جدول المحتويات
«نبض الخليج»
تتربع بلدة العيس والتلال المحيطة بها في سهل منبسط جنوب غربي مدينة حلب، وعلى مسافة 32 كيلومتراً من المدينة، حيث تبدو تلالها شامخة وواضحة للعيان بالنسبة للمسافر من حلب إلى دمشق على الطريق الدولي M5، والعيس هي الاسم الحديث لمدينة قنسرين الأثرية، وكان يزيد عدد سكانها على 12 ألف نسمة، ويمرّ من شرقها مجرى نهر قويق قادماً من الشمال، وتنتشر في السهول القريبة منها بلدات الحاضر والوضيحي وحوير وتل ممو وأم الكراميل وجزرايا وتل حدية وبرنة وبانص وغيرها عشرات القرى والبلدات التي كانت محوراً مهماً للمواجهات بين فصائل الثورة السورية وقوات النظام المخلوع وحلفائه، وعلى مدار سنوات، وأكثرها تركزاً في العامين 2015 و2016.
وقنسرين موقع أثري ذو أهمية بالنسبة للكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وتحول الموقع بعد الفتح الإسلامي إلى موقع عسكري مهم في المنطقة، ويحمل اسمها أحد أبواب مدينة حلب، وترجع تسمية قنسرين إلى الحقبة الآرامية، وتعني بيت النسور، وأصل التسمية قنشرين، إذ تقلب الشين سيناً في اللغة الآرامية، وهو ما يفسر تسميتها، وتختلف الروايات المحلية في سبب تسمية العيس، إذ يرجعها من التقاهم موقع تلفزيون سوريا إلى اسم ولي صالح يدعى العيس ويزعمون أنه مدفون في البلدة، بينما يرى آخرون أن الاسم جاء نسبة إلى الجمل الأبيض ذي السنامين، ووقوع البلدة بين جبلين، ويرجح بعض المنقبين وعلماء الآثار الأميركيين أن الاسم جاء لوجود قبر النبي عيسو وهو أخ للنبي يعقوب بن إسحاق في البلدة، أما العالم بن حوقل الجغرافي والمؤرخ الرحالة فيقول إن تسمية العيس ترجع إلى قبة تعلو قبراً لنبي الله صالح.
العيس وتلتها
جال موقع تلفزيون سوريا بلدة العيس ليستطلع أحوال البلدة التي تعرض قسم كبير من عمرانها للدمار والتخريب، بسبب القصف الجوي والبري والمعارك التي شهدتها المنطقة سابقاً، وبعدما حولتها قوات النظام المخلوع والميليشيات الإيرانية لثكنة عسكرية كبيرة بين العامين 2020 و2024، وكانت المحطة الأولى من الجولة في قمة تلة السيرياتيل، المعلم الأشهر والأعلى في المنطقة، فالبلدة تقع بين تلتين استراتيجيتين، تلة العيس من الجهة الشرقية، وتلة السيرياتيل من الجهة الغربية، وهو ما منحها موقعاً جغرافياً حيوياً وجعلها عقدة عسكرية بارزة في خريطة المواجهات، إذ أنها منحت من يسيطر عليها ميزة التحكم والإشراف الناري على مساحات واسعة من السهول والقرى جنوب حلب.
على قمة تلة السيرياتيل ما تزال حتى الآن آثار قوات النظام المخلوع واضحة، حفريات مرابض ونقاط انتشار المدفعية وقواعد الصواريخ منتشرة في أرجاء التلة، وفي كل الاتجاهات، وبدا أن الحفريات على جوانب التلة بدت أكثر كثافة وهي من حفر الباحثين عن الآثار من عناصر النظام المخلوع والميليشيات.
يقول السكان في العيس إن الحفريات بحثاً عن الآثار لم تقتصر على تلة السيرياتيل، بل طالت المقبرة والمغارات وتلة العيس الأقل ارتفاعاً، وطال التخريب معظم منازل البلدة التي سلمت من القصف، حيث لم تبق قوات النظام والميليشيات لا أبواب ولا نوافذ ولا أسلاك كهرباء في الجدران.
وعلى الرغم من مرور أكثر من أربع سنوات على آخر المعارك التي شهدتها المنطقة، ما تزال بلدة العيس تحت وطأة الدمار، وتنتشر الأنقاض في أحيائها، وتبدو المنازل المهدّمة شاهدة على قسوة ما جرى، بينما يحاول بعض السكان العائدين ترميم ما تبقّى من بيوتهم بإمكانيات بسيطة، وذاكرة مليئة بالأحزان وتفاؤل أقوى بالعودة والاستقرار، يرى السكان الذين التقاهم موقع تلفزيون سوريا أن “بلدتهم من البلدات المنسية جنوبي حلب، وأنهم خارج اهتمامات محافظة حلب التي لم تقدم حتى الآن أي مساعدة لدعم الخدمات الأساسية، كالبلدية والمياه والكهرباء وغيرها” وهي مقومات ضرورية تسهل عودة النازحين، فالبلدة لم تشهد حتى الآن عودة كبيرة للنازحين، والموجودون من العائلات لا يشكلون ثلث العدد الإجمالي.
“معارك ضارية في العيس”
تحررت بلدة العيس كما باقي قرى جنوبي حلب في العام 2012 على يد فصائل المعارضة السورية سابقاً، وبعدما قطعت قوات النظام المخلوع شوطاً في معارك “دبيب النمل” لتطويق حلب جهتي الشرق والجنوب، بدأت قوات النظام المخلوع والمليشيات الإيرانية معركة جديدة في الريف الجنوبي بهدف الوصول إلى الطريق الدولي، كان ذلك في العام 2015 حيث توجهت أنظار الميليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني إلى تلة العيس، باعتبارها المفتاح الذي يؤمن حلب عبر الريف الجنوبي، والسيطرة ناريًا على الطريق الدولي دمشق حلب M5، والوصول إلى قريتي كفريا والفوعة اللتين تقطنهما أغلبية من الطائفة الشيعية، وحوصرتا من قبل قوات المعارضة سابقًا.
وحينها نجحت قوات النظام المخلوع والميليشيات في شهر تشرين الثاني 2015 باستعادة السيطرة على تل العيس من قبضة فصائل، بعد معارك عنيفة مع فصائل المعارضة سابقاً، وزارها زعيم فيلق القدس الإيراني “قاسم سليماني” والذي تجول في المنطقة وكانت محطته الأكثر شهرة في بلدة الحاضر القريبة، وفي شهر نيسان 2016 سيطرت فصائل المعارضة على العيس وتلتها من جديد، بعد معارك عنيفة تضمنت تفجير عربات مفخخة، وخسرت حينها قوات النظام المخلوع والميليشيات المئات من عناصرها.
لاحقاً، وبعد التقارب التركي الروسي حول سوريا، حظي تل العيس بأهمية كبيرة بالنسبة للأتراك بعد نشر نقاط المراقبة التركية في منطقة خفض التصعيد، الذي نتج عن محادثات “أستانة”، وعملت تركيا بموجبه على تشكيل 12 نقطة مراقبة في إدلب وريف حلب المجاور، ووضعت نقطة المراقبة في تل العيس في شباط 2018، وتعتبر المنطقة من أعلى المرتفعات في ريف حلب الجنوبي، وكانت سيطرة أي طرف عسكري على التلة تعني تجميد خطوط الجبهات المحيطة، عن طريق استهدافها سواء بالمدفعية الثقيلة أو الرشاشات.
وبرغم وجود نقطة المراقبة التركية، تقدمت قوات النظام المخلوع والميليشيات إلى بلدة العيس، وسيطرت عليها كما تقدمت نحو الطريق الدولي دمشق حلب، وسيطرت على كامل البلدات على جانبيه خلال العمليات العسكرية التي دعمتها روسيا حينها، بين العامين 2019 و2020.
الواقع الخدمي وعودة النازحين
تعاني بلدة العيس من وضع خدمي صعب، حيث ما تزال الكثير من الخدمات الأساسية غير متوفرة أو تعمل بشكل محدود جداً، وفي ظل الدمار الكبير الذي خلفته سنوات الحرب، يعيش السكان عائقاً يومياً في الحصول على المياه والكهرباء، الأمر الذي يزيد من معاناتهم ويعكس الواقع القاسي للحياة في البلدة.
قال أحمد عبد الرحمن باشا (أحد أبناء بلدة العيس) لموقع تلفزيون سوريا إن “حجم التحديات التي يواجهها السكان في تأمين أبسط مقومات الحياة اليومية كبير جداً، مثالها المياه، نعتمد بشكل كامل على شراء صهاريج المياه، حيث تبلغ كلفة الصهريج الواحد نحو 500 ليرة تركية، وتأتي هذه الصهاريج من منهل في بلدة البرقوم، وذلك بسبب عطل في منهل تلة العيس الذي كان يزود البلدة بالمياه سابقًا، هذا الأمر يثقل كاهل الأهالي الذين يعانون أساسًا ضيق الموارد.”
وأضاف باشا أن “الكهرباء مقطوعة بالكامل منذ سنوات، لا توجد كهرباء نظامية في البلدة، لذا يعتمد معظم السكان على ألواح الطاقة الشمسية أو المولدات الكهربائية لتلبية حاجاتهم اليومية، وهذه البدائل ليست كافية ولا تغطي جميع الاحتياجات، يضاف إلى ذلك ندرة الخدمات البلدية، النظافة والطرق وغيرها، يمكن القول إن البلدة بحاجة لإعادة إنعاش كي يسهل على النازحين العودة والبدء بترميم منازلهم”.
وبرغم الظروف القاسية، بدأ بعض أهالي بلدة العيس بالعودة إليها بعد سنوات من التهجير والنزوح، قال مأمون السهو (أحد العائدين حديثاً إلى البلدة) لموقع تلفزيون سوريا إن إعادة التكيف مع العيش في بلدته في ظل غياب الخدمات وتضرر معظم المرافق العامة بما فيها المدارس، يشكل جزء من معاناة عائلته اليومية، ويقول “أنا في سباق مع الوقت لترميم منزلي المتضرر، حتى أتمكن من العودة إلى وظيفتي كمعلم في مدرسة البلدة، لكن المنازل هنا بلا إكساء، وتحتاج إلى عمليات ترميم كبيرة قد تتطلب شهوراً من العمل”.
ورغم الجهود الفردية التي يبذلها العائدون، أشار السهو إلى غياب تام للمنظمات الإنسانية، مضيفا لا توجد أي جهة إغاثية أو خدمية تساعدنا في أعمال الترميم أو تأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة، نحن نتحرك وحدنا، بلا أي دعم. وكشف السهو لموقع تلفزيون عن تفكيك وسرقة منظمة لمرافق البلدة والمنازل كانت قد قامت بها جهات تابعة للنظام المخلوع قبل سقوطه، قال “ضباط من جيش النظام المخلوع وبعد سيطرتهم على البلدة، شغلوا ورشات خاصة بهم، تعمل على تفكيك الأبواب والنوافذ، وتمديدات الصرف الصحي والمياه، وحتى خزانات المياه وحديد الأسقف، في إشارة إلى أن المنازل والمرافق التي لم يطلها الدمار طالتها يد السرقة والخراب”.
قال إبراهيم العلي (مسؤول إحدى ورشات البناء العاملة في البلدة) إن “ورشتنا واحدة من عدة ورشات محلية تحاول مساعدة الأهالي في ترميم منازلهم بأجور رمزية وبسيطة، فالكثير من الناس تريد العودة للعيش في بيوتها بأي شكل، ونحن نعمل بحسب ما يتوفر من إمكانيات مادية بسيطة. ويضيف لموقع تلفزيون سوريا “بسبب ضعف الإمكانيات، يقتصر عملنا غالباً على إيقاف الجدران داخل المنازل لتأمين الحد الأدنى من السكن، لا قدرة مالية لدى معظم العائلات على الإكساء الكامل أو تجهيز المنازل بشكل لائق، معظم عمليات الترميم جزئية وفي كثير من الأحيان ليست بمواصفات فنية وعمرانية مناسبة”.
التقى موقع تلفزيون سوريا المحامي فهد العيسى (نازح عائد إلى بلدة العيس) قال “عودة النازحين إلى بلدة العيس من المتوقع أن تتصاعد في الفترة القادمة، فأعداد العائلات العائدة منذ سقوط النظام المخلوع قليلة، ويرجع السبب إلى أن منازلهم مدمرة وتحتاج إلى ترميم”. العيسى تضرر منزله بشكل جزئي، وبرغم الأضرار القليلة التي لحقت به إلا أنه دفع ما يزيد على 5 آلاف دولار ثمن الأبواب والنوافذ والتمديدات الصحية والكهربائية والمياه. يقول العيسى “بعض المنازل تحتاج إلى مبالغ كبيرة لتصبح صالحة للسكن، وقد يزيد الرقم على 10 آلاف دولار، ومعظم العائلات ليس لديها هذه المبالغ، لذا هم مضطرون لإجراء عمليات ترميم جزئية أو شكلية مؤقتة.
أما أحمد ديب من أبناء بلدة العيس كان موجوداً في البلدة أثناء وجود قوات النظام المخلوع والميليشيات الإيرانية، قال لموقع تلفزيون سوريا، إن “البلدة وغيرها من بلدات ريف حلب الجنوبي كانت أسيرة لميليشيات مجرمة وجائعة، وخصوصاً في العامين الأخيرين قبل سقوط النظام المخلوع، كانوا يقاسمون الناس على خبزهم، محاصيلهم، يعفشون البيوت، ويفرضون الإتاوات على أي شيء أو أي نشاط للناس، وكان شبيحتهم في هذه الفترة أكثر اجراماً، وضرراً وكتابة للتقارير الكيدية بالأهالي بهدف جمع المال وإرهاب السكان وإجبارهم على دفع الأموال مقابل فك اعتقال أبنائهم أو كف شرورهم”.
لم تسلم سهول بلدة العيس وسهول جنوبي حلب عموماً من التخريب، حيث تعرضت بساتين الأشجار المثمرة كالزيتون لعمليات قطع واسعة، فالمنطقة التي تعتبر الزراعة أساساً في اقتصادها المحلي تعاني ندرة مياه الري وشح الأمطار، وهذه عوامل تقف عائقًا أمام محاولات السكان لإعادة الحياة إلى أراضيهم، ربما تنجح الجهود الحكومية لاحقاً في أن توصل مياه قنوات الري القادمة من نهر الفرات إلى سهول جنوبي حلب، وهي آمال غالبية سكان المنطقة التي يطالب سكانها بالتنمية وإنهاء حالة التهميش والإهمال التي كانوا يعيشونها على مدى عقود.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية