«نبض الخليج»
يطرح اختيار كازاخستان تحويل حاضرتها الحديثة آستانا إلى “عاصمة المكتبات العالمية” هذا الشهر، بالتزامن مع استضافتها المؤتمر العالمي لجمعيات المكتبات والمعلومات، سؤالًا ضروريًا حول قدرة الدول التي لا تُعد قوة عظمى اقتصاديًا أو عسكريًا على أن تحجز لنفسها مكانًا على الخريطة الدولية عبر رمزية المعرفة والكتاب والثقافة. ومدى صوابية مراهنتها كدول “ناشئة” على القوة الناعمة من خلال الفنون والمتاحف والمكتبات، في محاولة لتقديم الذات كوسيط للحوار العالمي لا كخصم أو تابع. الأمر الذي يقود إلى سؤال آخر: هل يمكن للثقافة أن تكون سلاحًا جيوسياسيًا في القرن الحادي والعشرين؟ وهل تكفي المكتبات والمعارض والمهرجانات لتغيير صورة بلد كامل في المخيال العالمي؟
ومع استخدام الدول الكبرى معايير حقوقية في سياق بناء علاقاتها مع الدول الطامحة لأن تجد لنفسها مكانًا بين الأقوياء، كمراجعة سجلات حقوق الإنسان فيها، وحيث إن هذه الملفات معقدة ويحتاج حلها إلى معادلات داخلية تبدو صعبة أو عصيّة، تلجأ هذه الدول إلى أدوات تعزيز ودعم، كالرياضة بوصفها أداة تفاهم تجمع فئات متعددة في كل المجتمعات، وأيضًا الثقافة كفضاء مغرٍ تتجول فيه العقول والأهواء والأفكار.
وضمن هذا المسار، يظهر أن ثمة اشتغالًا من قبل دول عديدة للاستفادة من “الدبلوماسية الثقافية”، لتكون مدخلًا للتفاهم العام، أو مفتاحًا لبناء علاقات تتوازى مع الحراك السياسي، أو فناءً خلفيًا للحوار أو لإحداث اختراق.
الصورة الجديدة التي ترغب أي دولة في رسمها مرهونة بمدى انسجام خطابها الثقافي مع واقعها السياسي والاجتماعي الداخلي. فإذا كان الداخل هشًا أو يفتقر إلى الحريات فإن الخارج سيقرأ هذا التناقض بسرعة
في سوريا، وقبل سقوط نظام الأسد البائد بعدة سنوات، وبينما كانت طائراته تدكّ الأحياء القديمة والمواقع الأثرية في حلب، كانت “السيدة الأولى” أسماء الأسد، وعبر منظمتها “الأمانة السورية للتنمية”، تخترق منظمة اليونسكو في ملفات عديدة، مستفيدة من حياديتها الأممية، لتوصل رسالة كاذبة إلى المجتمع الدولي بأنها تصنع وجهًا حضاريًا لسوريا. فبينما يقوم زوجها بتطهير البلاد من “الإرهابيين” الذين فجّروا آثار مدينة تدمر، تقوم هي بإظهار الوردة الشامية ودعم زراعتها، وكذلك تقديم أوراق عن فنون يجب الحفاظ عليها! وهنا تتضح المفارقة الدموية: فبعد أن اعتقل النظام الفنان المسرحي زكي كورديللو وابنه مهيار مع آخرين من عائلته، المعروف باشتغاله على إحياء فن خيال الظل حتى صار مرتبطًا باسمه على المستوى الوطني، دفعت أسماء الأسد الملف إلى اليونسكو لتحصل على ما تريد أي إضافة هذا الفن كجزء من التراث العالمي بجهودها هي حصراً، دون أن يُذكر الفنان المعتقل مجهول المصير حتى اللحظة ولو بكلمة.
***
في جانب آخر، اكتشفت وزيرة الثقافة الأسبق لبانة مشوح أن وزارتها تستطيع المساهمة في تنظيف صورة النظام عبر الدبلوماسية الثقافية، فقامت، وبالتعاون مع المعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية، بافتتاح دورات وإجراء محاضرات تشرح للمتدربين كيفية استغلال النوافذ المفتوحة ثقافيًا من أجل تقديم محتوى غلافه حضاري ثقافي وجوهره دعائي يخدم نظام الاستبداد!
غير أنه في بلد هجّره مثقفوه بسبب القمع والمذبحة التي استمرت عقدًا وبضع سنوات، لن يكون الغلاف جاذبًا، بل سيظهر تقليديًا باهتًا بلا روح. يُنظّر له بعض كتّاب السلطة عبر استدعاء الإرث الحضاري السوري وحده، أي ذاك الذي تشكّل عبر مئات السنين ولم يساهم فيه الأسديون قيد أنملة، وأيضاً ثقافة الطبخ ورائحة الياسمين، بينما تغيب الفعالية الراهنة ذات القيمة التي كان من المفترض بالسوريين المعاصرين أن يصنعوها. وهكذا تكشف الوقائع كذب “الدبلوماسية الثقافية” المتبعة هنا، إذ لم تكن محتويات الأجنحة السورية في المعارض سوى جدران كرتونية مطلية بألوان تحاكي الحارة الشامية، وعلب “كونسروة”، وبعض القطع القطنية، وأمتار من البروكار الدمشقي.
هذا الاستخدام الرديء والمغرض في آن معًا للدبلوماسية الثقافية يكشف أن الثقافة لا يمكن أن تكون أداة للتفاهم بين البشر دون أن يتمتعوا بالحرية، وأن تكون، بوصفها معطًى عنهم وعن أرواحهم وكينونتهم، مبنية على إرادتهم الحرة.
ضمن مسار الحديث عن هذا النوع من النشاط الذي يقرّب بين الشعوب، يمكن ملاحظة أن من التجارب المعتبرة دوليًا هي تلك التي قام فيها الفرنسيون بنشر ثقافتهم ومسرحهم وأفلامهم ولغتهم عبر مراكزهم الثقافية المنتشرة حول العالم، وكذلك تقديم المنح الفنية السنوية لطلبة المعاهد الفنية، مثل دعوة وفود أكاديمية بشكل سنوي إلى مهرجان أفينيون المسرحي الدولي وغيره. ولعلّ من أبرز الأمثلة على قدرة الدبلوماسية الثقافية على إعادة تشكيل صورة بلد ما: التجربة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية. فاليابان، التي خرجت مهزومة ومدمَّرة، أعادت صياغة نفسها عالميًا من خلال الاستثمار في الفنون، والأنيمي، والسينما، والمطبخ الياباني. هذه الأدوات لم تكتفِ بتلميع صورة البلد، بل جعلته جزءًا من المخيال العالمي المعاصر. ومثال مشابه يمكن رصده في كوريا الجنوبية، حيث تحوّلت الموسيقى الشعبية (K-Pop) والمسلسلات التلفزيونية إلى قوة ناعمة هائلة جعلت العالم ينظر إلى سيول كقوة ثقافية صاعدة، قبل أن تكون اقتصادية أو عسكرية. ومن التجارب الملفتة للدول الناهضة تلك الجهود التي تبذلها تركيا عبر معاهد “يونس إمرة” الثقافية التي تتوسع حول العالم بهدف نشر النتاج الحضاري التركي بين التراث والمعاصرة.
في المقابل، هناك تجارب لم تنجح رغم استثمارها الضخم، مثل محاولات روسيا بعد 2014 تعزيز حضورها الثقافي عبر القنوات الإعلامية والفعاليات الفنية، لكنها لم تُقنع الغرب بسبب الفجوة بين الخطاب والممارسة على مستوى السياسة والحريات. وهذا يعيدنا إلى لبّ النقاش: الثقافة تصبح سلاحًا ذا مفعول حين تكون امتدادًا لمشروع إصلاحي متماسك، لا حين تكون مجرد قشرة خارجية.
أما بالنسبة للدول العربية، فيمكن أن نرى الفارق بوضوح بين التجارب الناجحة – كمشروع دولة قطر في تحويل العاصمة الدوحة إلى منصة ثقافية عالمية عبر المتاحف والمعارض وكملعب رياضي مفتوح على كل الاحتمالات مع استضافة مونديال 2022 لكرة القدم وبطولات كرة المضرب – وبين تجارب أخرى بقيت رهينة الدعاية الرسمية. وهنا يتضح أن الدبلوماسية الثقافية ليست شعارًا، بل التزام طويل الأمد يتطلب استثمارًا في الإنسان، في التعليم، وفي الحرية أولًا.
وبالعودة إلى كازاخستان ومؤتمر الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات (إفلا 2025)، فإن آستانا، التي عرفها العرب كوسيط لعدة سنوات في مفاوضات بين المعارضة السورية والنظام البائد، تريد اليوم، رغم ما يعتور سجلها في حقوق الإنسان من ملاحظات بحسب المنظمات المختصة، أن تجعل المكتبة فضاءً جامعًا يتجاوز الانقسامات، وتظهر كمنصة حضارية تكمن قوتها في تبني الثقافة والمعرفة والعلوم. الأمر الذي يجعلها دولة منفتحة على آفاق عالمية مختلفة، بعيدة عن صورة دولة الغاز والنفط المحصورة بين روسيا والصين. وفي الوقت نفسه، وطالما أن الموقع الجغرافي يلعب دورًا حاسمًا في الصراعات الجيوسياسية، يجب التوقف عند رغبة المخططين لهذه الفعالية في مركزة الأدوار المستقبلية بناءً على ما يؤسسونه في الحاضر. وهذا ما تقوله رسالتهم المعلنة عن المؤتمر، حيث يأملون أن تكون المدينة مصدر إلهام لأفكار جديدة، ومكانًا لمناقشات مثمرة يُصاغ فيها مستقبل المجتمع المهني المحلي. انطلاقًا من القناعة بأن مستقبلًا مستدامًا للجميع ممكن من خلال المعرفة والمعلومات، حيث بمشاركة المعرفة يُبنى المستقبل. وهذا يدعو إلى التكاتف مع الزملاء من دول أخرى لتبادل المعرفة، وتطوير أساليب جديدة، وابتكار حلول لتحسين خدمات المكتبات وتقنيات المعلومات. كما يرغبون أن تكون استضافة المؤتمر في آستانا فرصة لتعزيز تنمية المكتبات المحلية، وتقوية دورها في المجتمع، وتوسيع التعاون بين مكتبات كازاخستان ودول آسيا الوسطى مع المجتمع الدولي.
***
غير أن السؤال الحاسم هو: هل يكفي رفع سقف الطموح الثقافي لتغيير صورة بلد ما؟ هنا تتبدّى حدود الدبلوماسية الثقافية. فالصورة الجديدة التي ترغب أي دولة في رسمها مرهونة بمدى انسجام خطابها الثقافي مع واقعها السياسي والاجتماعي الداخلي. فإذا كان الداخل هشًا أو يفتقر إلى الحريات، فإن الخارج سيقرأ هذا التناقض بسرعة، وستتحول المبادرات الثقافية إلى ما يشبه “ديكورًا” بلا عمق. فالثقافة لا تكتسب قوة إقناعها من المعارض والمؤتمرات وحدها، بل من كونها جزءًا عضويًا من مشروع إصلاحي أوسع يتصل بالعدالة والشفافية والانفتاح.
إلى جانب ذلك، يرتبط نجاح هذه السياسة أيضًا بمدى تقبّل العالم لها. فالمشهد الدولي مليء بمحاولات “غسل السمعة” عبر الفنون أو الرياضة أو الأدب. لكن ما يميّز تجربة عن أخرى هو مقدار الصدقية التي تكتسبها، وهو ما يتوقف على انسجامها مع القيم العالمية في الإصلاح وبناء الجسور، لا مجرد الترويج. الثقافة، كما يشدد أنطونيو غرامشي، لا تعمل في فراغ، بل في سياق صراع الهيمنة حيث يُختبر خطابها باستمرار.
من هنا، فإن مبادرة آستانا تحمل بُعدًا رمزيًا مهمًا، لكنها ستظل مرهونة بقدرة كازاخستان على تحويل الثقافة من أداة عرض خارجي إلى طاقة داخلية تساهم في إصلاح واقعها، ومن ثم في تقديم نموذج ينسجم مع الحاجة العالمية إلى المعرفة كوسيلة للسلام والتنمية، لا كزينة بروتوكولية عابرة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية