لا أعتقد أن أحدا يشك في أن ما يحدث في الصين هذه الأيام هو نقلة نوعية تاريخية ومصيرية للنظام العالمي بأسره.
وليس أبلغ من صورة لقاء الزعماء الثلاثة: فلاديمير بوتين وشي جين بينغ وناريندرا مودي تعبيرا ليس فقط عن نجاح قمة منظمة شنغهاي للتعاون، ولكن، وذلك الأهم، تعزيز وجود منظمة “بريكس”، التي تضم إلى جانب الدول الثلاث (الصين وروسيا والهند)، البرازيل وجنوب إفريقيا وإيران ومصر وإثيوبيا والإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا، لتصبح بذلك أكبر منظمة من حيث النمو الاقتصادي وحجم الناتج المحلي الإجمالي وعدد السكان.
بمعنى أنه العالم الجديد الذي يتشكل أمام أعيننا، فيما رحب جميع المشاركين بمبادرة الرئيس الصيني للحوكمة العالمية التي تقوم على خمس مبادئ: المساواة في السيادة، الامتثال للسيادة الدولية للقانون، التعددية، التركيز على الشعوب، التركيز على اتخاذ إجراءات فعلية.
كم تبدو تصريحات القادة الأوروبيين باهتة على خلفية “شنغهاي” و”بريكس”، بينما يسعى هؤلاء بكل ما أوتوا من قوة للتشبث بالهيمنة الغربية، والاستثنائية الأوروبية الأطلسية، وأوهام التفوق الاستعماري التاريخي الغابر.
لا قيمة لأي من التصريحات التي يدلي بها الزعماء الغربيين سواء في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا سواء فيما يخص فلسطين أو أوكرانيا، فهم ليسوا سوى دمى يتحكم بها لوبي المال والاقتصاد، أو ما يمكن تسميته بـ “مافيا المال والأعمال”، التي لها التأثير الأكبر على سياساتهم وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية.
لهذا لا يجب علينا أن نندهش إذا كان حتى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو الآخر يخضع في الداخل الأمريكي لضغوطات تفرض عليه التقيد بحدود معينة لا يستطيع تجاوزها.
وقد حذف اللقاء المنفرد بين الرئيسين بوتين وترامب قبل ساعات فقط من لقاء ألاسكا، وحذفت ملفات التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا قبل التوصل إلى قرارات حاسمة بشأن التسوية الأوكرانية (تحديدا وقف إطلاق النار المنشود)، كل تلك الحدود الصارمة وضعها هؤلاء، الذين يتحكمون بأوكرانيا وبلدان أوروبا الشرقية ومنطقة الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وإفريقيا.
يمتلك هؤلاء أسلحة كالدولار واليورو والذهب والنفط والغاز، ويسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى زعزعة استقرار روسيا وتفتيتها، أملا في أن تفتح لهم خزائن أوراسيا، التي تقف على أبوابها روسيا والصين ودول آسيا الوسطى.
لكن الصدمة التي تلقتها “مافيا المال والأعمال” بهزيمة صبيانها في أوكرانيا، بعد أن دججهم “الناتو” بالأسلحة والبيانات الاستخباراتية ومعلومات الأقمار الصناعية، وبعد عشرات المليارات من الدولارات واليورو التي ذهب جزء كبير منها إلى مرافئ الأموال الدفينة حول العالم، لحسابات أباطرة هذه المافيا، هذه الصدمة هي ما يدفعهم اليوم إلى قطع غصن الشجرة التي يجلسون عليها، فيقومون بتدمير “السيل الشمالي”، خط الأنابيب الذي كان يغذي ألمانيا بالغاز الرخيص، ويضربون اليوم خط “دروجبا”، وبذلك يضربون الوحدة الأوروبية في مقتل، حيث تستفيد هنغاريا وسلوفاكيا من هذا الخط الحيوي.
إلا أن أطرف ما في الأمر ما يقوم به الرئيس ترامب من أجل “تعزيز” مجموعة “بريكس”، بفرضه عقوبات على الهند، التي تؤكد الظروف الراهنة أن مستقبلها سيكون مع القوى الصاعدة ومراكز التنمية الاقتصادية الجديدة، وعالم التعددية القطبية الذي يثبت وجوده مع كل قمة جديدة ناجحة، سواء كانت “بريكس” في قازان، أو “شنغهاي” في تيانجين.
وقد أعلنت قمة منظمة شنغهاي للتعاون، في بيانها الختامي، عما أسمته “روح شنغهاي”، المتمثلة في الثقة والمنفعة المتبادلتين والمساواة والتشاور واحترام الحضارات المتنوعة والسعي إلى التنمية المشتركة.
ودعا البيان الختامي لـ “شنغهاي” إلى نمط جديد من العلاقات الدولية، الالتزام بالسعي نحو إيجاد أرضية مشتركة وترك الاختلافات جانبا، وإلى التواصل الاستراتيجي والتوافق الجماعي وتعزيز التضامن الدولي والعمل على توسيع نطاق التعاون وتوظيف مزايا الدول المختلفة على نحو جيد لتمثل تكاملا وتضافرا وتدفع نحو تحمل المسؤولية المشتركة لتعزيز السلام والاستقرار والتنمية والازدهار.
وحث الرئيس الصيني شي جين بينغ على تعزيز المواءمة بين الاستراتيجيات التنموية، والتعاون في بناء “الحزام والطريق”، لرفع مستوى تسهيل التجارة والاستثمار والتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتية والصناعات الخضراء والاقتصاد الرقمي والابتكار العلمي والتكنولوجي والذكاء الاصطناعي، والمضي قدما نحو التحديث في عملية المشاركة في النجاح وخلق مستقبل الأجيال الجديدة بشكل مشترك.
ورفض البيان سياسة العقوبات والضغوطات والإملاءات، ودعا إلى الالتزام بالعدالة والإنصاف من خلال تكريس المفهوم الصائب لتاريخ الحرب العالمية الثانية، ورفض عقلية الحرب الباردة والمواجهة بين المعسكرات، وحث الرئيس شي جين بينغ على الحفاظ على المنظومة الدولية ومركزها هيئة الأمم المتحدة، مع دعم منظومة التجارة المتعددة الأطراف المتمحورة حول منظمة التجارة العالمية، ودفع بناء منظومة حوكمة عالمية أكثر إنصافا وعدلا.
مع ذلك جاءت رسالة الرئيس الأمريكي ترامب من مضجعه على موقع “تروث سوشيال”، لتثبت أن الغرب والولايات المتحدة في واد آخر يحارب طواحين الهواء، ويتمسك بأوهام ليس لها وجود على أرض الواقع، حيث كتب مخاطبا شي جين بينغ: أرجو إبلاغ أحر تحياتي إلى فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون وأنتم تتآمرون ضد الولايات المتحدة الأمريكية!
ألم أقل في بداية المقال إنها أخلاق وتصرفات عصابات المافيا؟!
إن قمة منظمة شنغهاي للتعاون هي تحول تاريخي ومصيري غير موجه لأي أطراف ثالثة ولا رابعة، ولا تسعى تلك الدول إلى أي هيمنة أو سيطرة، وإنما تسعى، وبكل بساطة، إلى العدل والإنصاف والمساواة في السيادة والالتزام بميثاق الأمم المتحدة من قبل الجميع بلا استثناءات. أما فيما يخص المافيا، التي تدعم وتنسق وتمول الإبادة الجماعية في غزة، والحرب في أوكرانيا حتى آخر أوكراني، وتخطط للانقلابات والاغتيالات وتغيير الأنظمة وزعزعة الاستقرار حول العالم، فوحدها الحياة والقدر ودورة الزمن والشعوب هي من سيطيح بها، بعد أن تكتشف هذه الشعوب كم وقعوا في فخ تلك العصابات من خداع ونصب واحتيال تحت مسميات براقة مثل “الديمقراطية” و”الحرية” و”حقوق الإنسان”، وغيرها من أدوات لا زال الغرب يستخدمها لخداع من لم يكتو بعد بنيران “المافيا الغربية”.