«نبض الخليج»
إذا تجاوزنا التحديدات اللغوية والاصطلاحية لمفهوم “الشعر السوري الجديد” باعتباره واسع الدلالة، ولا يمكن حصره بفئة محددة من الشعراء. يمكننا القول إن أي مطالعة لأنطولوجيا الشعر السوري الجديد ستأخذنا إلى مجموعة غير قليلة من القصائد المشغولة على غير مثال.
قصائد لا تشبه سوى كتّابها، تحمل بصمتهم الخاصة، وسؤال الحداثة الخاص بهم. ولا غرابة في ذلك فتاريخ الشعر العربي حافل بالذين خرجوا على محددات الشعر التي اعتمدها الأصمعي (216هـ)، أو قدامة بن جعفر(337هـ)، أو حازم القرطاجني (684هـ) فالشعر سابق على النقد تاريخيا، وسيبقى. ومع كل جديد يستيقظ جدل الإبداع والاتباع، والغلبة في النهاية للإبداع.
(نحن إخوةٌ عشرة؛
عشرةُ رعاة
أخونا الذي سنلقيه في الجبّ، مازال جنيناً في بطن أمنا.
كل مساءٍ نعود من الرعي وقد شارفنا على الهلاك؛
أبونا لا يأبه لذلك، ولا يفعل شيئاً سوى عدّ الخراف خشية أن يكون الذئبُ أكل واحداً منها.
اليوم فاجأ المخاضُ أمّنا، ونحن فاجأتنا الحرب.
نحن إخوةٌ عشرة؛
عشرةُ جنود
بتنا نحنُّ إلى مطاردة الذئب لنا
كل مساءٍ نعود وقد نقص واحد منّا
لكنَّ أبانا لا يعدُّنا كما يفعل مع الخراف
فقط يهمس لنا كي لا نوقظ أخانا الجميل يوسف
وحين لم يعُد أحد منّا لم تبيضّ عيناه من الحزن.
نحن إخوةٌ عشرة؛
عشرةُ قبور
دفنونا خارج المدينة
ويوسف عزيز المدينة
ألقى بأبينا في الجبّ واتهم الذئب بدمه).
وأنا أقرأ هذا النص لمحمد الجبوري تذكرت مقولة مدوّية قالها البابا فرنسيس للصحفي الإيطالي إيوجينيو سكالفاري: “لا تخشَ التفكير… فالله ليس كاثوليكيًا”.
إذ أن هذا الاستنطاق غير المألوف للعلاقات الدلالية أدى إلى توالد معانٍ تتجاوز ما ألفناه من تناص، وتعالق، وتوظيف للنص القرآني. هذه اللغة الولادة، المخصبة، فتحت آفاقا ومقاصد عميقة في مشهديات النص وانزياحاته المحكمة. فالرموز تتحرك في حقل الإيحاء ومستوياته التأويلية، فتتعدد مراكز الثقل في النص الشعري قبل أن تعود إلى الرحم الذي تشكلت فيه.
بينما نعمان رزوق يذهب إلى المحددات الواقعية، للوصول إلى ما تخفيه. لذلك ترى في نصوصه إحالة لمنظومة المفاهيم المرتبطة بالحياة اليومية:
الشارعُ خالٍ
لكنّ قلبي مزدحمٌ بما لا يُقال
أُحدّق في جدارٍ بارد
كأنني أستجدي منه حناناً ميتاً.
كل شيءٍ ثقيلٌ الليلة،
ولا غيمةٌ تهطلُ بعطركِ لتبلّل هذا الخراب.
مشتاقٌ لأمي،
للخوفِ الذي كنتُ أضعُه في حضنها فيهدأ ..
لصوتها الذي كان يغفرُ لي دون أن أسأل.
مشتاقٌ لعالم لا يُقاسُ بالقوّة ..
ولا يُذِلُّ من بكى،
ولا يضعُ قلبي تحت نعلِ أحد،
الليلُ الآن ..
وأنا أسقطُ في نفسي
كمن فقدَ طريقَهُ إلى البيت
ولا أحدَ في الانتظار.
إن المقصد التشخيصي في قصائد نعمان رزوق يضع صورة الأنا في مواجهة العدم. هذه الذاتية ليست جديدة على الشعر، الجديد هو تلك القدرة على فتح المنافذ الايقاعية في اللغة نفسها من زوايا مختلفة. إذ أن القيمة الأساسية للنص ترتكز على هذا الصراع بين الرغبة بوجود معنى للحياة، والعدم. يلاحظ ذلك من خلال الصور البيانية التي استعان بها لتوجيه الدلالة، حيث توزعت الاستعارات الحسيّة والتشخيصية والرمزية على مساحة النّص.
التكامل البنائي، والتناسق الشكلي، الذي من خلاله تأخذ الصورة وظيفتها البلاغية. وتأثيرها، نلاحظه في قصائد حسن إبراهيم الحسن:
الكون أرخص من حذاء حين يمشي حافيا طفل بلا أم وأب/
طفل مساء الثلج يحلم بالسرير، وأمه الـ قالوا سترجع من حلب/
طفل، أقل من الأصابع شمعه، لكن في عينيه عمرا من تعب
إن الأداء البياني المواكب للحظة الانفعال يمسك بالجملة الأولى، ويشحنها بموقف الشاعر. الموقف أولا، ومن ثم شرح الأسباب، وبذلك يتعالى القول الشعري على المنطق التبريري. فالتشبيه قائم على التبادل بين وظائف المدركات الحسية، وانفعالات الشاعر. فارتفع مقام الصورة بموازاة ذلك الانفعال. هذا التشخيص رغم بعده عن التجريد والترميز، والمحمّل بالتوتر الذاتي والمشاعر هو الأسّ الذي قام عليه الشعر. إذ أن “ربط المدركات الحسية بجوهر الشعور من المظاهر التي تطبع وجدان المبدع، وتميزه عن غيره”.1
يعتبر التشبيه وسيلة أساسية من وسائل الخيال، إذا لا يوجد في تكوين العقل البشري وسائل قياس، لهذا ترى الإنسان يقيس شيئا بشيء آخر يماثله بصورة ما، لذلك لم يكن التشبيه من العناصر الأساسية في بناء النص، إلا أن الشاعر عبد القادر الحصني بشفافيته المعهودة تجاوز تلك القاعدة:
(تخشى على الورد من إضمامة جُمعتْ
تُهدى إليكَ، ويعرو القلبَ: لِمْ قطفوا؟
فما تقولُ، وما قلبٌ يقولُ إذا
وردٌ وأهلوه في دارٍ لهمْ قُصِفوا؟)
هذا الإيجاز الهائل، والانتقال من التشبيه إلى المشبه به يلخص ما جرى في سوريا، ويثير كل الأسئلة دفعة واحدة، مع الحفاظ على شعرية النص في أعلى مستوياتها البلاغية. إذ أنه لم يشبه شيئا بشيء، بل صوّر حالتين متشابهتين ومختلفتين بآن واحد، ومع كل حالة سؤالها. وترك للقارئ سؤال اختلافهما معلقا. في الحب تكتب ميسون أسعد:
لأنها تمطر…
أحبك،
وإن لم تمطر سأحبك،
فكيف لسمكة
أن تعرف احتمالا آخر
غير الماء؟
في هذه الخاطرة تسمو شعرية النص على نماذج المآل الجمالي لفن القول، إذ أنها تتوسل خيالا مضاعفا، فتتحول الجملة إلى قصيدة، فالمدركات البصرية تقابلها تصورات ذهنية تستند على سؤال يربط الصورتين، ويجعل بينهما وحدة حال.
سارة حبيب تستبق الآراء النقدية، وتضع قراء خواطرها الشعرية أمام خيار وحيد على شكل نصيحة:
هذه القصيدة فستان طويل/
على قصيري الصبر، الهروب من إغوائها.
فهي تذهب في خواطرها الشعرية إلى مداليل ذات حساسية عاطفية بعيدة عن فلسفة اللغة وفقهها:
الكتابة عنك تحت المطر بلل مضاعف
هذه القدرة على خلق مقابل مادي للموضوع تجعل تلك الشذرات بعيدة عن التنميط، ما يؤكد على أن (طرق التفكير داخل أي لغة، هي ما تمنح موضوعها ندرة وسعة حضور)2ولذلك تراها تتنقل في بناء الصورة بين المدركات الحسية والبصرية: لإثبات حالة الموصوف:
لم يكن حبنا حبّا من طرف واحد
ولا حتى من طرفين
بل حبا، مثل رقصة بيكار في دائرة
من جميع الأطراف
إن مفهوم الشعر من المفاهيم الثابتة، التغيرات التي نشهدها كانت في الشكل (القصيدة العمودية، قصيدة النثر، شعر التفعيلة… إلخ) وفي الطرق التي يتناول بها الشعراء مواضيع قصائدهم. فالتحولات التي طرأت على وظيفة الشعر السوري في أثناء مرحلة الربيع العربي وبعده، وثورة الاتصالات، قد أدت إلى تسارع في وتيرة التغيير لمواكبة التسارع في وتيرة الحياة بشكل عام.
1-أنماط الصورة والدلالة النفسية في الشعر العربي الحديث في اليمن-د.خالد علي حسن الغزالي-مجلة جامعة دمشق-المجلد 27-العدد الأول+الثاني2011
2-حين نرسم صورة الوطن بالكلمات- صفاء ذياب- القدس العربي- 18مارس 2016
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية