«نبض الخليج»
هل كان من الممكن تجنب الكارثة الإنسانية والسياسية التي حدثت في السويداء في تموز الماضي والمستمرة لليوم؟ وهل كان بالإمكان حل أي خلاف سوري بالحوار والعقل بدلاً من لغة العنف وفرض الهيمنة بالقوة؟
سؤال يبدو أنه تجاوز مرحة الجدل وصولاً للإنكار وانفتاح خطاب الكراهية والتحريض الطائفي على مصراعيه ومن دون روادع والترويج المفتعل لتفتيت الهوية السورية بشكل استقطابي حاد. فهل يمكن أن نتكاشف بجرأة من دون إنكار الواقع؟
لقد تحول خلاف الرأي والتوجه حول قضايا الحكم وشؤونه وطريقة إدارة البلاد سياسياً، حول الإعلان الدستوري وتفاصيله، حول توجهات وسياقات البناء على أرضية موروث محطم ومدمر يقترض التعاون والتعاضد والتشارك، إلى خلاف حاد مرفوق بالعنف والتعنت وتضارب المشاريع السياسية قصيرة النظر والبعيدة كل البعد عن أسس بناء المؤسسات والدول، ما مهد الطريق لاستخدام القوة العسكرية في فرض شروط مشروع على آخر. والنتيجة أن سلطة الحكومة الانتقالية التي لجأت للحل العسكري الأمني في السويداء لم تتمكن من فرض وبسط سيطرة الدولة وشروطها على السويداء، وليس فقط، لم تتمكن من إنهاء من تسميهم بالفلول والخارجين عن القانون وأصلاً لم تحددهم بقوائم اسمية معلنة، وهنا نحتاج قليلاً من التدقيق. بالمقابل مشروع الانفصال وإقامة دويلة في السويداء أثبت أنه مجرد أحلام وأفكار ومشروع سياسي خارجي لا يرتقِ لمصاف الوقائع السياسية من حيث الإمكانات والقدرات المحلية أو من حيث الواقع الإقليمي والدولي.
فما هي النتيجة إذاً؟ وهل ستتوقف المسألة هنا؟ وهل سنشهد تبدلات ومفاجئات في المشهد السياسي السوري مرة أخرى؟ أم سنراجع الأخطاء وننتقدها بجرأة؟
لم تزل الفئات الخارجة عن القانون وما يسمى بالفلول في عموم سوريا قادرون على إحداث خرق للمشهد السوري بكل لحظة.
بغض النظر عن الأسباب الفعلية التي أوصلت سوريا والسويداء لهذه المرحلة الكارثية، سواء المعلنة منها أو التي حيكت في كواليس ودهاليز الغرف الاستخباراتية المظلمة ولم تزل مخفية لليوم ولم تفصح الوقائع عن اكتمالها، لكن يستوجب التحذير من إمكانية حدوث كوارث أخرى يحتمل وقوعها بأية لحظة مادامت مبرراتها قائمة. في حين أن النتيجة الأوضح لليوم يمكن رصدها بمؤشرات عدة قادرة على صياغة تصور عمومي لتجنب تكرار ما جرى وفق عدة مستويات:
– استخدام الحل العسكري الأمني دلالة على إجهاض إمكانية الحوار الوطني، وليس فقط بل دلالة على ذهنية وعقلية فرض شروط القوة والهيمنة، وهذا ما يتخارج مع أسس بناء الدولة التي لم تزل قيد التأسيس.
– لم تعمل السلطة الانتقالية لليوم على تدريب عناصر وزارة الداخلية بشكل مهني وقانوني للتعامل مع إشكالات الواقع السوري وتركته الفصائلية، ولازالت القوة الضاربة للفصائل في وزارة الدفاع لا تمتلك عقيدة العمل على الدفاع عن حدود البلد الخارجية وعدم التدخل في الشؤون السياسية المحلية، وليس فقط، لم تزل العناصر والجماعات المتطرفة موجودة بين طياتها وهذا سؤال يجب أن تكون الإجابة واضحة عليه، وعلى وزارتي الدفاع والداخلية تحمل مسؤوليتها تجاهه.
– لم تزل الفئات الخارجة عن القانون وما يسمى بالفلول في عموم سوريا قادرون على إحداث خرق للمشهد السوري بكل لحظة، سواء هي من افتعلت أحداث الساحل مباشرة، أو من كانت أحد أسبابه غير المباشرة في السويداء. وفي جميع الحالات يجب إعلان أسماء هذه الفئات ومنع التعميم والتحريض على مكون كامل لكونه يغذي فكرة الانقسام والتشتت السوري عموماً.
– صدمة الوجدان السوري في السويداء وعموم سوريا بحجم وطريقة المجازر المرتكبة كبيرة ويصعب استيعابها بعد، وأشكال التعبير عنها لليوم شعورية ونفسية مرتفعة وغاضبة، فالوجدان النقي والعميق مصاب في صدمة ذهول واسعة أمام هول ما حدث. وهنا يجب التمييز بينها وبين أصحاب المشروع الانفصالي من الأساس سواء من حيث الأدوات والطريقة والتوجه، فرفض العنف ومجرياته حق انساني ووطني عام، وهذا مختلف عن مشروع شبهة الانفصال.
– ثمة تحول خطير في الخطاب السوري بات يحمل معايير الإنكار والتهكم الشديد من كل الأطراف، تصل لدرجة القطيعة النفسية بين مكونات الشعب السوري، وللأسف عاد التصنيف القبلي للظهور على ساحة المشهد السياسي والثقافي العام وهذا جرس إنذار خطر كبير.
– رغم أن مشروع الانفصال والإدارة الذاتية لم يكن له رصيد في السويداء سوى القليل والنادر، لكن فعل الهيمنة بالقوة للسلطة الانتقالية جعله أكثر بروزاً، فالوجدان المحلي المصاب بمقتل بات يفقد الثقة بإمكانية التفاعل المستقبلي سورياً وهذا خطر عام، حيث باتت الأصوات الرافضة للانفصال سابقاً تنادي بذات الشعارات السياسية للحالة الانفصالية، رغم الاختلاف الواسع والحاد بين حوامل هذه وتلك. فالأولى مشروع سياسي مصنوع استخباراتياً وهو قديم منذ انتفاضة ساحة الكرامة ولم يجد له موضع قدم في السويداء، والثاني تعبير نفسي وشعوري.
– الواقع التعليمي في السويداء يبرز بوضوح كخلاصة للتناقضات السابقة، فطلاب السويداء في الثانوية العامة لم يتمكنوا من تقديم امتحاناتهم، ومثلهم طلاب الجامعات سواء داخل السويداء بسبب انهدام البنية التحتية للكليات أو جامعات القطر بسبب خطورة الذهاب للجامعات أمام التحريض الإعلامي الكبير. كما أن مدارس وكليات الجامعة في السويداء من الصعوبة بمكان أن تباشر العام الدراسي الحالي لأسباب متعددة أهمها تحول عديد من المدراس لمراكز إيواء وتدمير ثلث مدارس المحافظة. ولا ننسى الوضع المادي المزري وانقطاع الرواتب، وبالنتيجة جميع هذه العوامل تهدد مستقبل عشرات الألاف من الطلاب. إضافة لاستمرار نزوح عائلات وسكان القرى الاثنان والثلاثون من بيوتهم ويقيمون في المدارس والمرافق العامة في السويداء، في حين ملف المختطفين والمختطفات يشكل عبئاً نفسياً ووجدانياً عاماً.
إن كانت أي مرحلة انتقالية عرضة للاهتزاز كما في كل ثورات العالم والتاريخ، لكن يجب أن يبقى منسوب الوطنية حاجزاً أمام التدهور لما لا يحمد عقباه.
– المستفيد من المشهد الحالي في السويداء وسوريا هي إسرائيل، والتي تسعى بكل صلف للتلاعب بالداخل السوري بغرض فرض شروطها السياسية في اتفاقات أمنية وسياسية حسب رغبتها، وللأسف كل من الحل العسكري وجماعات الانفصال قدماها لها على طبق من ذهب!
الواقع بمجمله يبدو قاتماً وفوضوياً وتجتاحه التناقضات من كل جنباته، ولا يبدو أن هناك انفراجات قريبة، وأي ملف من الملفات السابقة يحتاج لدراسات وطرق حل تزيد من كاهل الكارثة السورية بالأعوام السابقة، وطرح الحلول يجب أن يراعي الشروخ النفسية والاجتماعية المستحدثة. والمعروف جيداً أنه أياً كانت الحلول السياسية المطروحة، ما لم تترافق بعلاج الأزمات الاجتماعية ومشكلاتها الحالية، فستبقى مبررات افتعالها قائمة، وهذه تتطلب طرقاً مبتكرة لا تكتفي بالجمل التنظيرية بقدر الاستفادة من تجاربنا السورية طوال الأعوام السابقة سواء من كوارث النزاع المسلح أو هيمنة لون واحد على البيئة السورية الغنية والمتنوعة ثقافياً والراغبة بالاستقرار والأمان، أو من تجارب الدول القريبة من المشهد السوري وآليات العمل على حلها.
في حديث مع العديد من السوريين الذين يشبهوننا، خاصة في توجههم العام لمنع مبررات العنف والتمزيق الطائفي، والاستقواء بالوجدان السوري المتعب والمنهك، كانت جملة “رفع منسوب الوطنية السورية” هاجساً عاماً يستند لنقاش جملة الأخطاء المتكررة لليوم في المرحلة الانتقالية. فإن كانت أي مرحلة انتقالية عرضة للاهتزاز كما في كل ثورات العالم والتاريخ، لكن يجب أن يبقى منسوب الوطنية حاجزاً أمام التدهور لما لا يحمد عقباه، وبالضرورة أهم روافعها هو الانفتاح والاستماع الجيد والمكاشفة النقدية بجرأة والعمل بأدوات سياسية لا تشبه المعمول به لليوم، والأهم الحفاظ على بوصلة الثورة السورية، سوريا دولة لكل السوريين، مهما بلغت الصعاب والتحديات..
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية