«نبض الخليج»
في لحظة فارقة من تاريخ فرنسا، تبدأ اليوم مرحلة جديدة من المحاسبة السياسية حين يدخل الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي إلى سجن لا سانتي في باريس لقضاء عقوبة بالسجن لمدة خمس سنوات، بعد إدانته بالتآمر لجمع أموال بطريقة غير شرعية من النظام الليبي لتمويل حملته الانتخابية عام 2007.
هذه السابقة القضائية، التي جعلت من ساركوزي أول رئيس فرنسي يُسجن منذ الحرب العالمية الثانية، ليست مجرد عنوان للأخبار، بل هي تجسيد حقيقي لمفهوم سيادة القانون، حيث لا أحد، مهما علت مكانته، فوق العدالة.
لكن بينما يهتز القصر الجمهوري الفرنسي على وقع أبواب السجن المغلقة خلف أحد ساكنيه السابقين، يتردد صدى هذا الحدث بقوة في أرجاء العالم العربي، وتحديداً في الدول التي عانت ولا تزال تعاني من فساد النخب، وانعدام المحاسبة، وغياب الشفافية، وتسييس القضاء.
فرنسا.. حيث يُحاسَب الرئيس
تجربة ساركوزي تُثبت أن الديمقراطيات ليست مثالية، لكنها على الأقل قادرة على تصحيح أخطائها. القضاء الفرنسي لم يتردد في محاكمة رجل وصل إلى سدة الحكم، وكانت له علاقات داخلية وخارجية معقدة ومتشابكة، تتضمن مصالح اقتصادية، وتحالفات أمنية، وحروباً باردة وساخنة. ومع ذلك، وقف أمام المحكمة كأي مواطن عادي، وتلقى العقوبة استناداً إلى الأدلة، وليس لحسابات سياسية أو أهواء شعبية.
في المقابل، لننظر إلى النموذج السوري، حيث استمر النظام الحاكم في البقاء لعقود رغم تورطه في قمع دموي، وجرائم ضد الإنسانية، وتدمير بنى الدولة، وفتح الأبواب لتدخلات إقليمية ودولية حولت البلاد إلى ساحة صراع بالوكالة وما زال إلى اليوم طليقاً تحميه دولة وينتظر مصيره الذي يستحقه الملايين.
غياب سيادة القانون في سوريا لم يؤد فقط إلى إفلات كبار المسؤولين من العقاب، بل ساهم في ترسيخ ثقافة الإفلات من المحاسبة على كل المستويات: من التعذيب في الأقبية، إلى نهب مقدرات الشعب، وحتى تجويع المدن والبلدات كوسيلة للحصار السياسي. في سوريا، كما في كثير من الدول العربية، يتم اختزال الدولة في شخص الحاكم، وتتحول العدالة إلى أداة للانتقام السياسي لا للمساءلة العادلة.
هل الحلم ممكن؟
يبقى السؤال: هل يمكن أن تصل دولة عربية إلى ما وصلت إليه فرنسا من ترسيخ لسيادة القانون؟
الجواب: نعم، ولكن بشروط.
فمن دون استقلال القضاء، لا عدالة. ومن دون إعلام حر، لا رقابة. ومن دون مؤسسات قوية، لا يمكن مواجهة الفساد. ومن دون إرادة شعبية منظمة، لا يمكن كسر دائرة الاستبداد.
التغيير لا يأتي فقط عبر الثورات أو الاحتجاجات، بل يحتاج أيضاً إلى عمل طويل المدى لبناء ثقافة قانونية تحترم حقوق الإنسان، وتجرّم الفساد، وتؤمن بأن الدولة ليست مزرعة، بل عقد اجتماعي يجب أن يُحترم من الجميع، حاكماً كان أو محكوماً.
حين يُصبح الحلم ممكناً
ربما يفتح حدث سجن ساركوزي نافذة أمل للعالم العربي، يُطلّ من خلالها الشباب العربي، الذي ضحى كثيراً من أجل الكرامة، على مشهد عدالة حقيقية، يرى فيه كيف يمكن للأنظمة أن تُحاسَب، وللرؤساء أن يقفوا أمام العدالة، ليس باعتبارهم رموزاً مقدسة، بل باعتبارهم بشراً يخطئون ويُحاسَبون.
سيادة القانون ليست حلماً بعيداً، بل خياراً سياسياً وثقافياً يحتاج إلى إرادة، وشجاعة، وعقول لا تخشى الحقيقة.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية