جدول المحتويات
«نبض الخليج»
عن رحلته الأخيرة إلى سوريا بعد سنوات طويلة أمضاها في لبنان، كتب عن تجربته الباحث السوري عمر الغضبان والمتخصص في الحماية الاجتماعية والتحول الرقمي، بعد أن عمل لدى منظمة الأمم المتحدة في لبنان، فأصبح يتمتع بخبرة طويلة في مجال العمل الإنساني، مع تركيز خاص على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد نشرت مجلة نيو لاينز تجربته في هذا المضمار والتي كتب عنها مقالة الرأي الآتية، ونحن في تلفزيون سوريا وفي إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بواقع الأمن في سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية المجلة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته، ترجمنا المادة، وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لها :
أحس بأن علي أن أسرد ما حدث، فتحملوني إن كان من الصعب عليكم تصديق ما أكتبه أو إن شعرتم بأن قصتي مأخوذة من أحد الأفلام، وهنا لابد أن أؤكد لكم بأنها ليست كذلك، لأن القصة التي أتحدث عنها قصة أخرى تحكي قصة الحياة اليومية التي يعيشها أغلب السوريين، سواء الذين عادوا إلى الوطن أم الذين ظلوا في بلاد الغربة.
سأسرد لكم في هذه القصة وبالتفاصيل آخر زيارة لي لسوريا في نيسان من عام 2025، إذ منذ أن تركت مسقط رأسي بجنوب غربي سوريا في عام 2023، لأحصل على وظيفة في لبنان، لم أنقطع عن زيارة سوريا نظراً لوجود أهلي وأصدقائي فيها، إذ عملت كموظف لدى برنامج الأمم المتحدة للأغذية في لبنان، بيد أن هذه الرحلة بالذات لم يكن مخططاً لها خلال إجازة “الراحة والاستجمام” التي تخصص للموظف حتى يعيد شحن طاقته. ولكن بالنسبة لي، كانت تلك الزيارة على وجه الخصوص فرصة للعودة إلى التواصل مع الأحبة الذين تركتهم في بلدي الحبيب الذي يعاني لينهض على قدميه بعد حرب أصابته بالشلل والجمود، وإثر عقود من الحكم الديكتاتوري.
سافرت بصحبة زوجتي نوارة وابنتنا علياء التي لم تتجاوز الثانية من عمرها، فقد أتينا بها معنا لأن جدها وجدتها وأفراد عائلتنا الكبيرة اشتاقوا لها كثيراً، كما كانت لدينا رغبة بلم شمل العائلة عبر لقاء الأحبة في الوطن. ولقد أكد لي أصدقائي بأن الأمور أصبحت هادئة نسبياً خلال الأسابيع الماضية، وبأنه من الآمن إحضار طفلتنا معنا. ولكن بالعودة للتفكير بالأمور، وحتى قبل وصولنا إلى سوريا، كانت هشاشة الوضع كبيرة في البلد، وقد زاد التوتر فيه إثر الأحداث المرعبة التي تكشفت أثناء فترة إقامتنا. إذ حتى بعد التحولات السياسية الكبيرة التي شهدتها سوريا عقب سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024، بقي المشهد مشوباً بالنزاعات وعدم وضوح الوجهة، فالحكومة الجديدة تبدو عازمة على تحقيق الاستقرار، إلا أن التحديات كبيرة، أما الفصائل المسلحة التي يحمل معظمها عقلية جهادية، فما تزال موجودة.
في ليلة 28 نيسان، وخلال الساعات الأولى من فجر اليوم التالي، كنا قد حاولنا أن نعيش الأمور بشكل طبيعي وذلك عندما انضممنا لأصدقائنا في مزرعة تقع بالقرب من بلدة المليحة الواقعة عند مدخل مدينة جرمانا بريف دمشق، وجرمانا هي عبارة عن ضاحية تقع جنوب شرقي العاصمة، وغالبية ساكنيها من الأقلية الدرزية. ومنذ تغيير النظام، شهدت تلك المنطقة كغيرها الكثير من المناطق، تغيرات كثيرة، ولذلك أقام أهلها نقاط تفتيش خاصة بهم لحراسة مداخل المنطقة، وذلك بعد أن زادت نسبة الحذر لديهم إثر سنين من النزاع والإحساس بالضعف في ظل الفراغ الجديد في السلطة.
بدأت تلك السهرة بسلام، فقد كان الطقس بارداً بشكل خفيف، لكنه لطيف ومنعش. والمزرعة التي تعود ملكيتها لصديقي فراس تمتد على مساحة تعادل عدة قصبات، ويقع أحد مداخلها بالقرب من نقطة تفتيش تحرسها جماعات من أهالي جرمانا، فيما يقع المدخل الآخر على الطريق الرئيسي الذي يصل إلى بلدة المليحة المجاورة. كنا عبارة عن مجموعة صغيرة مؤلفة مني ومن نوارة وعلياء، إلى جانب أربعة أصدقاء وجوي وهو كلب أحد الزملاء، غير أن علياء نامت عند الساعة التاسعة تقريباً، بحسب توقيت نومها المعتاد، ما سمح لبقية الكبار بالاستمتاع بسهرة هادئة.
ضرر واقع
غير أن الهدوء تلاشى عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فقد وردتنا مكالمة هاتفية مثيرة للقلق، كان المتصل والد صديقنا، وكان صوته متوتراً بسبب حدث مفاجئ، إذ قال: “غادروا على الفور”، ثم تابع: “التوتر عال، والدعوات قد انتشرت لمهاجمة جرمانا”. شقت كلماته سكون تلك الليلة، وأنذرت بالعنف الذي لم يتوقع حدوثه أحد بهذا الشكل. إذ قبل أيام على ذلك، اندلعت توترات طائفية بعد انتشار تسجيل صوتي أثار جدلاً كبيراً عبر الإنترنت، ويسمع في هذا التسجيل صوت رجل وهو يكيل الشتائم للنبي محمد، وقد نسب هذا التسجيل زوراً لرجل دين درزي من أبناء المنطقة، وهو الشيخ مروان كيوان، الذي أنكر أنه يعود له فيما بعد، ووصفه بأنه تسجيل مفبرك من أجل إثارة النعرات. وعلى الرغم من تبرؤه منه، والتحقيقات التي فتحتها الحكومة الجديدة والتي أكدت بأن التسجيل لا يعود له، فإن الضرر قد وقع، إذ بدأ المتطرفون بالمطالبة بالثأر، ما أدى لوقوع هجمات استهدفت أفراداً من الدروز بينهم طلاب في حمص ودمشق، ما أدى لتصعيد الوضع غير المستقر بالأصل في جرمانا.
ونحن نجمع متعلقاتنا على عجل، سمعنا أصوات اشتباك قريب، وهدير أصوات كثيرة حادة ومخيفة، وهي تتردد من جهة المليحة بصوت واحد يقول: “الله أكبر.. الله أكبر” تبعته عبارة: “حي على الجهاد.. حي على الجهاد”، أي كانت تلك الدعوة المخيفة للجهاد التي نعرفها بشكل جيد، والتي تتوعد بارتكاب عنف في معركة لا يريد أن يقاتل فيها أي أحد من هؤلاء الناس، بل فقط جزء بسيط من الفصائل التي بقيت مسلحة وغير منضبطة بعد سنوات طويلة من القتال على جبهات الحرب السورية. بعد مضي ذلك بفترة وجيزة، سمعنا الأصوات المرعبة للاشتباكات، والتي شملت صوت الإطلاق الحاد لنيران البنادق وقد اختلط بأصوات أعلى لإطلاق نيران أسلحة متوسطة، أعتقد أنه كان بينها رشاشات مضادة للطائرات وقذائف صاروخية، وكلها خلفت شرارات حمراء في الهواء عند تلك الساعة من الليل.
الكلمة الفصل لغريزة البقاء
تقدمت جماعة من المقاتلين من جهة المليحة وشنت هجوماً على حاجز درزي يقع عند المدخل الجنوبي لجرمانا، أي على مسافة 45 متراً من المكان الذي وقفنا عنده داخل مزرعة فراس. كانت الأصوات مرعبة، وتصم الآذان، كونها تحولت إلى وابل لا يرحم من الرصاص تخللته أصوات انفجارات أعنف، وهكذا أصبح الهواء أثقل، بل بات خانقاً بسبب رائحة البارود المنتشرة فيه والتي تشبه برأيي رائحة الموت نفسه. غير أن صوت الأزيز الحاد للطلقة الأولى أيقظ ابنتي النائمة، فشاركت ببكائها جوقة النغمات المتنافرة تلك.
سيطرت غريزة البقاء على كل شيء، فلجأنا إلى غرفة داخل المبنى الموجود في المزرعة، وأطفأنا جميع الأنوار، لنجتمع معاً وسط الظلام الخانق، بعد أن وحدنا الخوف الصرف. غير أن جسدي خانني، بعد أن أبدى رد فعل غريزي تجاه الرعب، إذ صار قلبي يدق بقوة وسط أضلعي، أما ركبتاي وكاحلاي وعضلاتي، فكلها أخذت ترتجف وسرت قشعريرة في جسدي كله، فاستطاع الجميع رؤية ما حل بي، أما تنفسي فقد أصبح متسارعاً، بل أخذت أنفاسي تتهدج، فكان ذلك التجسيد العضوي للخوف الصافي، الذي يستحيل على المرء أن يخفيه.
في خضم هذا الاضطراب، أبدى صديقاي فراس وبادي شجاعة قل نظيرها، إذ زحفا على الأرض باتجاه نقطة التفتيش المحلية، وأخذا يصرخان وسط الظلام ويقولا بأنهما من أهالي جرمانا العزل، في محاولة منهما للفت الانتباه من دون أن يصاب أي منهما بطلقة بالخطأ. والعجيب أنهما تمكنا من الوصول إلى نقطة التفتيش، وشرحا للموجودين هناك بأنهما مدنيان محاصران في منطقة قريبة أصبحت على خط النار مباشرة، ثم زحفا عائدين إلينا بكل حذر. غير أن جولتهما الاستطلاعية أكدت أسوأ مخاوفنا، وهي أننا حوصرنا وسط تبادل إطلاق النار، والطريقة الوحيدة للخروج من هناك لا يمكن أن تتحقق إلا عبر تبادل إطلاق النار.
اقتربنا من التحدي الثاني الذي كان علينا مجابهته، إذ بعد أن وصلنا إلى سياراتنا التي ركناها في الخارج، بات علينا التعامل مع أمر جوي الذي أدركنا أنه أصيب بذعر شديد، كما صار علينا مداراة علياء هي أيضاً بعد أن خافت كثيراً. واشتملت تلك الرحلة على الزحف على الأرض، والتقدم نحو الخارج، ولذلك ضممت علياء بقوة إلى صدري، وأنا أحاول أن أحمي جسدها الصغير بجسدي، بعد أن دثرناها بشال نوارة. في تلك اللحظة لم أعد أركز على بكائها، بل على إحساسي بنبض قلبها، فقد شعرت بأن ظهري بات مكشوفاً، وبأنني ضعيف كمن كان يتوقع الإصابة بقذيفة. أصيبت ركبتاي ومرفقاي بسحجات قوية وأنا أزحف فوق التراب أثناء تحركنا نحو سياراتنا، وشعرت في تلك اللحظة بأن الأمتار القليلة التي قطعناها زحفاً لن تنتهي أبداً.
في مواجهة الموت
عند اقترابنا من السيارات، أصبح الخطر يهددنا بشكل شخصي ومرعب، إذ عندما فتحت الباب لأشغل السيارة، أصيبت السيارة بطلقة مباشرة، اخترقت الزجاج الأمامي من جهة السائق، أي حيث كنت أتوجه لأجلس تماماً، لكن تلك الطلقة أخطأتني، لأنها ضربت الزجاج قبل ثوان من جلوسي على مقعد السائق. شعرت بحرقة في عيني وحلقي بسبب رائحة البارود اللاذعة، غير أن سيارة أصدقائي كانت خلفنا، وهكذا تحركنا بسرعة، بعد أن توزعنا على سيارتين، ولم نشعل أي ضوء تماماً كما طلب منا المدافعون من أبناء المنطقة الذي كانوا عند حاجز التفتيش والذين طلبوا منا أن نبتعد بسياراتنا في أسرع وقت ممكن، حتى وسط الاشتباكات المتواصلة.
كانت الفوضى العارمة قد حلت عند حاجز التفتيش، فقد لمحنا وجود نحو ثلاثين مسلحاً، والأهالي الذين أخذوا يدافعون عن منطقتهم، يدعمهم خمسون رجلاً آخرين انتشروا في الشوارع الرئيسية، بعد ذلك نشر المهاجمون أنفسهم فيديوهات عبر الشابكة تظهر فيها ثلة قوامها 200 رجلاً تقريباً أثناء تقدمها من تلك المدينة. بدت القيادة بلا أنوار والسير وسط أصوات المعركة المرعبة سوريالية، والعجيب أن مجموعتنا بكاملها وصلت إلى مناطق أكثر أماناً في جرمانا، أي أننا جميعاً وصلنا سالمين ولم نصب بأي أذى، باستثناء الصدمة النفسية التي قد تظهر بمرور الوقت. كنا قد تركنا سيارتي إلى مزرعة فراس، بيد أن المشهد الساخر هنا هو أن السيارة التي كادت أن تصبح مصيدة لقتلي، حمتنا من الرصاص القادم من جهة المليحة.
عند عبورنا لعتبة الأمان بمنزلنا، انفجر السد الذي كان يحجز الانفعالات المكبوتة، إذ تمسكت بنوارة وعلياء، وأمسك كل منا بالآخر ثم أخذنا نبكي بلا انقطاع، فعبرت دموعنا عن الارتياح وعن الرعب وعن الإنهاك الشديد التي شعرنا به.
في اليوم التالي، أي في 29 نيسان، تراجعت الاشتباكات إلى حد ما، على الرغم من أن التوتر بقي يخيم على المشهد، فتواصلت مع الأهالي الذين كانوا يحرسون نقطة التفتيش في الليلة الفائتة، فوافقوا على السماح لي بالعبور بأمان إلى مزرعة فراس وذلك حتى آتي بسيارتي التي تحطمت. ولكن خلال اليومين التاليين، بقيت جرمانا مغلقة بشكل كامل، وخيم عليها هدوء مريب فرضته قوات الأمن السورية التي تدخلت لتهدئة القتال على حساب معاناة الضحايا أنفسهم، كما فرضه أهالي المنطقة الذين دافعوا عن مدينتهم. وفي نهاية المطاف تم التوصل إلى اتفاق بين ممثلين عن الحكومة ووجهاء جرمانا، وجرى التعهد من خلاله بتعويض الضحايا، ومحاسبة من شنوا الهجوم، مع بذل الجهد لإعادة الأمن وتأمين طرق الخروج. ولكن خلال فترة الحظر، كان الخوف هو الرفيق الدائم، وخاصة بالنسبة لابنتي، إذ بقيت علياء تكرر العبارات التي تفوهنا بها ونحن خائفين أثناء هروبنا، وهي عبارة عن جمل مبتورة تعبر عن الخوف كانت علياء قد سمعتها فحفظتها، ولهذا كان من المؤسف بالنسبة لي أن أراها وقد دهمتها تلك الذكرى من جديد بسبب أصوات الرصاص الطائش، وبسبب الخوف الذي لم نتمكن نحن الكبار من إخفائه. لأن قذيفتين عشوائيتين أصابتنا نقطة قريبة من بيتنا فجعلتانا نقف على رؤوس أصابعنا بسبب التوتر والخوف. ومما زاد الوضع تفاقماً خبر قيام هجمات مماثلة استهدفت الطائفة الدرزية في مناطق أخرى، مثل أشرفية صحنايا، وهي ضاحية أخرى قريبة من دمشق، مع استمرار التوتر في مسقط رأسي بمحافظة السويداء الواقعة جنوباً، لأن وطأة كل ذلك، والإحساس بأن المرء قد وقع في فخ كابوس يراوده كل حين، كانت كبيرة حقاً.
“تعبت من سوريتي”
عززت هذه الحادثة التي اقتربنا فيها من الموت بشكل كبير، من ذلك الإدراك المؤلم الذي بقي يكبر في داخلي على مدى سنين، فقد تعبت من كوني سورياً، وهذا ليس لأنني لا أحب بلدي وناسي، بل بسبب تلك الأوضاع المستحيلة التي تهدد حياتنا والتي نواجهها على الدوام. تعبت من السعي بلا هوادة، من الخوف، من انعدام الاستقرار، تعبت من وجوب النضال ليوم آخر حتى أنال حقي في عيش حياة عادية، وعلى الرغم من أن إحساسي بقي كذلك لفترة طويلة، فإنني بعد زيارتي الأخيرة لسوريا شعرت بإحساس بالانتهاء وحسم الأمور، وهذا الإحساس لم يراودني من قبل، إذ لم أستطع تحمل فكرة تعرض ابنتي الصغيرة للصدمة، ولم يعد بإمكاني التفكير بخوض هذه التجربة مرة أخرى حال عودتي إلى سوريا.
القشة التي قصمت ظهر البعير
لم يكن الإنهاك الذي انتابني بسبب هذه الحادثة لوحدها، بل إنه بسبب الثقل المتراكم بعد تجارب كثيرة شارفت فيها على الموت وعشت معها مواجهات مع وحشية نظام الأسد منذ بداية الحرب في سوريا عام 2011. فقد تحملت الضرب لأني تظاهرت من أجل العدالة، وخسرت أحبة على قلبي لأسباب متنوعة، إذ مات بعضهم بسبب الحرب أو في السجن أو تعرضوا للإخفاء القسري. كانت بداية الحرب بداية لتدهور الحياة الطبيعية، ولشلل الاقتصاد ولظهور أزمات في الوقود، وانقطاع الكهرباء ونقص وقود التدفئة، ومعها ظهرت تلك الحالات التي استغنينا فيها عن الدواء والخبز. تكيفت مع كل ذلك، وكذلك فعلنا جميعاً، ولكن كيف للمرء أن يواصل التكيف والتأقلم مع وضع أمني يتدهور على الدوام؟ لقد تعرضت للخطف في إحدى المرات (كما تعرض كثير من السوريين غيري خلال الحرب)، واحتجزت لمدة 16 ساعة، وبعد إطلاق سراحي وعودتي إلى البيت، استقبلتني قوات أمن النظام بشكوكها وحققت معي على مدار ثلاثة أيام. نجوت بأعجوبة من الموت مرات كثيرة لدرجة لم يعد يعنيني أن أتذكرها، وفي إحدى المرات عدت إلى البيت لأجد أمي غارقة بدماء رجل غريب فارق الحياة وهو بين ذراعيها، بعد أن أصابته رصاصة طائشة في قلبه. وحتى المناسبات السعيدة، مثل موعدي الأول مع نوارة، وذلك عندما خططنا لأن نلتقي في منطقة باب توما الأثرية داخل الشام القديمة، كلها تشوبها ذكريات الحرب، إذ أثناء انتظاري لها حتى تأتي، بدأت قذائف الهاون تساقط فوق الساحة، فتعين علي أن أجري لأحمي نفسي. بل إن بيتنا نفسه أصيب بقذيفة هاون إصابة مباشرة، وعلى الرغم من أني لم أصب بأي أذى على الصعيد الجسدي بعد أن أخطأتني كل تلك الحوادث، فإن كلاً منها ذهب بشيء من إحساسي بالأمان.
وكانت رحلتي الأخيرة إلى سوريا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
إلا أن تجربتي الأخيرة دفعتني أيضاً لتوجيه رسالة أخص بها زملائي في الأمم المتحدة الذين يعملون على حل قضايا سورية، وكل معارفي الذين خضت معهم نقاشات حول مستقبل البلد، وهذه الرسالة مفادها أن سوريا ليست آمنة أمام عودة اللاجئين الذين فروا من وحشية الأسد، لأن كثيرين يخافون من عنف المتطرفين الذين مايزالون يواصلون عملهم في الوقت الذي تحاول الحكومة المؤقتة الجديدة تركيعهم. وما تجربتي الأخيرة إلا صورة معبرة عن هذا المشهد، وقد صبر السوريون على أمور أسوأ من ذلك بكثير، وأتمنى أن يواصلوا صبرهم إلى أن نحقق السلام وتعود الحياة التي يستحقها أي إنسان لطبيعتها، ولكن إلى أن يتم كل ذلك، لم أعد على استعداد للمخاطرة بحياتي أو بعضو من أعضائي في سبيل زيارتي وطني، ولهذا لا يجوز أن يجبر أي سوري على زيارة بلده.
المصدر: The New Lines Magazine
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية