«نبض الخليج»
في زوايا شقة قديمة في ريف دمشق، تتكدس أكواب متصدعة، صناديق مهترئة، وأكياس بلا ترتيب، كأنها جزر صغيرة في بحر من الأشياء. الغبار يملأ المكان، ورائحة القماش القديم تمتزج بصمت ثقيل، والضوء الخافت يتسلل عبر الشقوق ليحرك الظلال على الجدران. كل قطعة تحمل شعورًا غريبًا بين الأمان والخوف، وكأن الاحتفاظ بها يمنع كل شيء من الانهيار. الاكتناز القهري ليس مجرد جمع؛ إنه صراع بين السيطرة والخوف، بين الحاجة للاحتفاظ بكل شيء وكل ذكرى، وبين الشعور بأن أي شيء يمكن أن ينهار في لحظة.
ما أسباب الاكتناز القهري؟
وفقًا لرأي الاختصاصية النفسية المعتمدة في الولايات المتحدة الأميركية مها ك. الأحمد، يمكن فهم ميل السوريين نحو الاكتناز من خلال عدسة الصدمة المستمرة ونقص الموارد. فتعرض الفرد لفترات طويلة من التوتر يغيّر مناطق في الدماغ مثل اللوزة الدماغية والقشرة الجبهية الأمامية، ما يزيد الحساسية تجاه الندرة ويجعل من الصعب التخلّي عن الممتلكات. ومع استمرار الظروف الصادمة، يصبح التحرر من هذه الآليات التكيفية غير الوظيفية أكثر صعوبة.
وتضيف الأحمد لموقع تلفزيون سوريا: “يمكن للصدمات النفسية أن تقطع شعور الانتماء والأمان الذي نكتسبه من العلاقات بين الأشخاص، مما يجعل هذه الروابط أقل مكافأة. كآلية تعويضية، قد يحوّل الدماغ نظام المكافأة إلى الممتلكات المادية. هذا يخلق دورة، حيث يؤدي اقتناء الأشياء وتكديسها إلى تنشيط مسارات المكافأة في الدماغ، لتصبح بديلاً عن الإشباع العاطفي الذي تأتي به العلاقات الاجتماعية. مع مرور الوقت، يمكن أن يعزز هذا السلوك الاكتناز كآلية تكيفية غير صحية”.
هذا التفسير يسلط الضوء على أن الاكتناز القهري ليس مجرد عادة غريبة، بل هو انعكاس لاحتياجات نفسية عميقة ناشئة عن صدمات متكررة، وفقدان شعور الأمان والدعم الاجتماعي. في المجتمعات التي شهدت نزاعات طويلة مثل سوريا، يصبح الاحتفاظ بالأشياء وسيلة غير واعية لتعويض النقص العاطفي، وهو ما يفسر شيوع هذه الظاهرة بشكل واضح.
تشير الدراسات إلى أن الاكتناز القهري مرتبط بارتفاع مستويات القلق والاكتئاب، وحتى اضطرابات الوسواس القهري. الأشخاص الذين يعانون منه لا يجمعون الأشياء عبثًا؛ كل قطعة تحمل قيمة رمزية، شعورًا بالسيطرة أو حماية لذكريات قد تبدو ضائعة في حياة سريعة ومتقلبة.
تقول لمى (اسم وهمي)، 32 سنة: “لا أعلم إن كان هذا هو الاكتناز القهري المرضي لكن في كل مرة أحاول أن أرمي شيئًا، ينتابني شعور كبير بالذنب وكأنني أخسر جزءًا من نفسي أو أنني أخذل الأشياء بالتخلي عنها أو ربما سأحتاج لهذا الغرض الذي لا يبدو منطقيًا الآن أن أحتاجه، وأجد نفسي عاجزةً عن المضي قدمًا، هكذا صارت الأشياء تتكدس في المنزل”.
المنازل السورية مخازن عاطفية
في السياق السوري، تصبح هذه الظاهرة أكثر وضوحًا نتيجة لسنوات طويلة من النزاع، ضيق المساحات، وصعوبة التخلص من الأشياء، مما يحوّل الممتلكات اليومية إلى مخزون عاطفي لا يمكن التخلي عنه. هنا، يصبح الاكتناز لغة هدوء وسط الفوضى، وسيلة غير واعية لمقاومة شعور بالفراغ والخوف من فقدان السيطرة.
الآثار النفسية والاجتماعية واضحة: الفوضى المستمرة تزيد التوتر، وتفقد المكان قدرته على أن يكون مسكنًا مريحًا، ويؤثر على العلاقات مع الآخرين، الذين غالبًا ما لا يفهمون دوافع الاحتفاظ المبالغ فيه. ومع ذلك، تشير الدراسات والمختصون إلى أن العلاج ممكن، بدءًا من الدعم النفسي، وحتى التدخلات العلاجية المنظمة، التي تساعد على إعادة ترتيب العلاقة مع الأشياء والذكريات.
تشير الأحمد إلى أن معالجة هذا السلوك تتطلب أولًا التخفيف من مصادر التوتر وخلق بيئة مستقرة. بعد ذلك، يمكن ممارسة التخلّي التدريجي عن الأشياء، باستخدام تقنيات اليقظة الذهنية والعلاج السلوكي المعرفي. وعندما يصبح السلوك مبالغًا فيه ويؤثر على الحياة اليومية، يُنصح باستشارة أخصائي نفسي. تساعد التدخلات العلاجية مثل العلاج السلوكي المعرفي على إعادة برمجة استجابة الدماغ للندرة وتقليل الرغبة القهرية في الاكتناز.
في النهاية، الاكتناز القهري يروي قصة صامتة عن الخوف، الذاكرة، والرغبة بالتحكم في عالم صغير وسط عالم أكبر يهرب من تحت أقدامنا. كل كوب مشقّق، كل صندوق مهترئ، ليس مجرد غرض بلا قيمة؛ إنه شهادة على حاجة الإنسان للبقاء، وعلى حفاظه على شيء ثابت وسط كل شيء متغير.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية