«نبض الخليج»
بدت الجريمة التي ارتُكبت في بلدة زيدل، جنوب مدينة حمص، كأنها فاجعة مركبة لا تقف عند حدود القتل وحده، بل تتجاوزها إلى ما هو أبعد أثرًا وأعمق وقعًا في وجدان المجتمع السوري. فهي جريمة اتخذت لنفسها وجهًا وحشيًا تجلّى في قتل عبد الله العبود وزوجته، التي تم حرقها والتمثيل بجثتها، وكُتب بدمائهما على جدران حمّام بيتهما عبارات طائفية بغيضة، ما فتح الباب واسعًا أمام تأويلات متعددة، والخشية من احتمال وجود محاولات متعمدة لإعادة إنتاج الفتنة وزرع بذور الشقاق بين السوريين.
فالجريمة هنا لا تبدو مجرد اعتداء فردي، إنما جريمة موجّهة، تحمل في طياتها عناصر الفتنة والتحريض. وبالنظر إلى خطورة الأمر، سارعت قوى الأمن إلى فرض حظر التجول في بعض الأحياء الحمصية ونشر عناصرها داخل زيدل وخارجها، تفاديًا لأي انزلاق نحو ردود فعل غير محسوبة، كما سبق أن حدث في الساحل السوري وفي السويداء، لكن هذا لم يحُل دون الأتيان بردّات فعل عنيفة وصل بعضُها إلى تحطيم البيوت وحرق السيارات. رأى بعض المراقبين احتمالية أن تكون الجريمة ذات دافع طائفي بسبب العبارات المكتوبة، أو أنها وُضعت بهدف التضليل، كما ألمح إلى ذلك الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية. ولكن ما هو مؤكد أنه لولا تحكم القوى الأمنية وسيطرتها على الأمور لكانت شرارة العنف قد اتسعت إلى ما هو أبعد بكثير، وربما هذا ما كان يرتجيه من أقدموا عليها. فجريمة كهذه، وفي مثل هذا التوقيت، تُعَدّ اعتداءً على النسيج المجتمعي السوري برمّته وزعزعةً لأمنه؛ لأنها تحمل في طياتها خصائص “الصدمة الجمعية”، وتهدد بتحويل الألم الفردي إلى خوف جماعي، وقد جاء فعل القتل المادي فيها كرسالة رمزية تسعى إلى تفتيت الثقة بين السوريين وتشتيت ما تبقى من روابط الأمان بينهم.
ماذا يمكن لنا أن نتوقع نحن السوريين من نتائج أمام ما خلّفته الحقبة الأسدية من جرائم ومجازر وملايين الضحايا، وأمام عدم ترسيخ العدالة المطلوبة حتى الآن؟
والجريمة دائمًا ما تُسفر عن أبعاد جنائية واجتماعية واقتصادية ونفسية. وهي، حين تقع، تُطلق حممًا من الكراهية تحاول صهر كل من يقف في طريقها. لذلك تحرص القوانين والشرائع على معالجة أسبابها وتطويقها، وأول سبيل إلى ذلك هو إقامة أسس العدالة. ففي كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة” اعتبر الفارابي أن العدالة فضيلة أساسية لتحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعي، وأن غيابها يؤدي إلى فساد المجتمع وتفشي الجريمة.
كذلك شدّد كانط في كتاباته الأخلاقية على أن العدالة لا يمكن أن تُقام إلا عبر منظومة محاسبة قانونية وأخلاقية راسخة، وأن العقاب ينبغي أن يعيد التوازن إلى الضمير الفردي وإلى البنية المجتمعية. أما جون لوك فاعتبر أن مطالبة الضحايا بالعدالة حق أصيل لا يسقط أبدًا. مئات الفلاسفة والمفكرين والمشرّعين تناولوا عبر العصور مسألة العدالة وما يخلفه غيابها من جرائم وفظائع، مؤكدين أن انهيارها هو الممر الأوسع نحو العنف والفوضى وتفكك المجتمع.
فماذا يمكن لنا أن نتوقع نحن السوريين من نتائج أمام ما خلّفته الحقبة الأسدية من جرائم ومجازر وملايين الضحايا، وأمام عدم ترسيخ العدالة المطلوبة حتى الآن؟ فالقاتل الذي ما يزال يعيش طليقًا، يشعر في أعماقه بانتصار كبير، لكونه قتل وذبَح وشرّد ومزّق أسرًا بكاملها، ومع ذلك يجد نفسه يعيش حرًا بلا مساءلة. واحتمال كبير أن مثل هذا الشعور قد يغذّي لديه قابلية أعلى للعودة إلى ارتكاب الجرائم، بل وقد يستلذ بإعادة إنتاجها كلما واتته الظروف.
ومن الوارد أيضًا أن تعتريه غصّة مريرة حين يرى ضحاياه وقد نهضوا من بين الركام وعادوا إلى الحياة من جديد؛ فمثل هذا المشهد يربكه ويرعبه، ويضخّم في داخله نزعة الإجرام ورغبة الانتقام وإعادة التمثيل بضحاياه. ذلك أن إفلاته من العقاب يمنحه وهمًا بالتفوق وهيمنة نفسية تضاعف من احتمالات العنف. وربما أكثر ما يتوق إليه مجرمو الحقبة الأسدية هو العودة إلى الخراب والفوضى، أي الرجوع إلى الوراء، غير أن ذلك بات شبه مستحيل، وهم يدركون هذه الحقيقة جيدًا. ولذلك يشعرون، بعدما تزعزعت الأرض من تحت أقدامهم، أن لا ملجأ لهم سوى التمسك بحبال الدماء التي يُخيّل إليهم أنها وحدها مصدر نجاتهم. ومع ذلك، فهذا لا ينفي أن يكون هناك بعض المجرمين يتوقون ويحتاجون إلى الاعتراف بذنوبهم والخضوع للمحاسبة والمساءلة، عساهم يخففون من شدة أوجاع الندم الذي لا يتوقف عن عضّ صدورهم، تمامًا كما تحتاج الضحية إلى من يعترف بما وقع عليها من جرم وظلم لتستعيد بعض السكينة والأمان. وبهذا الصدد يشير عالم النفس الجنائي روبرت هير إلى أن غياب العدالة والمحاسبة يُنذر بالخطر على كلا الطرفين؛ فبقاء المجرمين طلقاء يشجعهم على استمرار إجرامهم، وهم الذين يتحينون الفرص للانقضاض على من كانوا ضحاياهم وإعادتهم إلى ما كانوا عليه في الحقبة الأسدية. والضحية بدورها، إذا ما قُتلت مرة ومرتين وثلاثًا، تصبح عرضة للتهوّر والجنون، وقد تُقدم عندئذ على ارتكاب فعل جرمي ينقلها من حال الضحايا إلى حال الجلاد. وهكذا تتفاقم الجريمة وتتّسع مع عجز المؤسسات المجتمعية عن ضبطها أو فهم دوافعها، فالمجتمع الذي لا يواجه جرائمه بوضوح يتحول تدريجيًا إلى بيئة طاردة للسلام والأمان. ومن هنا ألحت الديانات والشرائع والفلسفات والعلوم الإنسانية على ضرورة إحقاق العدالة وملاحقة المجرمين وتعقبهم في كل ركن وزاوية. قد يظن من يتستر على مجرم أنه سيأمن من شره، غير أن الوقائع وعلوم الإجرام تؤكد عكس ذلك تمامًا. فالمجرم مهما يكن لا يعود إنسانًا سويًا، بل يمكن أن يغدو وحشًا يلتهم كل من حوله، لأنه لم يعد سويًا من جانب، ولأن أشباح جرائمه تطارده وتحوم حوله ليلًا نهارًا من جانب آخر. وهو إزاء جرائمه يظل مسكونًا بالخوف والرعب، ولا ينتهي خوفه ورعبه إلا بأن ينتقم من أشباح ضحاياه بممارسة الإجرام مرة ثانية.
يبقى من الملحّ والضروري أن تبادر السلطة السورية الجديدة، وبأقصى ما يمكن، إلى وضع الركائز الأساسية للعدالة الوطنية، لمعالجة البراكين الثائرة في أعماق السوريين.
ثم إنه قد تكون هناك أسر مارس فيها الأب أو الأخ أو الابن الإجرام، وتم التستر عليه. فإن استمرار هذا التستر يرجّح أن يجعل بقية أفراد الأسرة يشعرون أنهم باتوا بدورهم جزءًا من الجريمة، حتى لو كانوا أبرياء، لكونهم يحتضنون قاتلًا بينهم. وهذا سيولّد لديهم شعور العار والنزق والرعب والخوف، ولن يعود أحد منهم إلى طبيعته في التعامل مع بعضهم أو مع الآخرين. وهكذا تتراكم الضغوط النفسية في أعماقهم، وتبدأ الانفجارات، وسرعان ما يغدون ضحية للمجرم الأول الذي تستروا عليه، أو ينتجون بدورهم ضحايا جدد.
وكذلك هو حال الضحية إن لم تجد من يعيد لها اعتبارها ويهدّئ جراحها؛ فإنها بدورها تنقل حالة الشعور بالمظلومية والشعور بالنقمة إلى بقية أفراد الأسرة، وتحولهم إلى حانقين مستائين يشعرون بالغبن والقهر مثلها. وجميعنا نعرف ما يمكن أن ينتج عن شعور الإنسان بالغبن والقهر من رغبة في الانتقام. وبالتالي، فحين تفقد الضحية بصيص الأمل في رد الاعتبار إليها، قد يصبح خطرها لا يقل عن خطر المجرم. والحقبة الأسدية خلّفت وراءها عشرات الآلاف من المجرمين، وأيضًا ملايين الضحايا، وكلا الطرفين ينتظران الفرصة السانحة لتفريغ ما يضجّ ويغلي في أعماقهم. أي أننا في الحالة السورية أمام بركانين: بركان المجرمين الطلقاء، وبركان الضحايا المتروكين والمنسيين.
لذلك يبقى من الملحّ والضروري أن تبادر السلطة السورية الجديدة، وبأقصى ما يمكن، إلى وضع الركائز الأساسية للعدالة الوطنية، لمعالجة البراكين الثائرة في أعماق السوريين. فالضحايا، في لحظات ما بعد الحروب والدمار، يحتاجون إلى مداواة جراحهم بأسرع ما يمكن، وفي الوقت نفسه لا بد من تكبيل يد القتلة والمجرمين بالسرعة ذاتها، لئلا يتحول الدم إلى حبر للكتابة على الجدران ومادة لإشعال الفتنة الطائفية.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية