«نبض الخليج»
عندما يجري التعامل مع المجال الوطني كجبهة عسكرية، وتتحول القوة إلى أداة لإخضاع المجال الداخلي، يتآكل المعنى السياسي للدولة من أساسه. فالحسم العسكري بين مكوّنات النسيج الواحد يخلخل القواعد التي يقوم عليها العقد الوطني، إذ تترك كل جولة من هذا النوع في الجسد العام ندوباً أعمق من سابقتها، وتحوّل الخريطة السياسية إلى فسيفساء هشة قابلة للتشقق عند أول اهتزاز.
أخطر ما في هذا المسار، إذا ما أسقطناه على “سوريا الجديدة”، أنه يعيد تعريف السياسة نفسها بوصفها امتداداً للمعركة. وحين تصبح أدوات الحرب هي ذاتها أدوات الحكم، تنكمش مساحات الحوار ويتحول التنوع من مصدر غنى إلى ذريعة للإقصاء. وفي مثل هذه البنية، يُقاس الاستقرار بقدرة الدولة على إحكام السيطرة على أبنائها لا على تمثيلهم جميعاً، وهو معيار لا ينتج سوى سلطة متوجسة من مجتمعها، ومجتمع يتربص بسلطته، في دوامة لا تترك مكاناً لبناء عقد وطني متماسك.
تُظهر التجربة السياسية الحديثة أن الاقتصار على الإكراه العاري، من دون بناء توافق اجتماعي، لا يفضي إلى استقرار مستدام.
المجتمعات حين تُصاب بـ”الذهن المهزوم” كما أشار إليه ياسين الحافظ، تميل إلى تصدير أزماتها نحو الداخل، فتبحث عن عدو أقرب، لا لأن هذا العدو يشكّل تهديداً وجودياً، بل لأنه متاح، ولأن مواجهته لا تتطلب مساءلة الذات. وهنا يتحول الصراع من مشروع للبناء إلى تمرين مستمر على إعادة إنتاج ذات البنية السورية المهزومة.
تتجلى الهزيمة حين تنقلب القوة إلى غاية بحد ذاتها، وتنكمش السياسة إلى مجرد إدارة للسيطرة. ويتحوّل المجتمع إلى فضاء مغلق تُدار فيه المعارك ضد الذات الوطنية، ويُقاس النصر بمساحة الأرض الخاضعة، لا بمساحة الثقة المستعادة بين مكوناته.
في مثل هذه اللحظات، يصبح الحسم العسكري بين أبناء الكيان الواحد تعبيراً مكثفاً عن انكسار الفكرة الوطنية. فبدلاً من أن تكون السياسة مجالاً لتوليد الحلول المشتركة، تتحول إلى مسرح لعرض فائض القوة، في حين يتآكل العقد الضمني الذي يجعل من الجماعة السياسية أكثر من مجرد جغرافيا مأهولة.
وعندما تتكرس إدارة الخلافات عبر أدوات القوة وحدها، تنزلق الدولة تدريجياً نحو نموذج “الدولة الرخوة”، أي الدولة التي تملك مؤسسات شكلية لكنها عاجزة عن فرض سلطة القانون على الجميع بشكل متساوٍ، ما يفتح الباب أمام الفوضى البنيوية والانقسامات العميقة.
تُظهر التجربة السياسية الحديثة أن الاقتصار على الإكراه العاري، من دون بناء توافق اجتماعي، لا يفضي إلى استقرار مستدام. فكما يوضح أنطونيو غرامشي، تقوم الهيمنة على مزاوجة القوة بالرضا؛ حيث تتمكن السلطة من ضمان ولاء الأغلبية ليس عبر القسر فقط، وإنما عبر صياغة سردية جامعة تمنح مشروعها شرعية ثقافية وأخلاقية. وعندما يتآكل هذا الرضا، وتتحول أدوات الحكم إلى أذرع إكراه محضة، تتبدد القدرة على إنتاج “كتلة تاريخية” متماسكة تمثل مصالح المجتمع في تنوعه، وتغدو السلطة جهازاً مؤقتاً محكوماً بالانهيار مع أول اهتزاز جدي في بنيته الأمنية.
إن المجتمعات التي تسعى إلى تجاوز أزماتها البنيوية لا تبني مشروعها على قهر الداخل، وإنما على إعادة صياغة المجال السياسي بحيث يتسع للجميع. هنا يصبح الانتصار الحقيقي هو القدرة على تحويل المختلف إلى شريك، والمعارض إلى طرف في المعادلة الوطنية، لا خصماً ينبغي إلغاؤه. أما حين يختار المجتمع أن يقيس ذاته بقدرته على الحسم ضد ذاته، فإنه لا ينجز سوى دورة جديدة من الهزيمة.
السياسة الحقيقية تبدأ حين يُنظر إلى المجتمع باعتباره وحدة متكاملة، وإن أي مشروع سياسي ينجح فقط إذا جعل من المُخالِف جزءاً من الحل لا جزءاً من المشكلة.
يمكن قراءة المنطق القائم على الحسم العسكري في الداخل من خلال منظور “الاستبداد الشرقي” الذي طوّره كارل فيتفوغل، حيث تقوم السلطة على احتكار كامل لمصادر القوة، وتُدار المجتمعات بعقلية الثكنة العسكرية. وفي هذا النمط، لا يُتعامل مع الخلاف السياسي باعتباره اختلافاً مشروعاً، وإنما كتمرد يستدعي الردع الفوري، ما يؤدي إلى تذويب السياسة في منطق الطاعة والانضباط. ويعيد هذا الترتيب إلى الأذهان ما أسماه فيتفوغل “الاستبداد الهيدروليكي”، حيث تُختزل شرعية الحكم في السيطرة المطلقة على الموارد والأفراد، ويتحول الفضاء العام إلى ساحة انضباط دائم.
السياسة الحقيقية تبدأ حين يُنظر إلى المجتمع باعتباره وحدة متكاملة، وإن أي مشروع سياسي ينجح فقط إذا جعل من المُخالِف جزءاً من الحل لا جزءاً من المشكلة. وفي ضوء ذلك، يصبح فرض الحسم العسكري بين مكونات المجتمع الواحد خيانة لوظيفة السياسة ذاتها، لأنه يغلق الأبواب أمام إنتاج أي صيغة جامعة، ويحوّل العلاقة الوطنية إلى معادلة صفرية.
لذا فإن تحويل الخلاف الداخلي إلى ساحة حسم عسكري هو في حقيقته إعادة إنتاج للهزيمة بأدوات مختلفة. فالانتصار لا يتحقق بإسكات الصوت الآخر بالقوة، وإنما بدمجه في نسيج وطني متماسك يراكم طاقاته السياسية والاجتماعية، بدلاً من استنزافها في صراع داخلي بلا نهاية.
إن غياب العقد الاجتماعي المتفق عليه يجعل كل وهم انتصار داخلي انتصاراً فوق رمال متحركة. فالعقد الاجتماعي، كما نظّر له جان جاك روسو وجون لوك، يقوم على مشاركة الإرادة العامة في صناعة القرار. وحين تتحول هذه الإرادة إلى إرادة أحادية، فإن العقد ينقلب إلى وثيقة إخضاع، وينهار أساس الشرعية السياسية.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية