«نبض الخليج»
في البيئات السياسية الطبيعية؛ من المهم وجود نظام حاكم ومعارضة له لا توافق سلوك هذا النظام اقتصادياً أو اجتماعياً أو حتى سياسياً، مما يُشكل محفزاً للنظام على العمل وضبط سلوكه، في ظل معارضةٍ منتقدةٍ لهُ من جهة ومُقدمة لحلول ومشاريع تُقوِّم الأخطاء التي تراها المعارضة في النظام الحاكم من جهة أخرى، مما يُنشئ بيئة تدافعية تصبُّ نهايةً في مصلحة البلاد.
لكن في الحالة السورية -شأنها شأن كل الدول التي عانت من استبداد متراكب زمنياً وجغرافياً- كانت حالة المعارضة قبل سقوط الأسد هي حالة معارضة لوجود نظام مستبد حالة ثورية هادمة للاستبداد، تحاول تقديم رؤية شاملة عن آلية إنهاء الاستبداد من جهة أو التخفيف من وطأته، من دون الوصول لحالة تنظيرية لبناء دولة من الصفر اقتصادياً وسياسياً، ومع سقوط الأسد وبداية تشكل الدولة الناشئة، كانت فكرة “المعارضة الشعبوية” السريعة فكرة مريحة لكثيرين، وفي نفس الوقت كانت مشوهة لفلسفة المعارضة السياسية، وبرز سؤال مُلحٍ حول: ماهي حدود التمييز بين “المعارضة” و”وهم المعارضة”؟
قد تم سابقاً هذا الأمر بشكل مصغر عبر الربط بين سلوك الجيش الحر وسلوك جيش الأسد ومساواة سلوكهم في المحاكم الأوروبية، مما أدى لتمييع جرائم عدد من ضباط الأسد.
وهم المعارضة والمراهقة السياسية
يمكن استقراء الفرق بين المعارضة ووهمها، بالأدوات المُتبعة في كلا المسارين، حيث يُمكن تحديد “وهم المعارضة” بمؤشرات قد تكون بديهية ولكن الغارق في تفاصيل المشهد اليومي وأحداثه قد ينسى البديهي:
– أن ينسى “المعارض” الحد الفاصل بين النظام والدولة، إذ من الصحي أن يعارض الإنسان سلوك النظام في كل القطاعات، ولكن من الخيانة أن يؤيد تقسيم البلاد واستجلاب المحتل ليهدم النظام والدولة.
– أن يتحول الحراك السياسي إلى أداء استعراضي مريح، قائم على فكرة المؤامرة الكونية اللا معلوماتية، مستغلاً الفضاء العام السوري الذي يُجرب الحرية على مستوى الجغرافية السورية كلها لأول مرة منذ أكثر من 70 عام.
ويمكن استعارة مصطلح “مجتمع الاستعراض” للأديب الفرنسي (غي ديبور) وإسقاطه على حالة “وهم المعارضة” التي تُحول صاحبها من السياسة إلى إنتاج المحتوى، حيث يستبدل “المعارض” اقتراح السياسيات أو نقد سياسات النظام القائم إلى الاهتمام بانتاج محتوى متجدد يجذب الجمهور، وبالتالي يتحول “الرأسمال الرمزي” لهؤلاء “المعارضين” إلى مجرد أداة للتشويش وإفراغ مفهوم المعارضة من جوهره، وتشويه فكرة المعارضة الحقيقة التقنية التي تنتقد النظام الحاكم، وأيضاً قد تتحالف معه في اللحظات المصيرية، مثل تحالف المعارضة مع النظام الحاكم في تركيا لحظة محاولة انقلاب 2016، لأن مفهوم معارضة النظام يختلف تماماً عن فكرة تدمير الدولة أو المساس بأمنها وسيادتها.
آليات صنع “وهم المعارضة”
تقوم فكرة “وهم المعارضة” على ثلاث قواعد، أولها المنصات الرقمية التي تجعل من انتباه الشعب مكافأة ل “وهم المعارض” حتى لو كان المحتوى يهاجم تركيبة المجتمع أو بعض فئاته ، ثانيها الرواية سهلة التلقي والانتشار البعيدة عن أي تحقق من المعلومة، خاصة في ظل تحمل الفرد السوري المسؤولية المجتمعية لتصرفاته وحريته، بعد أن كان الدكتاتور يتحكم بكل تفاصيل حياته، وبالتالي هذه المسؤولية المفاجأة للفرد شكلت عاملَ قلقٍ من المستقبل، هذا القلق القابل للتغذية بداية ثم التحشيد بسهولة في حال انتشار الإشاعات، ثالثها فكرة المؤامرة الكونية التي تُغذي القلق السابق، عبر إشاعات تُقدَّم على أنها معلومات حصرية حصل عليها “وهم المعارض”، وهذه المعلومات غالباً ماتكون تَمُس قضايا حساسة إما مرتبطة بالوعي السوري كالتطرق للقضية الفلسطينية عبر تسويق أن الدولة طبعت فعلاً سرياً مع اسرائيل، أو قضايا تمس “الفوبيا السورية الأمنية” التي سببها الأسد للسوريين، عبر اعتبار أن هناك فروعاً أمنية سرية نشأت من جديد تخطف السوريين مثلما كان يفعل الأسد تماماً، وبالتالي عن طريق هذه المحاور الثلاث تتبلور “وهم المعارضة”، التي تجعل “وهم المعارض” يقدم سلوكاً مجاني المسؤولية عبر غياب أدوات تغيير الواقع أو التخطيط لذلك بأسلوب وطني، وأن لا يقدم رؤيته إلى تغيير أسلوب أو شكل النظام الحاكم تحت مظلة وطنية تحمل محددات الاستقلالية والشفافية، وأن يقوم بالربط المباشر بين نظام الأسد والنظام الحالي على أنهما متطابقين سلوكياً، وهذا الربط من قبل “وهم المعارض” ليس طعناً بالنظام الحالي فقط، بل ليريح نفسه من تبعية أخلاقية تفرض عليه الانخراط في بناء الدولة، سواء بتأسيس حزب سياسي يقدم رؤيته التي تُخالف سلوك النظام، أو حتى مبادرات تقنية، وهذا الربط يتجاوز “وهم المعارض” نفسه إلى أن يُصبح سلوك الأسد الذي هجر وقتل أكثر من نصف الشعب ليس سلوكاً استثنائياً، بل مستمراً، وبالتالي يُفضي هذا الطرح إلى تشويه مسار العدالة الانتقالية، وقد تم سابقاً هذا الأمر بشكل مصغر عبر الربط بين سلوك الجيش الحر وسلوك جيش الأسد ومساواة سلوكهم في المحاكم الأوروبية، مما أدى لتمييع جرائم عدد من ضباط الأسد.
يمكن التقنين من مساحات “وهم المعارضة” عبر قدرة الدولة على قوننة مساحات العمل السياسي عبر قوانين الأحزاب والحريات، التي حتماً سيجعل نشاط الأحزاب السياسية محيداً لمساحات “وهم المعارضة”.
تفكيك “وهم المعارضة”
لا يمكن مواجهة “وهم المعارضة” أو حالة الاستعراض هذه بتجاهلها، أو إدانتها شعبياً وحسب، بل بإعادة هيكلة القنوات بين الحكومة والشعب، وذلك لرفع مستوى الشفافية بالاتجاهين، من الدولة للمجتمع عبر تبسيط القوانين والقرارات الصادرة وشرحها، ومن المجتمع باتجاه الدولة، وهذا لا يتم إلا بتمكين “رأس المال الاجتماعي” عبر النقابات والاتحادات التي تُسهم في حماية المجتمع، وأيضاً تُساعد الدولة بإنجاز قرارات توائم بين متطلبات الدولة ومصلحة المجتمع واحتياجاته، وغياب هذا التمكين يُفضي إلى فراغ ينتشر به “وهم المعارضة” الذي يواجه الدولة بشكل مباشر عبر أفراد متفرقين من المجتمع، من دون أن يجد مجتمعاً مدنياً حقيقياً يصحح هذا الوهم، لأنه من السهل بمكان أن يبني “وهم المعارض” خطابه على مظلوميته تجاه النظام، وأن يُحشد المجتمع كأفراد ضد هذا النظام، لكن من الصعوبة أن يواجه نقابات واتحادات منتخبة ترفض أن يتم استغلال المجتمع عبر الاستعراض السياسي، أو أن يتحول الفعل السياسي المعارض الطبيعي إلى “مجتمع استعراض” يزيد إرث الأسد الذي فتت المجتمع وأسس قابلية للثأر بين مكوناته الطائفية أو الإثنية أو الجغرافية، كما يقول عنها ميشيل سورا “ثأر الأرياف”.
خِتاماً؛ التمييز بين المعارضة و “وهم المعارضة” هو أنه ماذا يقدم هذا السلوك للبلد، سواء كإضافات تقنية أو تعديلات قانونية أو حتى نقد حقيقي للنظام، وأيضاً يمكن التقنين من مساحات “وهم المعارضة” عبر قدرة الدولة على قوننة مساحات العمل السياسي عبر قوانين الأحزاب والحريات، التي حتماً ستجعل نشاط الأحزاب السياسية محيداً لمساحات “وهم المعارضة”، وأيضاً تعزيز النقابات والاتحادات داخلياً، وقنواتها مع الحكومة، التي ستجعل المجتمع السوري أفراداً وجماعات يلجؤون إلى تلك التكتلات المجتمعية بمطالبهم أو حتى تحري معلوماتهم، بعيداً عن “وهم المعارض” و”المجتمع الاستعراضي” التابع له.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية