«نبض الخليج»
لم يكن ما جرى في الدوحة من استهداف إسرائيلي حدثًا عابرًا في سجل الصراع العربي–الإسرائيلي، ولا يمكن اختزاله في كونه مجرد اعتداء عسكري إسرائيلي استهدف وفدًا مفاوضًا من حركة حماس. فالواقعة، بكل ما حملته من جرأة إسرائيلية في تجاوز كل الأعراف والمواثيق الدولية، جاءت لتكشف عن مرحلة جديدة تمامًا في مسار المواجهة المفتوحة في المنطقة.
وإسرائيل لم تكتفِ بتوسيع حربها على غزة والضفة الغربية، ولم تقتصر على ضرباتها المتكررة في سوريا ولبنان، بل نقلت ساحة الصراع إلى عاصمة خليجية تمثل منذ سنوات مركز ثقل للوساطات والتسويات السياسية، وتحوّلت إلى عنوان دبلوماسي حاضر في كل الملفات الإقليمية.
بهذا المعنى، لم يكن الاعتداء موجَّهًا ضد وفد فلسطيني فحسب، بل ضد الدور الذي تمثّله قطر في حماية المسار السياسي والمفاوضات، وضد الفكرة ذاتها التي تقول إن الدبلوماسية يمكن أن تُشكّل بديلاً للحرب. لذلك، لم يكن مستغربًا أن تُترجم هذه الصدمة سريعًا إلى استنفار سياسي عربي–إسلامي واسع، تُوِّج بانعقاد قمة إسلامية استثنائية في الدوحة، حملت رسائل أبعد بكثير من بيانات التضامن التقليدية.
فقد وجدت الدول المشاركة نفسها أمام استحقاق لا يمكن تجاوزه: هل تترك إسرائيل تُكرّس مبدأ القوة والاغتيال كأداة وحيدة لإدارة المنطقة، أم تُفتح صفحة جديدة عنوانها تحصين السيادة الجماعية، وربط الاستقرار الإقليمي بحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية؟
والواقع أن الاعتداء على الدوحة كشف عن خلل بنيوي في معادلات الأمن الإقليمي، وأظهر بوضوح أن إسرائيل لم تعد تقف عند حدود جغرافية في مغامراتها العسكرية. لكن المفارقة أن الضربة، بدل أن تكسر قدرة المنطقة على المبادرة، دفعتها إلى اصطفاف غير مسبوق خلف قطر، وأعادت وضع فلسطين في قلب المعادلة العربية والدولية، بعد سنوات من محاولات تهميشها أو إدخالها في سياقات فرعية مرتبطة بصراع المحاور أو النزاعات الطائفية.
من هنا جاء خطاب أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي أعاد صياغة الاستراتيجية الإسرائيلية أمام الجميع، تلك الاستراتيجية التي بدأت من حرب مفتوحة على غزة، وضغوط على أهالي الضفة، وضربات مستمرة في لبنان وسوريا، واستهداف مباشر للدور التفاوضي القطري، بما يعني أن الهدف الحقيقي هو تفكيك المنطقة وإدخالها في حروب أهلية وانقسامات لا تنتهي.
هناك إرادة لجرّ القوى الغربية نحو موقف أكثر حزمًا، وربما نحو اعترافات جديدة بالدولة الفلسطينية.
وخطابه لم يكن توصيفًا، بل تحذيرًا مقرونًا بتعهد واضح بأن الدوحة سترد سياسيًا ودبلوماسيًا، وأنها ستعمل على تحصين الموقف العربي خلف القضية الفلسطينية، باعتبارها المدخل الوحيد للاستقرار.
الرئيس السوري أحمد الشرع اختصر بكلمات قليلة، لكنها مكثفة في دلالاتها. بيت الشعر الذي استعان به حمل في طياته دعوة إلى الصرامة والشجاعة، وإلى اعتبار أن السلام لا يولد من الأقوال بل من الأفعال. ربما لم يرد الشرع الخوض في تفاصيل سياسية مطوّلة، لكنه أراد تثبيت معادلة أساسية: أن المنطقة لم تعد تحتمل المزيد من الانتظار أو التسويف، وأن الوقت حان لقرارات حاسمة تُجبر إسرائيل على التراجع.
أما الرئيس اللبناني جوزيف عون فقد ذهب إلى بُعد آخر، عندما أكد أن الاعتداء على قطر هو اعتداء على العرب أجمعين، وأن الرد يجب أن يكون جماعيًا. وهذا الخطاب عكس رغبة لبنانية في إعادة وصل البلد بالموقف العربي، وفي الالتحاق بجبهة سياسية جماعية، بعدما عانى لبنان طويلاً من انقسامات داخلية عطّلت دوره الإقليمي.
ومخرجات قمة الدوحة بدت متقدمة عن القمم السابقة. فبدلاً من الاكتفاء ببيانات شجب وإدانة، جرى تثبيت معادلات عملية: لا استقرار بلا دولة فلسطينية، ولا تهدئة بلا وقف للحرب، ولا أمان بلا قدرات دفاعية مشتركة. الدعوة إلى اجتماع عاجل لوزراء الدفاع الخليجيين كانت بمثابة إعلان أن زمن الاعتماد الأعمى على المظلة الأمنية الأميركية قد انتهى، وأن على الخليج أن يبحث في بناء منظومة دفاعية خاصة به.
كما أن فتح النقاش حول مراجعة العلاقات مع إسرائيل، وربطها بمدى التزامها بحل الدولتين، شكّل نقلة نوعية في الخطاب العربي والإسلامي، تعكس تحولًا حقيقيًا في المزاج السياسي.
الأهم أن القمة فتحت قناة دبلوماسية جديدة مع الغرب. الاتصال الثلاثي الذي جمع أمير قطر مع ملك الأردن عبدالله الثاني والرئيس المصري، ومع قادة فرنسا وبريطانيا وكندا، أرسل إشارة واضحة إلى أن هناك إرادة لجرّ القوى الغربية نحو موقف أكثر حزمًا، وربما نحو اعترافات جديدة بالدولة الفلسطينية. وإذا ما انعكس هذا الزخم في اجتماعات نيويورك المقبلة، فقد يجد نتنياهو نفسه أمام عزلة غير مسبوقة، فيما تتقدم القضية الفلسطينية مجددًا إلى صدارة الأجندة الدولية.
الانعكاسات الإقليمية لهذه التطورات لا يمكن التقليل من شأنها. فالاعتداء على الدوحة أظهر أن إسرائيل باتت تتصرف كقوة منفلتة لا تعترف بأي قيود، لكنه في المقابل فتح الباب أمام اصطفاف إقليمي جديد يمنح قطر موقعًا مركزيًا، ويعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد، ويفرض على السعودية والإمارات ومصر إعادة النظر في معادلاتهم الاستراتيجية.
كذلك فإن الحضور التركي والإيراني في القمة، على الرغم من الخلافات، عكس إمكانية بناء تفهّم أوسع يتشارك في هدف أساسي: وقف الانفراد الإسرائيلي وتحصين المنطقة.
لكن تبقى المعضلة الكبرى في الموقف الأميركي. فالتصريحات المتناقضة لوزير الخارجية ماركو روبيو، والهمس الدائم حول معرفة مسبقة في البيت الأبيض بالضربة، تعكس التباسًا عميقًا. وإذا كان صحيحًا أن واشنطن رفعت الغطاء الضمني عن قطر، فإن ذلك يفتح الباب أمام إعادة تعريف شاملة للعلاقة بين الخليج والولايات المتحدة، وربما يعجّل في بناء منظومات أمنية إقليمية أكثر استقلالية.
وفي خلفية المشهد، يطلّ بنيامين نتنياهو بخطابه الدائم عن “تغيير وجه المنطقة”. الرجل يراهن على أن استمرار الحرب في غزة وتهجير مئات الآلاف من سكانها، مقرونًا بتصعيد في الضفة الغربية وضربات متكررة في سوريا ولبنان، سيقود إلى واقع جديد، تُهمَّش فيه القضية الفلسطينية نهائيًا ويُعاد ترتيب المنطقة وفق مصالح إسرائيل.
ما جرى في الدوحة لم يكن مجرد قمة طارئة، بل محطة فاصلة. الكلمات الثلاث التي قيلت في القمة، والصمت السعودي الذي أضيف إليها، شكّلت ملامح مرحلة جديدة: لم يعد ممكنًا أن تستفرد إسرائيل برسم التوازنات، ولم يعد ممكنًا أن تبقى فلسطين خارج المعادلة.
لكن مخرجات قمة الدوحة جاءت كجواب مباشر على هذا المشروع: إذا كان نتنياهو يسعى إلى إعادة رسم الخريطة عبر القوة، فإن العرب والمسلمين أعلنوا من الدوحة أنهم سيحاولون إعادة رسمها عبر السياسة والاصطفاف الجماعي، وعبر الضغط الدولي والاعتراف بالدولة الفلسطينية، وعبر بناء منظومة دفاعية تردع أي مغامرة جديدة.
هنا تكمن المفارقة التاريخية. فإسرائيل التي ظنّت أنها قادرة على ضرب قلب الخليج وإسكات صوت الوساطة، وجدت نفسها أمام بداية تشكّل جبهة سياسية ودبلوماسية قد تعيد قلب الطاولة عليها. وإذا كان مشروع نتنياهو يقوم على تفكيك المنطقة إلى كيانات ضعيفة متناحرة، فإن مشروع الدوحة ومخرجات قمتها يقوم على إعادة اللحمة وبناء حد أدنى من التكامل. صحيح أن الطريق طويل، وأن التناقضات العربية–الإسلامية ما زالت قائمة، لكن اللحظة التي فجّرها الاعتداء الإسرائيلي على قطر قد تكون بداية لمرحلة مختلفة.
الخلاصة أن ما جرى في الدوحة لم يكن مجرد قمة طارئة، بل محطة فاصلة. الكلمات الثلاث التي قيلت في القمة، والصمت السعودي الذي أضيف إليها، شكّلت ملامح مرحلة جديدة: لم يعد ممكنًا أن تستفرد إسرائيل برسم التوازنات، ولم يعد ممكنًا أن تبقى فلسطين خارج المعادلة. ومن الآن فصاعدًا، كل اعتداء على دولة عربية سيُقرأ كجزء من معركة أشمل، وكل قمة ستكون لبنة في جدار بناء موقف إقليمي مضاد للمشروع الإسرائيلي. وبينما يحاول نتنياهو أن يغيّر وجه المنطقة بالقوة، فإن الدوحة أطلقت مشروعًا معاكسًا: تغيير وجه المنطقة بالتكامل، والسيادة المشتركة، والدفاع عن فلسطين كمدخل إلى الاستقرار.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية