«نبض الخليج»
في البلاد التي اعتادت على غياب السؤال، يصبح طرحه مجازفة، وربما خيانة في نظر بعضهم، فالقائد لا يمكن أن تسأل عن تنحيه أو تركه كرسي الحكم، والسوري الذي مشى طويلاً بين نارين: نار القائد الذي يُكرَّس، ونار الفراغ الذي يخشاه، يسمع السؤال ولا يجيب، أو يجيب في سرّه، أو يلتفت حوله قبل أن يهمس بإجابة مرتجفة، أو يشكك بك وبأسئلتك وغالباً ما يقول لك: لماذا تسأل هذا السؤال في تلك المرحلة الخطيرة، وكل المراحل خطيرة كي لا نسأل؟
لماذا يتنحّى؟ يسأل أحدهم، أليس هو مَن قادنا إلى ما نحن فيه! وما نحن فيه؟ يرد آخر، هل هو نصرٌ أم هزيمة مؤجلة؟
لا أجوبة قاطعة في بلد خرج من الحرب مثقلاً، يجرّ وراءه أطياف المجازر وحكايات الأمل الموءود، كما يعبِّر صحفي خاب أمله بالتغيير، أو متوجس من كل ما حدث لاسيما أن تفاصيل كثيرة تغيب عن ذلك.
في العمق، السؤال ليس عن فرد، بل عن بنية كاملة يكتنفها غموض كثير وصراع مبطن بين مشاريع عدة، عن مؤسسات ما تزال ترتجف كلما هزّها التغيير، وعن شعب ما يزال يبحث عن أرضٍ ثابتة يقف عليها كي يفرح وينظر إلى المستقبل.
السؤال الأدق ربما ليس: ماذا لو تنحى؟ بل: ماذا أعددنا، نحن، ليومٍ بلا قائد؟ ماذا فعلنا بالمؤسسات؟ بالقانون؟ بالثقة؟
من الطبيعي إن حصرنا السلطات بين يدي القائد سيكون تنحيه كارثة! مع أن السوري، بات اليوم لا يثق إلا بحذره، يعرف أن القائد مهما طال بقاؤه، راحل، تلك سيرة الحياة، المهم ما هو الأثر الذي تتركه بعد الرحيل.
هناك مَن سيقول: هذا سؤال غير مقبول، لم يفعل إلا ما هو خير للبلد، هو القائد الضرورة وهو الذي قاد السوريين إلى الانتصار، فلماذا يتنحى، ونحن لن نتخلى عنه مهما حدث..
لكن الدولة الباقية: هل نحن مستعدون لها؟ وهل نحن شعب يريد أن يبنيها لكل السوريين، أم لأصحاب الصوت الأعلى فقط، ولمن يحرر يقرر ولمن يمتلك السلاح وهل دولتنا للفصيل فحسب، لنتفق كي لا نتصارع بعد انطلاق الرحلة؟
إنشاءٌ كثير يمكن أن يحضر إجابة على هذا السؤال، من مثل سوريا ولَّادة، ولا نريد الدوران حول فكرة القائد الذي لا يكرر، وسوريا مليئة بالكفاءات، بل سيقول لك أحدهم: هذا السؤال يكرس الاستبداد، هذا السؤال نوع من التكريس، وهكذا سيل من الأجوبة لا ينتهي تدين هذا السؤال.
على الكفة الأخرى هناك مَن سيقول: هذا سؤال غير مقبول، لم يفعل إلا ما هو خير للبلد، هو القائد الضرورة وهو الذي قاد السوريين إلى الانتصار، فلماذا يتنحى، ونحن لن نتخلى عنه مهما حدث.
على الضفة الثالثة هناك مَن يرى أن عهده القصير شمل نوعاً من حالة الاستبداد وحصر السلطات الثلاث للبلد بيديه، وها هو يتفاوض مع إسرائيل، وأحداث الساحل والسويداء حدثت في عهده، وكثير من الانتهاكات ومشاهد القتل، وتضييق على الحريات الشخصية وما يشبه العفو عن كبار المجرمين، وغياب للعدالة الانتقالية!
بالمفهوم البحثي يمكن أن يكون كل خيار مما كتب أعلاه صحيح بدرجة ما، تبعاً للموقع والهدف والسبب والنتيجة، غير أننا سنمشي معاً بلغة الاحتمال: ماذا سيحدث لو تنحى الرئيس الشرع في هذه المرحلة؟
كل منا سيجيب في ضوء موقفه منه والحكم وطريقته، والبلد، وما يظن أنه أفيد للبلد، لكن يبقى كثيرون يتساءلون عن شرعية السؤال وأنه يحمل نفساً تبشيرياً بالقائد الذي لا يكرر! لذلك يمكن أن نستبدل السؤال بسؤال آخر: كيف نساعد الرئيس الشرع في هذه المرحلة الانتقالية وكيف يمكن أن يساعدنا هو من جهته كي نساعده؟
في المرحلة الراهنة هناك مطلبان رئيسيان لدى المواطن السوري العادي، وليس المنقذ أو البطل أو السياسي الحالم هما، تأتي معهما أسئلة عن شكل الحكم وتراتبيته وتفاصيله:
- الأمن والأمان
- الحاجات اليومية
شهدنا تطورات وعثرات لا بد منها في مراحل الانتقال التي تعقب النزاع، بعضها كان يمكن تجنبه بالحكمة والاحتراف، خاصة في مناطق الساحل والسويداء، ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك تقدماً ملحوظاً في الأمان اليومي في الشوارع والمنازل والحياة العامة، ويبدو أن السلطة تسعى حالياً إلى المزيد من الاحترافية في إدارة هذا الملف (لا أتحدث عن الجبهات).
فيما يخص الحاجات اليومية من مواد غذائية وأسعارها، والدخل ومدى كفايته لتغطية المصاريف، بالإضافة إلى سهولة سير الحياة اليومية، يمكن القول إنّ هناك تطورات إيجابية في بعض الجوانب، في حين غابت تفاصيل مهمة مثلاً، على مستوى الكهرباء والخدمات الأساسية، لم يحدث تقدم يُذكر رغم وجود مشاريع واعدة وما يزال تحصيل الرواتب أمراً صعباً إضافة إلى عشرات آلاف الأشخاص الذين باتوا من دون رواتب.
أمّا بالنسبة للأسعار، فهناك توفّر للمواد بشكل عام وبأسعار مناسبة، فلا يمكن القول إن هناك أزمات في توفر المواد، بل المشكلة تكمن في السيولة النقدية لدى الناس.
وفيما يخص كفاءة عمل دوائر الدولة، فإن التطور ما يزال بطيئاً، وكثير من جوانب المؤسسات الحكومية لم تتحسن بشكل ملموس بعد، مما يؤثر سلباً على حياة المواطنين، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن السلطة استلمت بلداً في حالة انهيار شبه كامل، وهذا يفسّر كثير من التحديات التي تواجهها اليوم.
السؤال الآخر: ماذا لو لم يتنح الرئيس أحمد الشرع؟ وما الحل؟ وكيف يمكننا دعم الرئيس الشرع ليس حباً بالشخص بل حباً بمهمته كي ننقذ البلد معاً؟
في المشهد السوري هناك وجهات نظر متعددة:
- فئة تكره السلطة وتتمنى غيابها، وغالبًا ما تكون ضد كل متدين.
- آخرون يقفون على الهامش يترقبون سقوطها في العثرات.
- فئة متحمسة للسلطة.
- شريحة ترى من واجبها أن تقف إلى جانب السلطة، ليس كنصير أعمى، بل كمنقذ للوطن، مع واجب نقدها وتنبيهها والاختلاف معها من دون كراهية أو تعنيف أو إقصاء
تنحي الرئيس أحمد الشرع في هذه المرحلة ليس في مصلحة أحد، يرى كثيرون، إذ سيخلق فراغاً قيادياً لا يمكن سدّه حالياً، خاصة في الجانب الأمني حيث لا توجد هرمية واضحة بعد..
كل فعل سياسي يحمل في طياته إيجابيات وسلبيات، ربما يقود الشرع إلى انتقال ديمقراطي وشرعية تشاركية، وتهدئة التوترات الداخلية، وفتح أبواب المواقف الدولية للبلد (وقد فتح منها كثير)، لكن يبقى السؤال عن مدى استعادة الثقة الشعبية مجهولاً حتى الآن، الشرعية الداخلية مهمة جداً للقادة أصحاب المشروع.
تنحي الرئيس أحمد الشرع في هذه المرحلة ليس في مصلحة أحد، يرى كثيرون، إذ سيخلق فراغاً قيادياً لا يمكن سدّه حالياً، خاصة في الجانب الأمني حيث لا توجد هرمية واضحة بعد، وقد تهيمن الفصائلية على المشهد (أكثر مما هو موجود).
في ضوء هذا الضعف المؤسساتي سيكون مشكلة كبرى، خصوصاً إذا تزامن مع تفكك داخلي. المشكلة ليست في التنحي بحد ذاته، بل في وجود بديل، والواقع السوري الحالي لا يتيح بدائل كثيرة. لكن بدلاً من التنحي، ما الذي يجب أن ينتظره السوريون من الشرع؟
- الشفافية في اتخاذ القرارات وفي عمل الأجهزة الأمنية.
- التخفيف من بناء الدولة العميقة، فالسوريون كلهم جزء من الوطن، ولا بد من الثقة بمن لم يجرم منهم.
- تفعيل العمل المؤسساتي ووضع قواعد وآليات واضحة، والابتعاد عن سيطرة العلاقات الشخصية.
- الانتقال من مرحلة الولاء إلى الاعتماد على الكفاءة، وتطبيق ما أشار إليه هو ذاته حرفياً حين تحدث عن الانتقال من مرحلة الثورة إلى بناء الدولة.
- اطلاع السوريين على استراتيجيات الدولة ورؤاها وأهدافها.
- التخفيف من العنف في الحياة العامة، فالسوريون تعبوا من العنف، وهو ذاكرة قاسية تغذي السلبية النفسية، ولا بد من الوصول إلى مرحلة صفر عنف.
- وضع خطط زمنية قصيرة وطويلة المدى لإدارة التوقعات، وتجنب رفع سقفها عبر تسريبات إعلامية أو أوهام مغلوطة.
اليوم هناك سوريون خائفون، سوريون يبحثون عن طرق لجوء جديدة، سوريون مكسورون، سوريون خاب أملهم، سوريون ينتظرون وما زالوا يحلمون، كيف لنا ألا نهد أحلامهم؟
مؤكدٌ أن سؤال تنحي الرئيس الشرع هو سؤال يقود إلى الفراغ، وفي الإجابة نتمنى: الاعتراف بالأخطاء وتصحيح المسار ووضع الخطط وتوزيع السلطات ومزيد من المهنية والحرفية والتراتبية لبلد ذي تاريخ متميز، إضافة إلى تفعيل القانون والعمل المؤسساتي، فالسوريون يحبون الرئيس خاصة إن كان منهم وفيهم والرئيس منا وفينا هو الذي يحقق أحلاماً طال غيابها أكثر من نصف قرن، والسوريون ضحوا بمليون إنسان كي لا تعاد الأخطاء.
رغم أهمية تحقيق الحاجات اليومية، لكن لا ننسى أن الثورة السورية ثورة حرية وكرامة وأخلاق وقيم وإعادة حقوق، وتحقيق ذلك يحتاج إلى أياد واقعية وفعلية وليست كلامية، وخطابات ممدودة من كل الأطراف، من الشعب إلى القيادة، وقبلها من القيادة إلى الشعب.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية