«نبض الخليج»
لم يعش البشر طوال تاريخهم ضمن أجواء حكم ديمقراطية، فالأخيرةُ منتجٌ حديثٌ جدًا في عمر الإنسان، وحتى لو كانت جذورها تمتد إلى أيام اليونان القديمة، فهي لم تكن ديمقراطية كاملة كما يُنظّر لها الآن. اقتصرت تلك الديمقراطية على المالكين الأغنياء من الرجال الأحرار فحسب، واستبعد منها الفقراء والعبيد والنساء. وحتى اللحظة التي نعيشها الآن في زمننا الراهن لا تعني الديمقراطيةُ العدالة ولا المساواة ولا الحريّة، فكل مفردة من هذه لها مجالاتها ومساحاتها المختلفة. يشاركُ اليوم إيلون ماسك وهو أغنى رجل في العالم مع أفقر أمريكيٍ أبيض أو ملوّنٍ، رجل أو امرأة الصندوق نفسه في الانتخابات، ويُحتسب صوته، نظريًا وقانونيًا، مثل أي صوت آخر، لكنّ الواقع يقول إنّ الفرق الهائل في التأثير واضحٌ بين ماسك وهذا الفقير في صناعة الرأي العام من جهة، وفي صناعة القرار السياسي من جهة ثانية. الديمقراطية لا تعطي البشر الحق ذاته في التأثير بمصائرهم، بل تعطيهم فرصًا متساوية للاعتقاد بذلك. الحقيقة أنّ الثروة هي التي تصنع السلطة، والأخيرة هي التي تنمّي الأولى، في حين تأخذ القواعد الديمقراطية دور إشارة المرور التي تعمل وفق مُستشعِرات الازدحام، حيث تفتح المجال واسعًا أمام الكثافة والاكتظاظ مقابل القلّة في عدد السيارات أو المارّة.
يلجأ المهزومون والضعفاء إلى الحكمة لمداراة حالهم الهزيل، ويحاجُّ المثاليون بقوّة الشعر والبيان لأنّهم يطوفون في فضاء الصورة، يخلق الفنانون عالمهم الموازي ليهربوا من ضجيج الصراحة والوقاحة والوحشية التي يصنعها البشر، يمثلون على المسرح ويكتبون الروايات وينظمون الأشعار ويرسمون اللوحات احتجاجًا أو امتعاضًا أو تأييدًا، يحاولون صناعة الواقع من وهم خيالاتهم، يأتي التأثير سائلًا ومائعًا ومديدًا من دون أن يلحظه أصحابه غالبًا. مقابل ذلك كلّه، يصنع المنتصرون الواقع على هواهم وبقوّة عزيمتهم، لأنها الأمضى في عالم المحسوسات والموجودات. الحقيقة هي الضحيّة الكبيرة في كلّ تاريخ الصراع البشري الناشب منذ الأزل، لا نعرف منها إلا شذراتٍ تقتنصها عيون البحّاثة من بين سطور المؤرخين، والناس تقف مع القوي المنتصر حتى ولو كانت عواطفها مع الضعيف المهزوم، يصلّون وراء عليّ ويجلسون على مائدة معاوية، يسبّحون بحمد قيصر ويشدّون على يد بروتوس. ويبقى الصراع مستعرًا بين الفضيلة والرذيلة، بين الخيال والواقع، بين الأخلاق والسياسة، لكن من قال إنّ الحياة تستقيم بواحدة من هذه الأضدّاد من دون الثانية؟ وهل كان لنا أن نعرف حجم تفاهة الشرّ لولا عظمة موقف حنّا أرندت الأخلاقي، وهل كان بإمكاننا أن نستمتع بدفء شمس الصيف لولا مقارنتها بكآبة برودة أيّام الشتاء؟
الديمقراطية منتجٌ حديثٌ هدفُه تسكينُ الرغبةِ البشرية العارمة بالمشاركة في صنع القرار، هي أحدُ أوجه قياس قبول المحكومين بحكّامهم، وهي لأنها حديثة لم تأخذ طابعًا شاملًا بعد، فليست كل الشعوب محكومةٌ من أنظمة ديمقراطية، بل هناك شعوبٌ لا تسعى لهذه الديمقراطية، أو لنكون أكثر دقّة، هناك فئات كبيرة من بعض الشعوب لا تفكّر بآليات التشاركية في اتخاذ القرار، وبالتالي ليست الديمقراطية مطروحة على برامج تفكيرها أو جداول أعمالها. هناك شعوب لا تجادل بشرعيّة حكّامها، أو غالبيتها على الأقل مقتنعة بشرعية هؤلاء الحكّام، وهي تجادل وتناقش بتفاصيل بسيطة تهمّها من حيث يُسرُ العيشِ وتأمين الأساسيات وأولها الكرامة البشرية ثمّ زيادة الرفاهية التي يتطلّع لها كل البشر. المثال على ذلك في منطقتنا العربية شعوب الخليج العربي، فهي لا تناقش في شرعية الأسر الحاكمة، سواءٌ في عُمان أم الإمارات أم قطر أم البحرين أم الكويت والسعودية، ومثلها في شمال أفريقيا الشعب المغربي. هذه الشعوب لديها قبولٌ واضحٌ لحكّامها، والأسرُ المالكة هنا لم تكتسب شرعية الحكم من الانتخابات، أي من الديمقراطية، بل من تاريخها ومن سياق التأسيس والبقاء والاستمرار. لاشكّ بأنّ الوفرة التي تقدّمها الدولة للمواطنين في الخليج تلعب دورًا كبيرًا في تثبيت القبول هذا، فالدولة هنا بما يتوفر لديها من ريعٍ ناتج عن استثمار النفط والغاز والاستفادة من مداخيل الحج في السعودية، ولاحقًا من الاستثمارات التي أنشأتها، تفعل فعلها في تثبيت الأسر الحاكمة كما يفعل التاريخ فعله بالنسبة للأسرة الملكية المغربية.
هل يعني هذا أنّ الديمقراطية ليست قدرًا يجب أن تمرّ به كل الشعوب والدول، أو أنّها ليست حلقة إجبارية في سلسلة التطور البشري لا بدّ أن تصل إليها المجتمعات؟ وإذا كانت كذلك، فهل ثمّة ما يمكن أن يأتي بعدها في المستقبل كأشكال محتملة للإدارة؟ وهل يمكن الانتقال من الأشكال الأخرى غير الديمقراطية كالاستبدادية، أو القبول الذي تحدثنا عنه وضربنا عليه مثالًا حال بعض الدول العربية، لتصل إلى مرحلة ما بعد الديمقراطية؟ نحن نعتقد أنّ التاريخ البشري أثبت فعلًا أنّ كل شيء ممكن، وأنّ التحولات والتغييرات مستمرة بما يتلاءم مع واقع المجتمعات الإنسانية في مراحل تطورها. هذا يعني أنّه من المحتمل جدًا ألا تمرّ بعض المجتمعات بالطريق الديمقراطي، ومن المحتمل أن يجد بعضها أشكالًا جديدة أفضل من الديمقراطية ما دامت تقدّم لها التعايش والتوافق والقبول. لا شيء يحدّ أفق الإنسان ولا شيء يسقفُ سماءَ مغامرته وتجربته، لا توجد قوالب نمطية جاهزة يمكن وضع المستقبل فيها. التطوّر البشري مفتوحٌ على كل الاحتمالات، ويمكن أن نرى في المستقبل أشكالًا أكثر إبداعًا مع تطوّر العلوم والتكنولوجيا ومع ثورة الذكاء الصناعي. من الصعوبة بمكانٍ أن نتخيّل اليوم تنازل الشركات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال عن امتيازاتهم، لكن قد تخلق التطورات المحتملة في أنماط التفكير والعيش البشري ميلًا جديدًا للتحكّم والسيطرة غير الموجودة الآن، وقد يعني هذا أنّ المال والسلطة قد لا يعودان هما الهدف الأعلى للطامحين والمغامرين، لا أحد يعرف بالضبط أن يمكن أن تأخذنا الآفاق المفتوحة للتطوّر البشري الكبير.
في الختام، ثمّة شعوب عديدة لا تفكّر بالديمقراطية، بل ولا تهمها، لكن ثمّة شعوبٌ أخرى دفعت أثمانًا باهظة لتصل إليها. نحن السوريين على سبيل المثال، نصرُّ على مطالبنا في تحقيق الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة، بل ونتصارع مع ذواتنا حولها لأننا نفتقدها، ولأننا نقارن تجربتنا مع الدكتاتورية والاستبداد بتجارب الشعوب القريبة والبعيدة التي نراها عاشت بسلام وأمان، بل وتقدّمت علينا أشواطًا كثيرة في كل المجالات. من هذا المنطلق لا يمكن أن نتنازل عن طريق الديمقراطية، لأننا لم نعترف لأي سلطة بالشرعية، ولهذا ثرنا على الأسد ونظامه، واعترافنا بالسلطة الراهنة مشروطٌ بما تقدّمه لنا أوراق اعتماد خلال المرحلة الانتقالية وبعدها. هذا الشعب الذي دفع كثيراً على مذبح الحرية لن يقبل أن يعود لقيود العبودية مجددًا. صحيح أنّ الديمقراطية ليست قدرًا بشريًا، لكنها هدفٌ سوري لن نحيد عنه حتى نصله، ولا يمكن الاستغناء عنها، بالنسبة لنا الأقل.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية