«نبض الخليج»
بُعيد تشكيل السلطة الانتقالية في سوريا، توالت المؤشرات على أن النفوذ الروسي في البلاد لم يعد مكتملاً كما كان يُقدّم في سنوات ما قبل السقوط.
فمع انفتاح بعض العواصم الغربية على السلطة الجديدة، بما في ذلك قرار الاتحاد الأوروبي يوم الثلاثاء الماضي برفع العقوبات عن سوريا، وتزايد الحضور الأميركي في الملف السوري خلال المرحلة الجديدة، بدأت تظهر على السطح تساؤلات جادة تتعلق بمصير الوجود الروسي في سوريا.
يبقى السؤال الأهم متعلقاً بطبيعة الوجود الروسي، إذ لا يُفهم الحضور الروسي في سوريا، ولا في غيرها من الساحات الخارجية، إلا عبر تفكيك البنية العميقة التي تُنتج هذا الحضور المتمثل من خلال العقل الأمني الروسي، بوصفه جوهر الدولة الروسية المعاصرة ومنهجيتها في فرض الهيمنة.
روسيا التي بنت وجودها على توافق ضمني مع نظام الأسد، تجد نفسها اليوم أمام سلطة لا تكنّ لها العداء صراحة، لكنها أيضاً لا تمنحها صكّ السيادة كما فعل بشار الأسد.
مع صعود فلاديمير بوتين إلى السلطة في نهاية تسعينيات القرن الماضي، أخذت الدولة الروسية تنزلق تدريجياً من فكرة “استعادة المركز” إلى فكرة “إعادة إنتاج السيطرة”، ليس عبر الدولة الديمقراطية أو اقتصاد السوق، إنما عبر نموذج الدولة–الجهاز التي تحكم من خلال منظومات أمنية معقدة، وقوى موازية، ومؤسسات هجينة. الحرب الثانية في الشيشان عام 2000 كانت التمرين الأول لهذا النمط حيث تم سحق التمرد بالعنف المفرط، ثم تثبيت نخبة محلية موالية تحت قيادة أمنية، ثم دمج النصر السياسي بالاستثمار الاقتصادي، ليس لصالح الدولة إنما لصالح شبكات السلطة المتداخلة.
هذه التجربة الشيشانية تم تصديرها لاحقاً إلى مساحات خارجية عبر ما يُعرف اليوم بـ”العقل الأمني التوسعي”، والذي ينتج السياسة الخارجية من خلال إعادة تشكيل البنى الأمنية للدول المستهدفة، أو الضعيفة، أو المتداعية. وتُعد سوريا أبرز هذه النماذج، بعد تدخل موسكو العسكري المباشر أواخر عام 2015، والذي كان تأسيساً لنموذج نفوذ أمني لا يشبه الاحتلال، ولا يشبه التحالف، إنما ينتمي إلى صنف ثالث، غائم التوصيف لكن بالغ الفاعلية.
في صلب هذا النموذج يكمن الاستخدام المنهجي للجماعات العسكرية غير الرسمية، من شركات المرتزقة إلى شبكات رجال الأعمال المتصلين بالمؤسسة العسكرية.
تُعد شركة “فاغنر” التعبير الأبرز عن هذا النمط، لكنها ليست الوحيدة ولا الأهم بالضرورة. فالأمر يتركز عند البنية، وذلك أن تتحول أدوات العنف المنفلت إلى وسائل لإنتاج النظام، وأن يصبح الخارج الأمني بديلاً عن الداخل السيادي.
في سوريا، مارست موسكو هذا النموذج عبر نشر وحدات غير نظامية في محاور عدة، بينها البادية، ومواقع السيطرة على الموارد، وبعض مفاصل الساحل السوري. لم تكن هذه الوحدات مجرد قوة رديفة، إنما شكلت خطوط تماس اقتصادية وسياسية مع المجتمع المحلي، وأعادت ترتيب الولاءات من خلال الرواتب، والحماية، والامتيازات.
وقد أتاح هذا الأسلوب إخراج النفوذ الروسي من رقابة نظام الأسد نفسه، وتحويله إلى نمط سيطرة مباشر، وإن كان مموهاً بوصفه “دعماً حليفاً”.
مع انتقال السلطة في دمشق إلى قيادة انتقالية، بدأت تظهر فجوات في هذا النموذج. فروسيا التي بنت وجودها على توافق ضمني مع نظام الأسد، تجد نفسها اليوم أمام سلطة لا تكنّ لها العداء صراحة، لكنها أيضاً لا تمنحها صكّ السيادة كما فعل بشار الأسد.
إن قدرة روسيا على البقاء لاعباً في سوريا لم تعد ترتبط فقط بعدد الجنود أو القواعد، بل بمدى صلاحية نموذجها الأمني في ظرف سياسي جديد.
هذا النموذج لم يُطبق في سوريا فقط، لقد جرى تعميمه على نطاق واسع في إفريقيا، خصوصاً في مالي، وبوركينا فاسو، وجمهورية إفريقيا الوسطى. هناك أيضاً تظهر البنية ذاتها؛ مرتزقة روس يوفرون الحماية للنخب المحلية مقابل الامتيازات في الذهب واليورانيوم، وتُدار الدولة من خلال شبكة أمنية–استخبارية بديلة عن الجهاز الإداري. ولا تمر الصفقات عبر البرلمانات، إنما من خلال وسطاء، ومقاتلين، ومستشارين غير رسميين.
بهذا المعنى، يتحول العقل الأمني الروسي إلى نمط عالمي من “الدولة البديلة”. دولة لا تعترف بالحدود، ولا بالسيادة، إنما تمارس السلطة من خلال أدوات لا تنتمي للدولة نفسها، لكنها تُنتج لها القوة والنفوذ.
بعد سقوط نظام الأسد، وتشكل سلطة انتقالية، ومع تراجع القدرة الروسية على تقديم ضمانات أمنية واقتصادية واضحة، يدخل النموذج الروسي في سوريا مرحلة اختبار بنيوي. فليس من المؤكد أن تستطيع موسكو الحفاظ على أدوات نفوذها دون إعادة تعريف علاقتها بالسلطة الجديدة، ولا أن تستمر في نشر أدوات السيطرة غير الرسمية في ظل رغبة أميركية وأوروبية معلنة – وإن لم تُصغ بصيغة المواجهة – في تحجيم دور روسيا في مرحلة إعادة التشكل.
بعبارة أدق فإن قدرة روسيا على البقاء لاعباً في سوريا لم تعد ترتبط فقط بعدد الجنود أو القواعد، بل بمدى صلاحية نموذجها الأمني في ظرف سياسي جديد.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية