جدول المحتويات
كتب: هاني كمال الدين
في تطور مقلق قد يُحدث تحولات كبيرة في التوازن العسكري والأمني في القارة الأوروبية، كشفت صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية، استنادًا إلى مصادر داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أن الولايات المتحدة تدرس خيارًا جديًا لتقليص عدد قواتها العسكرية المنتشرة في أوروبا بنسبة تصل إلى 30%، وهو ما يُمثل تحولًا استراتيجيًا كبيرًا في السياسة الأمريكية تجاه القارة العجوز.
أفاد التقرير بأن مسؤولًا في الناتو، فضّل عدم الكشف عن هويته لأسباب دبلوماسية وأمنية، أكد للصحيفة أن فكرة تقليص القوات الأمريكية في أوروبا باتت مطروحة على طاولة النقاشات في دوائر صنع القرار في واشنطن، وسط تحولات في الرؤية الاستراتيجية الأمريكية تجاه الالتزامات العسكرية طويلة الأمد خارج حدودها، وبخاصة في ضوء التحديات الاقتصادية والسياسية المتزايدة التي تواجهها الإدارة الأمريكية.
دوافع القرار الأمريكي المحتمل
يأتي هذا التطور في وقت تشهد فيه العلاقات عبر الأطلسي تراجعًا واضحًا في التفاهمات العسكرية التقليدية التي كانت تحكم علاقة الولايات المتحدة بحلفائها الأوروبيين. ويعزو بعض المحللين هذا التوجه إلى تزايد النزعة الانعزالية في السياسات الأمريكية، والتي بدأت تبرز بوضوح منذ عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، واستمرت بشكل أكثر واقعية مع إدارات لاحقة وإن كانت بطرق مختلفة.
وترى واشنطن أن الاعتماد الأوروبي المفرط على “الضمانات الأمنية الأمريكية” يجب أن يتراجع لصالح مزيد من الاستقلالية الأوروبية في الشأن الدفاعي، خاصة في ظل انشغال الولايات المتحدة بالتحديات المتصاعدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والصراع المتفاقم مع الصين، والتهديدات السيبرانية المتزايدة.
تحذيرات أوروبية واستعدادات مبكرة
في سياق متصل، كان السياسي الألماني البارز ينس شبان، زعيم كتلة الاتحاد الديمقراطي المسيحي في البرلمان الألماني (البوندستاغ)، قد أطلق تحذيرًا واضحًا بشأن مستقبل القوات الأمريكية في أوروبا، مشيرًا إلى أن هذه القوات قد تنسحب في وقت قريب جدًا، دون تقديم ضمانات لبقائها.
وأكد شبان أن أوروبا، وخاصة ألمانيا، مطالبة بالتحرك العاجل لضمان استمرار الردع الأمريكي، باعتبار أن وجود القوات الأمريكية في أوروبا لا يزال يشكل عنصرًا محوريًا في منظومة الردع النووي والتقليدي ضد التهديدات المحتملة، وعلى رأسها روسيا.
إشارات أولية على الأرض
تأتي هذه الأنباء في وقت بدأت فيه دول أوروبية أعضاء في حلف الناتو التحضير لاحتمال تقليص عدد القوات الأمريكية في القارة، حيث كشف موقع “Euractiv” الأوروبي في تقرير نشره في 3 يوليو، أن حكومات عدة داخل الحلف بدأت تقييم الأثر المحتمل لأي انسحاب أمريكي جزئي، سواء من الناحية العسكرية أو الأمنية أو حتى النفسية، في ظل تصاعد التهديدات الأمنية على حدود أوروبا الشرقية.
وأكد التقرير أن بعض الدول، خاصة الواقعة على خط المواجهة مع روسيا مثل بولندا ودول البلطيق، بدأت فعليًا في مراجعة خططها الدفاعية وتعزيز شراكاتها الثنائية مع واشنطن خشية أن تكون من أكثر المتضررين من أي انسحاب أمريكي.
مخاوف من فراغ استراتيجي
تثير احتمالات تقليص القوات الأمريكية في أوروبا قلقًا كبيرًا داخل المؤسسات الدفاعية الأوروبية، إذ ترى العديد من الأطراف أن غياب أو تقليص التواجد الأمريكي قد يُحدث فراغًا استراتيجيًا يصعب ملؤه على المدى القصير.
ويرى محللون أن أوروبا، رغم تطور بعض منظوماتها الدفاعية، لا تزال غير جاهزة لتوفير بديل موثوق لقوة الردع الأمريكية، خاصة أن الكثير من الدول الأوروبية تعاني من ضعف في الميزانيات الدفاعية، وتفاوت في العقيدة القتالية والأنظمة العسكرية.
السياسة الأمريكية بين الداخل والخارج
يرتبط هذا التوجه الأمريكي أيضًا بمطالب داخلية، حيث تواجه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن انتقادات من أطراف سياسية تطالب بتقليص التزامات الولايات المتحدة الخارجية والتركيز على المشكلات الداخلية، خصوصًا مع تزايد الأعباء الاقتصادية وتراجع الدعم الشعبي للتدخلات العسكرية طويلة الأمد.
وتشير تقارير استخباراتية إلى أن البنتاغون يعمل على إعادة تقييم تمركز قواته على مستوى العالم، بما يشمل خفض القوات في بعض المناطق وزيادتها في أخرى مثل المحيط الهادئ، لمواجهة التوسع الصيني.
مستقبل العلاقات عبر الأطلسي
يبقى السؤال الأساسي: ما هو مستقبل العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة وحلف الناتو في حال تنفيذ هذا القرار؟ وهل سيكون هذا بداية لتفكك تدريجي في منظومة الأمن الجماعي التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية؟
يبدو أن أوروبا مطالبة أكثر من أي وقت مضى بإعادة النظر في اعتمادها على القوات الأمريكية في أوروبا، وأن تعمل على تطوير بنية دفاعية مستقلة قادرة على حماية أمنها ومصالحها في حال تراجع الدور الأمريكي، وهو ما تطرحه فرنسا منذ سنوات، لكن دون توافق أوروبي واضح حتى الآن.
الخاتمة: أوروبا على مفترق طرق
في ضوء هذه التطورات، تبدو القارة الأوروبية على مفترق طرق استراتيجي. فإما أن تواصل الاعتماد على “المظلة الأمنية الأمريكية” رغم عدم وضوح مستقبلها، أو أن تبادر إلى تطوير منظومتها الدفاعية بشكل جماعي وفعّال.
وفي كل الأحوال، فإن القوات الأمريكية في أوروبا تبقى عاملًا حساسًا في ميزان الأمن الدولي، وأي تغير في حجمها أو تمركزها ستكون له تبعات عميقة تتجاوز حدود أوروبا لتصل إلى مفاصل التوازن العالمي.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر