جدول المحتويات
«نبض الخليج»
كان خطّ كركوك–بانياس، الذي أُنشئ في خمسينيات القرن الماضي، واحداً من أهمّ الشرايين النفطية في الشرق الأوسط. فقد نقل النفط الخام العراقي إلى مرفأ بانياس على البحر المتوسط، ليجعل من سوريا بوّابة تصدير إستراتيجية في معادلة الطاقة الإقليمية. لكن هذا الخطّ الذي كان رمزاً للتكامل الاقتصادي العربي توقّف بعد عقود من التوترات والحروب والعقوبات. وهو الخط الذي كان يضخ بطاقة 300 ألف برميل يومياً متوقفٌ منذ عام 2003 بعدما تضرر بشدّة خلال الغزو الأميركي للعراق، وقبل ذلك أيضاً أوقفته بغداد عامَي 1982 و2000 إثر خلافات سياسية.
اليوم، يعود الحديث عن إحياء الخطّ بعد تصريحات رسمية عراقية أكّدت بدء مباحثات فنية بين بغداد ودمشق لإعادة تشغيل خط كركوك–بانياس الممتد 850 كيلومتراً، في خطوة تُعيد هذا المشروع التاريخي إلى دائرة الاهتمام بعد عقود من التوقّف. يأتي ذلك في سياقٍ إقليميّ ودوليّ تتغيّر فيه معادلات الطاقة بشكل متسارع، خصوصاً بعد حرب أوكرانيا التي أعادت رسم خريطة الممرات والطرق البديلة للنفط نحو البحر المتوسط.
وقال مستشار رئيس الوزراء العراقي للشؤون المالية، مظهر محمد صالح، في وقت سابق إن إحياء هذا الخط يمثل خياراً استراتيجياً يمنح العراق قدرةً أكبر على المناورة في تسويق نفطه ويعزّز أمنه الطاقي.
إذاً ففي العراق، يندرج الطرح ضمن رؤية لتنويع خيارات التصدير وتوسيع البنية التحتية للطاقة بما يضمن مرونة أكبر في مواجهة الطلب العالمي المتقلّب. أما في سوريا، فإن عودة النقاش حول الخطّ يمكن أن تعبّر أيضاً عن محاولة لإحياء دورها الجغرافي بوصفها نقطة وصلٍ بين منابع الطاقة وموانئ المتوسط، وهو الدور الذي شكّل لعقود ركناً من أركان موقعها الاقتصادي والسياسي في المنطقة.
وفي دراسةٍ نشرها معهد “واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” بعنوان “الحفاظ على الزخم في قطاع الطاقة السوري”، أشارت إلى أنّ الاتفاق الأخير بين بغداد ودمشق حول دراسة إعادة تشغيل خطّ كركوك–بانياس يعكس توجهاً عملياً لإحياء التعاون الطاقوي بين البلدين، لكنه يصطدم بعقبات تتعلق بالبيئة القانونية وبغياب الشفافية في العقود النفطية داخل سوريا، ما يجعل الحاجة ملحّة لإصلاحات مؤسسية تضمن الشفافية وتحدّ من الفساد في أي مشروع مستقبلي للطاقة.
لماذا يُعاد طرح الخط الآن؟
تأتي عودة النقاش حول خطّ كركوك–بانياس نتيجة لتراكمات اقتصادية وجيوسياسية أعادت فتح الملف بعد أن ظلّ طيّ النسيان لعقود. فالمنطقة بأسرها تشهد اليوم إعادة تموضع في خريطة الطاقة، حيث تسعى الدول المنتجة إلى تنويع منافذها ومساراتها تحسّباً لأي اضطرابات أو تحوّلات في التحالفات الدولية. ومن هنا، بدأت بغداد تُعيد التفكير في مساراتها التاريخية نحو المتوسط، ليس من باب الاستبدال، بل من باب التوسيع والمرونة في إدارة صادراتها النفطية.
أما في سوريا، فإن المسألة تتجاوز البعد التقني إلى البعد الرمزي والسياسي؛ فخطّ كركوك–بانياس بالنسبة لدمشق هو شريان محتمل لإعادة وصل البلاد بالمحيط الإقليمي، ومؤشّر على عودتها إلى خرائط المبادلات الاقتصادية العابرة للحدود. في الخطّ نفسه تتقاطع رغبة سوريا في إحياء دبلوماسيتها الاقتصادية مع حاجتها إلى مشاريع تنموية كبرى تخلق موارد وفرص عمل وتعيد الثقة بالاستقرار الداخلي.
ويكتمل المشهد مع التحوّل الكبير في المناخ الدولي للطاقة بعد حرب أوكرانيا، حيث دفعت الأزمة الأوروبية في الغاز والنفط الدولَ إلى البحث عن خطوط جديدة آمنة تربط الشرق الأوسط بالبحر المتوسط. فكلّ ممرّ يصل منابع النفط في المشرق بأسواق الغرب بات اليوم يُقرأ كبنية تحتية جيوسياسية لا تقلّ أهمية عن الاتفاقات الدبلوماسية. ضمن هذا المشهد المتحوّل، يبدو إحياء خطّ كركوك–بانياس جزءاً من محاولة شاملة لإعادة رسم خرائط الطاقة العالمية، مع ما يحمله ذلك من انعكاسات على توازنات النفوذ في الإقليم.
وتناول المركز العربي في واشنطن، في ورقة تحليلية، ملامح التحوّل في السياسة العراقية تجاه سوريا بعد سقوط نظام الأسد، موضحاً أن بغداد تتبنّى اليوم نهجاً براغماتياً يقوم على التعاون الاقتصادي وضبط الحدود ومواجهة التحديات الأمنية المشتركة، بدلاً من الاصطفاف السياسي التقليدي، معتبرة أن استقرار سوريا جزء من أمنها الوطني والطاقوي.
دمشق واقتصاد العبور
الباحث الاقتصادي، جابر الكرمي، اعتبر خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أن إحياء خط كركوك–بانياس يعتبر كجزء من استراتيجية إنعاش الموقع الجغرافي السوري وتحويله مجدداً إلى مصدر دخل طويل الأمد عبر الخدمات اللوجستية والعبور.
ويضيف أنّ “اقتصاد العبور” كان أحد أعمدة الدخل السوري منذ أكثر من 15 عاماً من خلال الرسوم والمرافئ وخطوط النقل، وأنّ إعادة تفعيله “قد تشكّل نموذجاً جديداً للتعافي القائم على البنى التحتية، وعلى التكامل الإقليمي”.
ويرى أنّ ذلك يتطلّب رؤية وطنية واقعية تنظر إلى الطاقة كموردٍ سياسي واقتصادي في آنٍ واحد، وكتقاطع للمصالح بين الداخل السوري ومحيطه.
كذلك يعلّق الباحث بالقول إنّ ما نشهده اليوم هو “انتقال تدريجي من مفهوم الجغرافيا السياسية التقليدية إلى ما يُعرف بـ الجغرافيا الوظيفية، حيث لا تُقاس أهمية الدولة بمساحتها أو مواردها فقط، بل بقدرتها على أن تكون نقطة وصل في سلاسل الإمداد العالمية”.
ويشرح أنّ موقع سوريا، في ظل إعادة تفعيل خط كركوك–بانياس، “قد يتحوّل من هامش جغرافي إلى مركزٍ لوجستي” يربط بين الأسواق الخليجية والمتوسطية. لكنه يضيف أنّ هذا التحوّل “لن يتحقّق ما لم تُرفَق المشاريع ببيئة مؤسسية مستقرة، وإصلاحات قانونية وهيكلية تتيح جذب الاستثمار الأجنبي وتحمي الملكية الوطنية في الوقت نفسه”.
ويشير الكرمي إلى أنّ المشروع ينسجم مع التحوّل العالمي نحو سياسات أمن الطاقة الإقليمي، أي بناء شبكات مترابطة تضمن الإمدادات المستقرة في مواجهة الأزمات. “فكلّما توسّعت شبكات الربط في المنطقة، تراجع منسوب التوتر السياسي، لأن المصالح الاقتصادية تصبح متداخلة”، كما يقول.
ويضيف أنّ نجاح مثل هذا المشروع “يتوقّف على قدرة دمشق وبغداد على الفصل بين منطق الاقتصاد ومنطق السياسة، بحيث يُدار الملف وفق معايير الكلفة والعائد”.
ويتابع الباحث موضحاً أنّ “العائد الاقتصادي المباشر من الخطّ قد لا يكون فورياً، لأنّ كلف إعادة التأهيل مرتفعة والبنية التحتية تحتاج إلى استثمارات ضخمة، لكن القيمة الحقيقية للمشروع تكمن في استعادة الثقة الدولية بالدور الاقتصادي السوري، وفي تثبيت فكرة أن البلاد قادرة على الدخول مجدداً في مشاريع إقليمية ذات طابع استراتيجي”.
ويرى أنّ أي مشروع من هذا النوع “يمثّل خطوة في اتجاه إعادة بناء الاقتصاد الكلي السوري على أسس وظيفية، أي عبر شبكات حقيقية تربط الإنتاج بالأسواق وتعيد للدولة جزءاً من وظيفتها الاقتصادية المفقودة”.
ويشير الباحث إلى أنّ “المنطقة تدخل مرحلة توازن اقتصادي جديد يقوم على التشارك في المنافع بدل المنافسة الصفرية”. فخط كركوك–بانياس، كما يرى، يمكن أن يصبح “نموذجاً مصغّراً لتجربة تكامل عربي مشترك” إذا أُحسن توظيفه ضمن مقاربة إقليمية أوسع تشمل خطوط الكهرباء، والاتصالات، والنقل البري.
رأسمال الجغرافيا السورية
إن إعادة إحياء خط كركوك–بانياس لا يمكن فهمها خارج سياق التحوّل في بنية الاقتصاد السياسي للطاقة في الشرق الأوسط. فالممرات النفطية باتت تشكّل الآن بنى تحتية للقوة الإقليمية نفسها. من خلالها تُعاد صياغة موازين الاعتماد المتبادل بين الدول المنتجة والممرّة والمستوردة، ويُعاد تعريف مفهوم السيادة الاقتصادية وفق منطق “الشراكة في المنفعة”. هذه المقاربة تُظهر أن مشروع الخط اختبار لقدرة الإقليم على إنتاج نموذجٍ عربي جديد للتكامل الطاقوي.
كذلك تندرج فكرة إحياء الخط ضمن مفهوم التنويع الاستراتيجي لمسارات الطاقة الذي أصبح جزءاً من إدارة المخاطر في الاقتصاد الحديث. فكلّ ممر إضافي يقلّل من هشاشة الاعتماد على مسارٍ وحيد، ويوفّر للدول المنتجة قدرة أكبر على المناورة في الأسواق الدولية عند تغيّر الطلب أو الأسعار. بهذا المعنى، فإن الخطّ لا يمثل بديلاً عن المسارات القائمة بقدر ما يشكّل طبقة جديدة من الأمان الطاقوي، ويجعل من العراق وسوريا معاً طرفين في شبكة مرنة من خطوط الإمداد المتكاملة. وهو ما يُعبَّر عنه بمفهوم “التحوّط الجيو–اقتصادي”، أي استخدام التنوّع في المسارات والأسواق لتقليل التعرض للصدمات السياسية أو التجارية.
المستوى السوري في المشروع يُعبّر عن تحوّلٍ أعمق من مجرد الرغبة في الاستثمار أو العبور. فدمشق تسعى، نظرياً وعملياً، إلى تحويل موقعها الجغرافي من عبء إلى أصلٍ منتج، أي من اقتصادٍ مغلق محاصر إلى اقتصادٍ وسطيّ منفتح على شبكات التبادل الإقليمي. هذا ما يمكن تسميته بـ “الاقتصاد التبادلي” الذي يقوم على تحقيق القيمة من خلال الوساطة والخدمات العابرة للحدود بدلاً من الإنتاج المباشر. بذلك تصبح سوريا نموذجاً لما يسميه بعض منظّري الاقتصاد الإقليمي “دول العبور” التي تعتمد على بنيتها التحتية الجغرافية كأصلٍ اقتصادي طويل الأمد.
تمتلك سوريا ما يمكن تسميته بـ “رأسمال الجغرافيا”، أي القيمة المضافة الناتجة عن الموقع نفسه. فبين الخليج والبحر المتوسط، وبين آسيا وأوروبا، تتقاطع مسارات التجارة والطاقة والمواصلات. هذا الرأسمال غير القابل للنقل يمنح سوريا إمكانية تحويل الجغرافيا إلى أصلٍ سياسي واقتصادي إذا توفرت البنية المؤسسية القادرة على استثماره. إعادة تشغيل خطّ كركوك–بانياس هي أحد أشكال تفعيل هذا الرأسمال، لأنها تنقل الجغرافيا من الحيّز الرمزي إلى الحيّز الإنتاجي، وتجعل من الموقع مورداً استراتيجياً يمكن البناء عليه لإعادة دمج سوريا في المنظومة الاقتصادية الإقليمية.
تاريخ مشاريع الطاقة في العالم يبيّن أن خطوط الأنابيب بالإضافة إلى أنها بنى اقتصادية، فهي أيضاً أدوات لإنتاج التوازنات السياسية. فخطّ باكو–تبليسي–جيهان في القوقاز، أو مشروع “إيست مِد” في شرق المتوسط، أو خطوط الغاز الروسية نحو أوروبا، كلّها تحوّلت إلى هياكل دبلوماسية واقتصادية معاً. ومن خلال هذا المنظور المقارن، يمكن قراءة مشروع كركوك–بانياس بوصفه اختباراً لإمكانية أن يتحوّل الشرق الأوسط من فضاء تنافسٍ على السيطرة إلى فضاءٍ لتقاسم المنافع عبر البنى التحتية المشتركة. إنه نموذج عملي لما يسميه بعض الباحثين “الدبلوماسية المادية”، أي استخدام البنى المادية لتحقيق استقرار سياسي وتعاون اقتصادي.
إن إحياء خطّ كركوك–بانياس ليس أمراً مستحيلاً، لكنه ليس قريباً أيضاً. فالظروف التقنية والسياسية والأمنية تجعل من المشروع مساراً طويلاً يتطلب فترة ليست بالقصيرة من التخطيط والتمويل. ومع ذلك، فإن مجرد إعادة طرحه على الطاولة تمثّل مؤشراً على تغيّر في التفكير الإقليمي.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية