«نبض الخليج»
ثمة تجربتان تُلهمان السؤال عن السياسة في هذا الزمان السوري الراهن، هما: العصبيات، والبندقية، الأولى لأنها اندمجت بالسياسية، والثانية لأنها انفصلت عنها؛ فالعصبيات في سوريا صعدت أخيراً بصورةٍ فجةٍ، وتغوَّلت حتى على مفهوم الدولة، ولم تبقِ للعقلِ مطرح، وما تزال البندقية إلى الآن مفصولةً عن العقل السياسي، ومن ثم غابت أيُّ فكرةٍ ناجزةٍ للمؤسسة العسكرية، وصولاً إلى ظاهرةٍ يمكن أن نسميها “سُكنى مؤسسات الجيش فصائلياً”، ومن ثم غزو العصبية على الثكنات وصولًا إلى تفعيل مصطلح “المجزرة” في حياتنا من جديد، وصار لزاماً علينا أن نواجه تأثير هذا التفعيل في سلوك الناجين مصادفةً، والضجيج الناتج من توقيع الموت على الأحداث كلها.
عُدنا نحن السوريين جميعاً إلى وضعية التفكير بوصفنا ناجين مصادفةً، وهذا نوعٌ من التفكير قد اختبرناه جيداً، فطوال أربعة عشر عاما كنَّا نتدرب على التفكير في ضوء الألم، على أنقاض مفهوم الإنسانية.
ولأنّ الناجين أقليةٌ؛ فإن الذين لا يزالوا يفكّرون أقليةً، صار يُنظر إليهم أخيراً وكأنهم فائضون عن الحاجة! النجاة في هذه الأحوال، لا تعني الفكرة الحيوية والجسدية فحسب، بل تمتد إلى ما هو معنوي، وتوازنٌ نفسي، ووجداني، وتمتد إلى تركيبة اللاوعي الناظمة للسوك.
النجاة اليوم بدقة نجاةٌ من الجماعة العصبية أياً يكن نوعها، سواء كانت عصبية “بني أميّة” أو “بني معروف”، أو “كردادييَتي” (Kurdayetî)، أو أي عصبيةٍ، فالأمر سيان، لذلك، وبهذا المعنى، قد نقول إنّ الناجين أقليةٌ، ولكنَّهم الأقلية التي من رحمها يُولد الأمل بسُكنى سورية سياسياً، لا فصائلياً، ولا عصبياً.
من المفروض أن يكون السؤال عن السياسة لاحقاً، لأنّه ينتمي إلى نوعٍ من الأسئلة يمكن أن نسميها “الأسئلة الثواني”، أي إنّنا نفترض أن مَن يطرح هذا السؤال، ومَن يبدأ ورشة التفكير في الإجابة عنه، قد طرح قبله السؤال عن الإنسان، وأنجز إجابةً عنه ترضي عقله وضميره بوصفه السؤال الأول.
كان على الإنسان أيضاً أن يكون حراً، بالمعنى الأوَّلي، لكي يكون عضواً في المدينة (في السياسة)، أي ألّا يكون خاضعاً لسلطة أحدٍ أو جماعة، أي ألّا يكون عبداً في معايير ذاك الزمان، وهذا يعني ألّا يكون جزءً من عصبيةٍ بمعايير عصرنا السوري..
فالسياسة في النهاية ليست غايةً بحد ذاتها، إلا لأن وظيفتها حماية الحياة، بالمعنى الواسع لكلمة حماية. هذا من جهة؛ ومن جهةٍ أخرى، السياسة ضرورةٌ لتحقيق الحرية؛ اليونانيون القدماء، مثلًا، لم يميزوا كثيراً بين أن يكون المرء حراً وبين أن يعيش في “المدينة” التي كانت تعني السياسة (Polis).
ولكن، كان على الإنسان أيضاً أن يكون حراً، بالمعنى الأوَّلي، لكي يكون عضواً في المدينة (في السياسة)، أي ألّا يكون خاضعاً لسلطة أحدٍ أو جماعة، أي ألّا يكون عبداً في معايير ذاك الزمان، وهذا يعني ألّا يكون جزءً من عصبيةٍ بمعايير عصرنا السوري؛ أي إننا يمكن أن نقول: إنّ الجماعات التي تتكون من عصبياتٍ طائفية، أو دينية، أو إثنيةٍ، أو قبلية، أو أيديولوجية، لا ترقَ لتكون جماعات سياسية، والفرد الذي يُعرِّف ذاته في الفضاء العمومي، انطلاقاً من هذا النوع من الانتماء لن يكون كائناً سياسياً، ولن ينجح في الارتقاء بعقله إلى العلوم السياسية بالمعنى الحديث.
وقد طرح اليونانيون القدماء تساؤلاً يبدو اليوم سؤالاً سورياً مهماً: إذا كان الإنسان قادراً على العيش خارج المدينة (polis)؛ فهل يستطيع أن يحيا خارج أفق السياسة؟ يعني إذا استمر السوريون في العيش ضمن العصبيات، فهل في مقدورهم الحياة خارج أفق السياسة؟
تمنَعُ العصبيةُ الإنسانَ من أن يكون حراً، ومن ثم تمنعه من السياسة كما كان يُمنع العبيد من عضوية البوليس، حتى إنّ المؤرخ الألماني العظيم “كريستيان مومسن”، قد ترجم كلمة “العائلة” (Familia) من الرومانية القديمة بـ”العبودية”؛ وفي هذا السياق حدد سببان للعبودية، السبب الأول يستند إلى فكرة “رب العائلة” (Pater familias) بوصفه مَلكاً مطلقاً، أو مستبداً، لا يُسمح أن يكون له نظراء مساوين له في القيمة، هذا يشبه فكرة “الأب القائد”؛ فالأب، في الثقافة العائلية، لا يمكن التمرد عليه، والأهم، لا يمكن تغييره لمجرد أنّه لا يقوم بواجبه، أو لأنّه يظلم أبناءه، بل ينبغي أن يُحترم ويُطاع أخلاقياً أياً تكن صفاته، تفادياً للعقوق.
ولو فكَّرنا في هذه المسألة لوجدنا أنها موجودة بيننا إلى الآن في كلمة أهم من كلمة “عائلة” لم يهتدِ إليها لا الرومان ولا “مومسن”، ولا الغرب كله، وهي كلمة “العصبية”، و”زعيم العصبية” الذي صار رمزاً للكرامة، وأباً للجمع الكبير الذي لا يُفكِّر!
والسبب الثاني، الذي استند إليه مومسن، وهو أنّ الجماعة التي تخضع لحكم الرجل الرمز لا تترك مجالاً للرأي المخالف، وتقمع الفرد، وتُنمِّطُ الناس، وتخلق الشخصية الأساسية التي تصير مشتركةً بين الجميع، وكأنها تخلق أعضاء العصبية نسخاً ولصقاً، وتصير وحدة الجماعة لا تعني شيئاً سوى هذا النسخ واللصق، ومن ثم أي نقدٍ لهذا “القائد الرمز” رئيس العصبية، وكاربُ نعرتها، يوازي السعي إلى “شقِّ الصف” الذي قد يرقَ إلى الخيانة العُظمى؛ لذلك يسود التقليد ويترسخ، ويصير مفهوم الفرد مبتذلًا وصولًا إلى قول دريد بن الصمَّة الذي استشهد به ابن خلدون:
- وما أنا إلا من غزيَّة إن غوت غويتُ، وإن ترشد غزيَّة أرشدِ
هكذا، على سبيل المثال، فزعت العشائر في سوريا (أو غوت) بصحبة “الجيش المسكون فصائلياً”، وحدثت مجزرة، وهكذا تفاعلت السويداء، وعظَّمت “الشيخ القائد” لشد النعرة، وصولاً إلى طلب الانفصال وتقرير المصير، والسؤال المهم: أين السياسة في كل هذا؟
السياسة قد غابت، لأنّ العصبيات وُصِلَت بها، والبندقيةُ فُصِلَت عنها، والتفاعل الناتج من هذا الوصل والفصل هو “الرعوية”؛ فالسياسة في الأصل ضربٌ من العِناية بالذات، يكون فيه الفاعل والمفعول به واحد، من قبيل “ساسَ الشعب ذاتَه”، أي اعتنى بذاته بالمعنى الذي طرحه هايدغر لمفهوم العناية (Die Sorge)، أي جعلَ من نفسه موضوعاً لتفكيره، أو جعل نفسه بؤرة تفكيرٍ وتدبيرٍ، وبهذه العناية حوَّل نفسه من شيءٍ إلى موضوع، وابتكر ذاته وروحه، وهذا هو جوهر فكرة المدينة اليونانية التي منها بدأت السياسة، وهذا أيضاً جوهر فكرة الديمقراطية، وتعريفها المدرسي: “حَكَمَ الشعبُ ذاتَه”.
تحضر السياسة بحضور الفكرة الأوليّة الآتية: بقاء المختلفين معاً، أو طريقة تدبيرهم لهذا البقاء، هو الذي يضمن مواصلة وجودهم؛ ويخلق للحرية فضاءً، وهذا الفضاء هو الفضاء العمومي..
وأمّا الرعوية فهي التي تنتج من تفاعل العصبية مع السياسة، وتؤدي إلى العناية، ولكن بمعنى الرعي، فلا يبقى من السياسة إلا المعنى اللغوي الذي تفيد به المعاجم العربية، والذي لا بد أن يتضمن فاعلاً (راعياً)، يختلف عن المفعول به، من قبيل “ساس الرجلُ الدوابَ”، ولا تساس الدواب، ويتم الاعتناء بها، إلا ليُنتَفَعَ بها، فإن زال نفعُها غابت العناية بها، وإن صارت عبئاً تمَّ التخلّص منها، وصارت شيئاً فائضاً عن الحاجة.
تحضر السياسة بحضور الفكرة الأوليّة الآتية: بقاء المختلفين معاً، أو طريقة تدبيرهم لهذا البقاء، هو الذي يضمن مواصلة وجودهم؛ ويخلق للحرية فضاءً، وهذا الفضاء هو الفضاء العمومي، والوسط الملائم للتفكير بصورة تشاركية في معنى السياسة؛ وكما قالت الرائعة حنا أرندت: “عندما نضع السياسة قبل الشراكة فإننا نسوِّغ إمكانية خيانتها”.
أخيراً، قد يكون السؤال عن إمكان السياسة في هذا البلد أهمُ سؤالٍ يمكن أن نطرحه على ذواتنا في سوريا هذه الأيام، ليس لنجيب عنه فحسب، بل لنجني ثمرات التفكير في الإجابة عنه؛ فهذا النوع من الأسئلة يبتكر إجاباته ابتكاراً، أو يخلقها بوساطة تغيير الواقع، بدلاً من التسليم به كما هو، تغييره بالتفكير لا بالبندقية.
لذلك لا يمكن أن نجيب عن هذا السؤال إجابةً سريعةً بـ”نعم” أو “لا”، من دون أن نخون معناه، وفي خيانة معنى هذا السؤال خيانةٌ لذواتنا، ولمستقبل أطفالنا، التفكير في الإجابة، ينبغي أن ينطلق ممَّا كان يسميه كانط “التفكير الواسع”، وهو القدرة على أن نفكِّر من الموقع الذي يحتله أيُّ شخصٍ آخر.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية