جدول المحتويات
«نبض الخليج»
نشرت مجلة نيو لاينز (New Lines Magazine) تقريرا عن جزيرة أرواد على الساحل السوري، مسلّطة الضوء على صمود صناعة القوارب الخشبية فيها رغم تضييق نظام الأسد وتحديات الحرب. التقرير يبرز كيف تمسّك الحرفيون، وعلى رأسهم عائلة بهلوان، بإرث عريق يمتد منذ أيام الفينيقيين، ليحافظوا على مهنة نادرة نجت من محاولات الطمس والانقراض.
فيما يلي الترجمة الحرفية للتقرير:
تحت أشعة الشمس الملتهبة، أمام مياه البحر المتوسط الزرقاء، أخذ رجال يطرقون المسامير في مؤخرة قارب خشبي، إذ على مدار آلاف السنين، عملت أياد كثيرة على نفخ الروح في تلك المراكب، ولهذا تنتشر هياكل سفن لم يكتمل بناؤها على الرمال إلى جانب السفن والمراكب التي استكمل العمل عليها، ثم طليت بلون أبيض وأزرق وأحمر، فانتصبت شامخة ومن خلفها الأفق.
على بُعد أمتار قليلة، أخذ محمد بهلوان يراقب المشهد، بعد أن أمسك بيديه المتغضنتين عكازاً تعينه على المشي، وغشي عينيه الكبر والعجز، ولهذا تراه يضيّقهما في أثناء كلامه، أما مفرداته فتأتي بطيئة على الرغم من وضوحها، إذ قال بمسحة من الفخر تشوب صوته: “ما نفعله هنا شيء نادر حتى على مستوى العالم، لأن عملنا فريد من نوعه في العالم بأسره”.
عمال يضيفون اللمسات الأخيرة على أحد المراكب في ورشة آل بهلوان
تعود أصول بهلوان إلى جزيرة أرواد التي تبعد عن مدينة طرطوس قرابة ثلاثة كيلومترات وتعتبر الجزيرة الوحيدة المأهولة في سوريا من بين عشرات الجزر الأخرى، وتشتهر بصناعة السفن والقوارب التقليدية التي تعود لأيام الفينيقيين، أي قبل 2500 عاماً تقريباً.
محمد بهلوان يجلس وأمامه مجسمان لقاربين قام بصنعهما
البحر كمصدر للرزق
ينتمي معظم قاطني هذه المدينة البحرية الوادعة للطائفة السنية، وخلال الحرب التي عصفت بمعظم أرجاء البلد، نجت أرواد وخرجت من الحرب سالمة، إلا أن كثيراً من أهلها فروا عبر البحر هرباً من نظام بشار الأسد أو من الخدمة العسكرية الإجبارية المفروضة على الشبان، في حين انتقل كثير من أهلها إلى الشاطئ المقابل في البر الرئيسي بحثاً عن عمل.
ترتبط أرزاق أهل الجزيرة بالبحر الذي يحيط بهم ارتباطاً وثيقاً، ولهذا فإن معظمهم إما بحارة أو صيادون، ونسبة قليلة منهم احترفت مهنة صناعة السفن التقليدية، فقد ورث بهلوان هذه الحرفة عن أبيه الذي تعلمها بدوره من أبيه هو أيضاً، ولهذا يتذكر هذا الرجل كيف تغيرت الحرفة بمرور السنين، فيقول: “في البداية، كنا نقوم بالعمل بشكل يدوي.. إذ لم تكن لدينا معدات كهربائية، بل كان لدينا المنشار والإزميل والمثقاب، ثم تطورنا، فأصبح لدينا منشار آلي، وصرنا نشتغل عبر الاستعانة بالكهرباء” ولذلك كان صوت المثقاب الكهربائي يطغى على صوته في أثناء حديثه.
فاروق بهلوان يشير إلى العمال الذين يشيدون أحد المراكب
على مقربة منه، كان ابنه فاروق محمد بهلوان يعمل على إنتاج قارب بالقرب من ورشته المقامة عند البحر. وفاروق الذي يبلغ من العمر 55 عاماً عمل في هذه المهنة لمدة 45 عاماً، وخلال الحرب السورية، عانى بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام، ما أثر على صادراته، ومما فاقم الوضع سوءاً الإجراءات البيروقراطية الرهيبة التي فرضتها الهيئة العامة لإدارة المنافذ البرية والبحرية في سوريا، وعنها يقول: “خلال فترة من الفترات كان الإذن لبناء مركب يحتاج لدفع رشوة، أما الأمور الآن فقد أصبحت تتم بسلام وبيسر، بل إنهم يشجعوننا على أن نحافظ على هذه المهنة”.
خلال عام 2015، تعرض فاروق لمشكلة مع نظام الأسد بسبب محاولة بريئة لبناء قارب، فحبس لمدة تسعة أيام في أحد فروع الأمن بمنطقة كفرسوسة في دمشق، بعد أن تبين بأنه صنع قارباً استعان به بعض الأشخاص للهروب إلى لبنان، وعن تلك التجربة يقول وهو يضحك من فرط حيرته: “لم أفعل أي شيء سوى أنني صنعت قارباً وقمت بتصديره”.
استمع لحديث فاروق المديرُ الحالي لمرفأ طرطوس ناظم طالب. يقع مكتب طالب في الطابق الأول من المبنى المشرف على البقعة التي تصل إليها العبّارات القادمة من رصيف البر الرئيسي. وقبالة مكتبه نجد غرفة نومه التي يمضي فيها لياليه.
فاروق محمد بهلوان يتحدث إلى ناظم طالب بالقرب من سفينة قيد الإنشاء
العودة لزيارة أرواد
يخبرنا طالب كيف منعت الحرب وحواجز التفتيش الناس من زيارة أرواد، بما أن تلك الحواجز كانت تعتقل المسافرين بين المحافظات، وعن ذلك يقول: “لم يهبط عدد السياح فحسب، بل بوسعك القول إنهم اختفوا تماماً”، ويضيف بأن الجزيرة اليوم باتت تستقبل الزوار من مختلف أرجاء سوريا، إلى جانب القادمين من دول أخرى مثل لبنان وتركيا.
من الزائرات القادمات من إدلب التقينا بهبة قناطري، 40 عاماً، إذ قبل سقوط النظام البائد، كانت زيارة الجزيرة من شبه المستحيلات نظراً للحرب الدائرة، كما أن إدلب كانت تخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام، بخلاف المناطق الأخرى في البلد التي بقيت تحت حكم الأسد.
خلال جلوسها في إحدى العبّارات التي تنتقل بين طرطوس والجزيرة، تحدثت هبة عن تجربتها فقالت: “قبل الثورة، زرت أرواد كثيراً، وهذه أول زيارة لي بعد سقوط النظام”. في حين يخبرنا طالب بأن هنالك ما بين 30-40 قارباً يصل إلى الجزيرة كل يوم، وكل قارب يحمل قرابة أربعين شخصاً، ويعلق على ذلك فيقول: “كخطوة أولى، يعتبر عدد الزوار جيداً”.
أما ابنة أخت هبة، واسمها سارة وعمرها تسع سنوات، فقد أخذت تراقب خالتها وهي تتحدث عن زيارة الجزيرة، إذ أتت سارة برفقة أمها وابنة خالها نايا. ومع اقتراب القارب من أرواد، ابتسمت الفتاتان ابتسامة عريضة، وأخذت كل منهما تصنع قلباً بين أصابعهما عند اتخاذهما وضعية للتصوير بعد أن أصبحت الجزيرة خلفهما، في حين ابتسمت أم كل منهما وهي تحمل هاتفها لتصور ابنتها.
نايا في العبّارة التي أقلتها مع أقاربها إلى جزيرة أرواد
تقول سارة وهي تبعد ضفيرتيها بعد أن دفعت بهما ريح قوية نحو وجهها: “هذه زيارتي الأولى للجزيرة، وهي مختلفة جداً عن إدلب، إذ يوجد بحر هنا، وليس لدينا بحر هناك، كما أن الجو هنا ألطف”.
جراح صعب أن تبرأ
خلال فترة حكم الأسد، كانت الأجواء تعبق دوماً بروائح الشك وأجهزة المخابرات التابعة للدولة التي كان الجميع يهابها، وكان أهالي أرواد يشعرون بقبضة النظام الخانقة، شأنهم في ذلك شأن معظم أهالي البلد. أما اليوم، فقد صار الناس يجولون في الحرّ وبأيديهم البوظة الذائبة التي أكلوا أطرافها لكنها سالت على أيديهم فملأتها لزوجة. وهنا لا توجد أصوات صاخبة لأبواق السيارات، ولا دخان ناجم عن حركة المرور، بل إحساس بالألفة بين الناس ينتقل كالعدوى فيما بينهم.
داخل الجزيرة، نظر وبكل فخر مصطفى علي بحار، وهو أحد أبناء جزيرة أرواد، إلى اللافتة التي وضعها أمام متجر ابنه المتخصص ببيع الحلويات والمرطبات، والذي يتردد عليه مصطفى ليساعده.
مصطفى علي بحار يقف أمام اللوحة التي وضعها أمام متجر ابنه في أرواد
تظهر تلك اللافتة صورة كاريكاتورية للرئيس الأسد المخلوع وإلى جانبها كتبت العبارة: “لماذا نلتقي؟ لكي نشرب المرطبات مثلاً.. ههههه”. ويحدثنا مصطفى وهو يشير إلى اللافتة، فيقول: “هذه العبارة مأخوذة من رد الأسد على أحد الصحافيين لدى سؤاله في مقابلة أجريت معه في آب عام 2023 عن سبب رفضه للدخول في محادثات مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان” ويضيف مصطفى: “سابقاً، كان بوسع هذه اللافتة أن تأخذني إلى صيدنايا” وذلك في إشارة إلى السجن السيئ الصيت الذي كان النظام البائد يعذب فيه معارضيه والمواطنين العاديين من الشعب السوري.
لكن هذا الرجل يعترف بأن جراح الحرب لم تلتئم بعد، إذ أخبرنا أن الشبان كانوا يهربون عبر البحر من الخدمة العسكرية الإلزامية، إلا أن بعضهم تعرض للاعتقال على يد النظام البائد ولم يعد من السجن حتى الآن، ولذلك بقي مصير هؤلاء مجهولاً، ثم يتابع بالقول: “في أرواد نعيش كعائلة واحدة، إذ كان بعض جيراني مطلوبين، وبعض أقاربي أيضاً”، وذكر أن الجزيرة كانت مخترقة من أجهزة مخابرات مختلفة إلى جانب فروعها الإدارية، ولكن: “بعد التحرير، عاد معظم من فروا من الجزيرة”.
يخبرنا فاروق بهلوان بأن وضع جزيرة أرواد تغير “180 درجة” منذ سقوط النظام، ولكنه يتمنى أن تتحسن الخدمات أكثر، ويقول: “إن المصاعب التي نواجهها اليوم تتمثل بعدم توفر الكهرباء، كما نريد من البلدية ومن وزارة الداخلية أن تخفف علينا الضرائب حتى نتمكن من مواصلة عملنا في هذا المجال”.
تدمير النظام البائد للحرف التقليدية الأروادية
نشأ فاروق وسط عائلة عريقة في مجال صناعة السفن، ولذلك يأمل أولاده أن يسيروا على خطى أبيهم، إلا أن مشاعر فاروق مختلفة حيال ذلك، بعد أن درس أولاده الهندسة الميكانيكية، ولهذا يقول: “أرادوا أن يتعلموا هذه الحرفة، لكني لم أسمح لهم بذلك”، وأخذ صوته يرتفع في نبرة مدافع عن موقفه وهو يقول: “في أوائل العشريّة الأولى من الألفيّة الثالثة، تعرضنا لظلم وتحكم كبيرين من إدارة المنافذ البحرية والبرية، ولهذا السبب لم أعلّمهم هذه الحرفة”.
خلال تلك الفترة عانى معظم أهالي جزيرة أرواد من أجل ممارسة حرفتهم، وهذا ما منعهم من نقلها لأولادهم، ويخبرنا مصطفى علاء عثمان، وهو صياد من الجزيرة بأنه على الرغم من أن أولاده لم يفضلوا أن يسيروا على خطاه في مجال العمل، فقد قرر أحدهم أن يدرس في البحرية كي يصبح ضابطاً في هذا السلك.
يخبرنا عثمان كيف ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وكيف استعان النظام بطريقة الصيد عبر التفجير بشكل كبير، وهي ممارسة تقتل الأسماك في الماء، وكل ذلك من أجل أن يحتكر النظام هذه المهنة، ويضيف عثمان: “لقد خلفت تلك الممارسة ضرراً كبيراً علينا في نهاية المطاف، إلا أنه لم يكن بوسعنا أن نتفوه بحرف ضد ذلك”، وقال إنه يأمل اليوم بأن يعود ذلك العصر الذهبي للصيد عندما كانت مياه البحر تمتلئ بالأسماك.
أبدى فاروق تفاؤله هو الآخر تجاه مستقبل مهنته على الجزيرة، وذكر أنه يضغط على الدولة حتى تقيم معهداً لتدريب المنتسبين على صناعة السفن، وبذلك يمكن لمزيد من الشبان أن يتخصصوا في تلك المهنة، وقال: “بوسعي أن أضطلع بدور المعلم في هذه المدرسة، وذلك حتى تستمر هذه المهنة في الوجود”.
رجال البحر وأبناؤه
إذ بالنسبة له، أضحت صناعة السفن أسلوب حياة لا مصدراً للرزق، ويخبرنا بأنه يتذكر تفاصيل كل مركب بناه خلال السنوات الثلاثين الفائتة، ويقول: “تدمي قلبي رؤية أحد مراكبي وقد أصبح مهجوراً أو أضحى بحاجة لإصلاح، لأنني أتعامل مع المراكب وكأنها بشر”.
الواجهة البحرية لأرواد
ويبدي عثمان المشاعر نفسها، إذ يقول إنه لا بدّ من تقدير قيمة أرواد ودعمها على المستوى المالي، ويخبرنا بأنه بوصفه رجل بحر، لذا فإن علاقته بالأمواج العاتية وعشقه لنمط حياته قد تعاظما بمرور السنين، ويضيف: “من لديهم هواية تتصل بالبحر، ليس أمامهم إلا البحر.. والبحر ملك، له شخصيته التي تميزه”.
لدى عثمان شقيقة تقيم في بانياس، إلا أن أسلوب الحياة في تلك المدينة لا يعجبه، ولهذا يقول وهو يضحك: “خلال عشرين سنة، لم أنم في بيتها سوى مرة واحدة عند زيارتي لها”
المصدر: The New Lines Magazine
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية