرت الدفاعات الجوية الإيرانية، وقضت على معظم قياداتها العسكرية، وتسببت بتراجع البرنامج النووي الإيراني بدرجة أو بأخرى وذلك بمساعدة الولايات المتحدة. كما أن ما يعرف بمحور المقاومة الإيراني قد انهار أو أضحى بلا أي فائدة.
وبالنتيجة، أضحى كثيرون في إسرائيل ينظرون اليوم إلى بلدهم على أنه أعتى قوة في المنطقة، وهذه القوة مسؤولة عن حفظ النظام والاستقرار فيها، على الأقل عندما تتعرض المصالح الإسرائيلية لتهديد مباشر.
ما بين القوة والضعف
خلال الأسبوع الماضي ظهر هذا الانقسام ما بين القوة والضعف في سوريا، إذ تجلى الضعف من خلال قلق إسرائيل تجاه الميليشيات التي تشكلت في الجنوب السوري أثناء محاربة المقاتلين الدروز وكذلك تجاه الجيش السوري التي انتشر هناك ليعيد النظام والأمن ظاهرياً. والحق يقال إن إسرائيل لم تهاجم مقاتلي البدو بل هاجمت الجيش السوري عندما تجرأ على دخول المنطقة العازلة التي أعلنت عنها إسرائيل وحدها. كما تجلت القوة التي تنسبها إسرائيل لنفسها من خلال قرارها الذي دخلت بموجبه في القتال وهي تعرف بأن الجيش السوري عاجز عن الرد، بيد أن قرار إسرائيل القاضي بقصف مدخل وزارة الدفاع السورية في قلب دمشق كان فعل غطرسة واستعراضاً للقوة.
كما تجلى جانب ثالث للسياسة الإسرائيلية وهو السياسة الداخلية، وذلك لأن حكومة نتنياهو تشتمل على أحزاب يمينية متطرفة (وهي أحزاب دينية بقيت في الحكومة حتى الأسبوع الماضي، حيث أعلنت عن استقالتها)، وتلك الأحزاب ليست لديها مصلحة كبيرة في الأقليات غير اليهودية الموجودة في سوريا، بل إن بعض تلك الأحزاب اليمينية المتطرفة تعادي تلك الأقليات. غير أن قرار الحكومة الإسرائيلية الذي هبت بموجبه لنجدة دروز سوريا وضع ضمن إطار العمل الإنساني واللفتة الكريمة تجاه الطائفة الدرزية في إسرائيل.
غني عن القول إنّ الدروز الذين يعيشون تحت حكم إسرائيل، إذ هناك نحو 150 ألف مواطن درزي يعيشون في إسرائيل نفسها، و25 ألفاً آخرين يعيشون في مرتفعات الجولان (ومعظمهم لا يحملون الجنسية الإسرائيلية) أبدوا قلقهم تجاه مصير إخوتهم في سوريا بعد اندلاع القتال في الثالث عشر من تموز. كما أن زعيمهم الروحي، الشيخ موفق طريف، تحدث إلى نتنياهو عن ذلك، في حين تجاوز دروز إسرائيل الوجود الأمني الضئيل على الحدود ليندفعوا نحو سوريا في تعبير عن التضامن مع دروز ذلك البلد.
دروز إسرائيل.. كتلة وازنة في الانتخابات
لو كان الدروز يمثلون أي أقلية عربية أخرى، فمن المرجح للحكومة الإسرائيلية أن تتجاهل مناشداتهم، أو أن تفعل ما هو أسوأ، وهو أن تعتقل أو تقتل من يعبرون الحدود إلى أراض معادية. والسبب الذي لجم الحكومة الإسرائيلية عن القيام بذلك مع الدروز الإسرائيليين، هو أن الدروز ليسوا كغيرهم من العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، كونهم يؤدون الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، وكثيرون منهم أصبحوا ضباطاً فيه، كما قدم بعضهم روحه في الحرب على غزة، ولذلك ينظر إليهم كمواطنين موالين، بل إن مكانتهم وصلت إلى حد دفع حتى كبير حاخامات الأشكيناز في إسرائيل لمطالبتها يوم الخميس الماضي ومطالبة العالم بأسره بمساعدة دروز سوريا، إذ كتب في رسالة مفتوحة: “إننا نشهد حملة قتل وحشية موجهة ضد الشعب الدرزي، واعتداء على صورة [الله] في البشرية”.
حتى لو لم يكن نتنياهو ميالاً للتصرف بدافع مخاوف إنسانية بحتة، يكفيه أن يفكر بالحسابات المتعلقة بالانتخابات. إذ بخلاف الناخبين العرب من المسلمين والمسيحيين، فإن الغالبية الساحقة من الدروز يتجنبون يوم الانتخابات التصويت للأحزاب ذات القيادات العربية. وعلى الرغم من أن حزب الليكود الذي ينتمي نتنياهو له لم يحصل سوى نسبة ضئيلة من تصويت الدروز، فمن المرجح لنتائج الانتخابات القادمة أن تكون متقاربة، ولهذا سيكون لبضع آلاف من الأصوات دور حاسم في تقرير المصير.
تعرض الدروز لإهانة كبيرة من خلال قانونين أقرا برعاية حكومة نتنياهو السابقة: أولهما قانون الدولة القومية الذي أقر في عام 2018 (والذي يعطي الأولوية لحقوق اليهود في إسرائيل)، والثاني قانون كامينيتس (والذي يسهل الطريق على السلطات لهدم المباني المخالفة للقوانين، وقد مورس ذلك بشكل كبير على العرب أكثر من اليهود). وحتى قبل اندلاع الاقتتال في سوريا، سعت الحكومة لاسترضاء الدروز عبر قانون التعويضات، ثم إنها هبت لنجدة أشقائهم السوريين، وفي ذلك أسلوب آخر لاسترضائهم، وخاصة إن أتى ذلك منسجماً بصورة أكبر مع الاستراتيجية الأوسع للحكومة الإسرائيلية تجاه سوريا.
قيود تحد من دور إسرائيل كزعيمة للمنطقة
والمشكلة هي أنه على الرغم من أن إسرائيل تشعر بقوتها ونفوذها اليوم، بقيت قدرتها على لعب دور زعيم المنطقة محدودة ومقيدة بشكل كبير.
تتمثل أولى القيود التي تقف أمامها لتحقيق ذلك بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، إذ في أغلب الأحيان من الصعب التأكد من موقف الرئيس الحقيقي تجاه المخاوف الكبرى التي تشترك فيها الولايات المتحدة مع إسرائيل، غير أن الموضوع الذي يظهر على الدوام من خلال كلامه المناقض لأفعاله أحياناً يتمثل برغبته بتجنب التورط عسكرياً في الشرق الأوسط. ولو ترك الأمر له، لفضل القيام بصفقات تجارية مع السعوديين، والتشبث بأمله بالرغم من انعدام الأمل بأن تصبح سوريا زبوناً آخر لدى الشركات الأميركية، وذلك من خلال رفع العقوبات المفروضة عليها. ولو أمر ترمب بتنفيذ عمل عسكري، سواء ضد الحوثيين أو إيران، فإنه يفضل حملات قصيرة بارعة تختتم بنتائج حاسمة (بحسب تفكيره على أقل تقدير).
إلا أن رؤية ترمب قد لا تصمد أمام امتحان الواقع المريع في الشرق الأوسط، ولكن يتعين على نتنياهو اليوم التعامل مع هذا الواقع. والموقف العدائي الذي تبنته إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول أدى إلى توتر علاقاتها مع واشنطن فيما يتصل بإيران ولبنان وغزة، والآن سوريا. وذلك لأن الولايات المتحدة تلعب دور الوسيط في محادثات سرية بين إسرائيل وسوريا، وسط تلميحات بإقامة علاقات ثنائية بين البلدين في نهاية الأمر. بيد أن واشنطن أعلنت بأنها لن تدعم قصف إسرائيل الذي وقع خلال الأسبوع الماضي، بل سعت لترتيب أمور وقف إطلاق النار. وفي يوم الأحد الماضي، نقلت منصة أكسيوس عن مسؤول لم تذكر اسمه من البيت الأبيض تحدث عن حالة التباعد بين إسرائيل وأميركا بكلمات بسيطة وواضحة إذ قال: “لقد تصرف بيبي كالمجنون، فهو يقصف كل شيء طوال الوقت… وهذا قد يخرّب ما يحاول ترمب فعله”.
أما القيد الثاني فهو قيد داخلي، أجل، لقد كانت استعانة إسرائيل بالاستخبارات والتقانة لإلحاق الهزيمة بأعدائها محل إعجاب، لكنها لا تستطيع أن تزعم بأنها قوة كبرى فيما يتصل بالاقتصاد وعدد السكان أو حتى بالنسبة لإمكانات عتادها العسكري الصرف. فقد شهدنا تلك القيود خلال سنة وتسعة أشهر من تاريخ القتال الذي بدأ في السابع من تشرين الأول والذي أصاب إمكانيات هذا البلد بإرهاق شديد، إذ من دون الإمدادات الأميركية الهائلة بالسلاح، واستعداد جنود الاحتياط لأداء خدمة قد تمتد لمئات الأيام في بعض الأحيان، لما كانت الحرب ممكنة. ثم إن إسرائيل لا يمكنها أن تعتمد على ترمب في تزويدها بالمساعدات نفسها الذي كان يمدها بها سلفه جو بايدن، إذ خلال العام الماضي، تصدرت إسرائيل العالم في الإنفاق العسكري من الناتج القومي الإجمالي (والذي وصل إلى 8.8%) لتأتي بذلك بعد أوكرانيا، وذلك بحسب بيانات معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام. وفي حال الموافقة على الخطط الساعية لرفد ميزانية هذا العام (حتى تغطي كلفة تجدد القتال في غزة والحرب على إيران)، فسيصل الإنفاق العسكري الإسرائيلي إلى 7% من الناتج القومي الإجمالي، ولهذا من المحتمل لها أن تحتل المراتب الأولى على مستوى العالم من جديد، غير أن تلك الأرقام لن تستمر.
لعل مؤيدي الاستراتيجية العدوانية الإسرائيلية يعتقدون بأن الحزم سينقذ إسرائيل من القتال في حرب تكلف الكثير مستقبلاً وذلك عبر القضاء على أي تهديد في مهده، ولكن سواء أتعلق الأمر بسوريا أم بلبنان أم إيران، فإن النهج العدواني سيجر إسرائيل على الأغلب إلى حروب لا طاقة لها بتحملها.
المصدر: The Foreign Policy
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية