«نبض الخليج»
إن قيل ما الطرب الأصيل أُشير إليه، وإن قيل ما الصوت الجميل أُشير إليه، وإن قيل من أحيى التراث الطربي الفني أُشير إليه، وإن قيل من مزج بين الأناقة والطرب والتراث أشير إليه، وإن قيل من صناجة العرب أشير إلى صباح فخري. هذا الصرح الفني الخالد الذي روى ظمأ محبي الطرب والشعر والأداء الصوتي الراقي بأسلوب سوري خالص بل بأسلوب مدينة الطرب في الشرق الأوسط، حلب الشهباء.
سأتناول في هذا المقال الجانب الثقافي والعلمي للفنان الراحل صباح فخري إضافة للإنجاز الموسيقي الذي حققه هذا الفنان العظيم، وجانباً آخر يتناول قيمة التراث الفني السوري في الموسيقى والغناء.
يعتبر صباح فخري الذي كُتب اسمه في موسوعة غينس (عشر ساعات من الغناء المتواصل في مدينة كاراكاس عام 1968) من أبرز فناني الغناء في العالم العربي، وفي العالم أيضاً، وذاعت شهرته في كل القارات. هذه الشهرة لم تأت من فراغ بل جاءت عبر تراكمات ثقافية وعلمية اجتهد عليها بنفسه إضافة لما حباه الله من قدرة عجيبة بالحفظ والذاكرة والنجابة لذلك كان متفوقاً على كل من كان حوله من حيث الحفظ والإتقان والأداء.
ويحسب لفخري، واسمه الحقيقي صباح أبو قوس، حُسنَ الأدب والاستماع لأساتذته سواء في أكاديمية الموسيقى العربية في حلب، أو المعهد الموسيقي الشرقي في مدينة دمشق؛ وكيف لا يسمع لهم وهم أعلام في الموسيقى الشرقية كـ: الشيخ علي درويش والشيخ عمر البطش صاحب الألحان الخالدة في عالم الإنشاد، ومجدي العقيلي ونديم إبراهيم الدرويش ومحمد رجب وعزيز غنام، وفق ما ذكر فخري في أحد لقاءاته المتلفزة.
كل أستاذٍ من هؤلاء الأساتذة أضاف لشخصيته شيئاً حتى وصل إلى ما هو عليه من اكتمال وكمالية في عالم المقامات والدور والطرب حتى أن أحدهم نصحه بعدم الغناء في الفترة الانتقالية من مرحلة المراهقة إلى مرحلة اكتمال الشباب، وهذا ما فعله، إذ اعتزل الغناء قرابة سنتين حتى تكتمل عضلات الحنجرة ولا يمسها أي ضرر.
***
الفنان فخري ليس مجرد صوتٍ مخمليٍ نادرٍ أو أستاذ الطرب في المشرق أو فناناً عابراً للحدود، بل هو أكاديمية موسيقية متنقلة أغنت الأجيال بألحان موسيقية تسكن القلوب قبل العقول، ولذلك تم تكريمه بأن غنى في قاعة نوبل للسلام في السويد وفي قاعة بيتهوفن في بون بألمانيا، وغنى أيضاً في قاعة قصر المؤتمرات في باريس، وكان يرافقه بالعزف على القانون حينذاك الفنان والوزير السابق سعد الله آغا القلعة، وكانت من الحفلات المبهرة.
نال فخري العديد من الجوائز من أرفع مستوى، كوسام تونس الثقافي الذي قلده إياه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عام 1975 ووسام التكريم من السلطان قابوس وغيرها، لكن أهم ما ناله من شرف التكريم، كما ذكر في أحد لقاءاته، أنه أصبح مرجعاً صوتياً للموسيقى الشرقية في جامعة لوس أنجلوس في كاليفورنيا، وأن الدراسة الموسيقية الشرقية للشعوب في تلك الجامعة علاوة على تدريسها للنوتة الموسيقية والرموز الموسيقية أقرت بأن صوته هو المرجع الإيضاحي الحسي لتلك المقامات والنغمات الموسيقية، ولم يكرم من الفنانين العرب في هذه الجامعة سوى اثنين هما موسيقار الأجيال الفنان محمد عبد الوهاب والفنان صباح فخري .
لم تكن الموسيقى وحدها ما أجادها مؤسس الطرب بل كان حافظاً للقرآن وعلوم التجويد والبيان ويحفظ من الشعر الكثير وبدا ذلك واضحاً في حفلاته عندما كان يستبدل كلماتٍ بكلمات أخرى في البيت الشعري دون أن يكسر وزنه
“مثلك بلغ القمة ولا يوجد ما أعطيك إياه”، بهذه الكلمات توجه الموسيقار محمد عبد الوهاب إلى صباح فخري بعد استماعه إلى إحدى حفلاته، هذه الجملة تلخص 60 عاماً من العطاء الفني الكبير. وهنا لا بد من التكلم عن الفن السوري الطربي الأصيل وإظهار قيمته الحقيقية، فصباح فخري كان صائغاً بارعاً للذهب الذي كان بين يديه من التراث الفني السوري فقيمة الذهب ثابتة لا تتغير، ولا يزيده أو ينقصه الصائغ لكن بإمكانه أن يضفي عليه ألقاً فيظهر جماله وقيمته ويحفظه في قلوب وعقول الناس قبل دواوين الأرشيف وسجلاته. وبهذا يقول الفنان الراحل: “التراث كان موجوداً ومتاحاً للجميع، أنا أخذته ولكن تعبت في تشذيبه ليكون معاصراً، لم أصل إلى الشهرة بسهولة”.
وكانت الموسيقى السورية بقدودها وموشحاتها والتفريدات الموسيقية والمواويل كافيه للوصول للنجومية والشهرة العالمية ولم تكن بحاجة لأي لحن مصري أو الاستعانة بالأكاديمية المصرية العريقة، والتي تعد أكبر مدرسة وأشهرها في الشرق الأوسط. ولم يكن الوصول إلى النجومية من دونها أمراً ممكناً، لكن صباح فخري وإحياءه للتراث الفني السوري وتشذيبه له إضافة للألحان التي قدمها هو أو التي قدمها أساتذته، أثبت أن القيمة الفنية للتراث الفني السوري لا تقل شأناً عن نظيرتها المصرية بل تفوقت عليها بإحياء الشعر العربي وجعلته مادة أساسية في الطرب الغنائي. وهنا لا بد من ذكر ما يسمى بـ “الدور” وهو نوع من أنواع الموسيقى المصرية المنشأ، إلا أن صباح فخري أتقنه حتى تفوق على منشئيه. تقديراً لذلك، أقيمت له في مصر جمعية فنية تضم محبيه، وهي أول جمعية من نوعها تُقام لفنان غير مصري.
لم تكن الموسيقى وحدها ما أجادها مؤسس الطرب بل كان حافظاً للقرآن وعلوم التجويد والبيان ويحفظ من الشعر الكثير وبدا ذلك واضحاً في حفلاته عندما كان يستبدل كلماتٍ بكلمات أخرى في البيت الشعري دون أن يكسر وزنه ليضفي جواً من الطرب في تفاعله مع الكلمات والموسيقى، وكان يتلاعب بالمقامات كما يتلاعب بالكلمات فيأخذ المستمعين من جوٍ إلى جوٍ أخر، وهنا لا بد من ذكر العازفين الذين كانوا معه فهم كانوا جزءاً من هذه الحكاية والشطر الثاني من بيت القصيد؛ كعازف القانون حسان تناري صاحب المدرسة الفنية التي جمعت التكنيك التركي والكلاسيك المصري، وعازف العود أسعد الشاطر، وعازف العود أيضاً عامر عموري، وعازف الكمان صبحي جارور قائد الفرقة الموسيقية للإذاعة والتلفزيون، وغيرهم ليسطروا مع أيقونة الطرب موسيقى ساحرة خالدة بطابع محلي سوري.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية