جدول المحتويات
«نبض الخليج»
نعرف منذ مقاعد المدرسة أن الضوء ليس لونًا واحدًا، بل طيفٌ متدرج يميل في طرفه إلى الأزرق وفي طرفه الآخر إلى الأحمر. أثناء الخسوف الكلي، تقف الأرض بين الشمس والقمر، فتحجب ضوء الشمس المباشر، غير أن بعض الضوء ينكسر عبر الغلاف الجوي للأرض فيصل إلى القمر مُرشَّحًا.
الجزء الأزرق يتبعثر كما في زرقة السماء، بينما يمر الأحمر أكثر، فيغمر القمر بلونٍ دموي يثير الرهبة. ولهذا اللون ارتبطت الظاهرة منذ القدم بالخوف والدماء والحروب، فيما نعرف اليوم أنها آية فلكية طبيعية تتكرر وفق نظام كوني صارم.
الخسوف في الموروث العالمي: طقوس وأساطير
من جنوب كاليفورنيا حيث اعتقدت قبيلة لويزينو أن القمر يمرض ويحتاج صلواتٍ للشفاء، إلى أفريقيا التي رأت في الدم القمري غضبًا إلهيًا يستدعي القرابين، إلى بابل حيث كان الخسوف نذيرًا بنهاية حكم ملكٍ يهاجمه الشيطان، وصولًا إلى الهند حيث يمتنع الناس عن الطعام والشراب خشية فساد الغذاء؛ في كل حضارةٍ نجد خيطًا واحدًا: الخسوف حدثٌ جلل يزلزل اليقين، فيستدعي الطقس والأسطورة.
كما ربطت بعض المعتقدات بين الخسوف والحوامل: في الجزيرة العربية، إن لمست الحامل بطنها أثناء الخسوف وُلد الطفل بوجهٍ أسود أو أزرق. وفي تقاليد أخرى، تلجأ النساء إلى غرفٍ مظلمة أو يضعن آنية ماءٍ على السطوح لغسل أثر اللعنة.
حيتان وتنانين: رمزية الابتلاع الكوني
كثيرة هي الأساطير التي رأت في الخسوف ابتلاعًا للقمر: حوتٌ عملاق في معتقدات بعض العرب، تنينٌ سماوي عند الصينيين، وشياطين العالم السفلي عند العراقيين. وفي كل الأحوال، يهبّ الناس لإنقاذ قمرهم: بالصراخ، بقرع الطبول، أو حتى بإطلاق الرصاص في الهواء.
سورية والجزيرة: ذاكرة الطقوس الشعبية
في سورية، كما في غيرها، حظي خسوف القمر بمكانةٍ خاصة في الذاكرة الشعبية. ولأن الخسوف يقع ليلًا فيحجب النور، كان أشد وقعًا على النفوس من كسوف الشمس الذي يقع نهارًا. في الجزيرة السورية تحديدًا، شاع الاعتقاد أن حوتًا ضخمًا ابتلع القمر، وأن من واجب الناس تخليصه. فكانت النساء يقرعن الأواني المعدنية وهنّ يرددن:
حوته بالله يا حوته… خلّي قمرنا يفوتا
بينما الرجال يطلقون الأعيرة النارية أو يضربون بالسيوف والرماح في الهواء لإرعاب الكائن الخرافي.
وحتى أوائل القرن العشرين، كما رصد المستشرق النمساوي موزيل عام 1909م، كان البدو يخرجون جماعات: النساء يضربن القدور، والرجال يمتطون خيولهم لمطاردة أنثى الحوت التي قضمت القمر. كانوا يعتقدون أنهم بذلك ينجحون في إنقاذه في كل مرة.
ومع ذلك، لم يكن أهل الجزيرة السورية يعرفون أو يمارسون صلاة الخسوف كما وردت في السنة النبوية، بسبب تفشي الأمية وضعف التعليم الشرعي آنذاك. واليوم، ومع انتشار التعليم والإعلام، بدأ هذا الطقس يتراجع، ولم يبقَ منه إلا مظاهر فردية، كإطلاق النار في الهواء، بينما تحل صلاة الخسوف والدعاء محل الأساطير القديمة.
بين الأسطورة والشرع: موقع الإسلام
في الإسلام، جاءت الرؤية واضحة: الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، وإنما يُخوّف الله بهما عباده. والرسول ﷺ شرع صلاة الخسوف ركعتين طويلتين، مع الدعاء والاستغفار والصدقة، لا ضرب القدور ولا إحداث الضجيج.
العلم الحديث: فكّ الطلسم الكوني
اليوم، وبعد قرونٍ من الخوف والطقوس، يضع العلم مفتاحه: الخسوف يحدث عندما تقع الأرض بين الشمس والقمر في طور البدر، ويستمر نحو مئة دقيقة، ليغمر القمر ضوءٌ أحمر مُرشَّح من الغلاف الجوي. لا خطر على النظر إليه، ولا تأثير له على الحوامل أو على شفاء الجروح أو فساد الطعام.
الخاتمة: الجغرافيا الخفية للظاهرة
القمر الدموي ليس مجرد حدثٍ فلكي، بل مرآةٌ لثقافات الشعوب وذاكرتها. في سورية كما في الصين أو بابل أو أفريقيا، كان الخسوف شاشة عرضٍ للخيال الشعبي: حوت، تنين، شياطين، أو لعنة على الملك. واليوم، ومع وعي العلم والدين، تحوّل من مصدر رعب إلى درسٍ في جمال النظام الكوني ودقته.
إنه مثالٌ ساطع على كيف تحوّل الإنسان من أسر الأسطورة إلى وعي العلم، ومن الطقس الشعبي إلى شعيرةٍ إيمانية، محتفظًا دومًا بذلك الحس الغامض بأن القمر أقرب إلينا من مجرد جِرمٍ في السماء: إنه جزءٌ من وعينا الجمعي، من جغرافيا الخوف والأمل معًا.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية