«نبض الخليج»
واحدة من مجموعات فيس بوك حملت عنوان “شو رح تعمل بس يسقط النظام”، قام شخص ما باستعادتها، لتظهر بعد 14 سنة على الواجهة أمام المشتركين فيها. فنشطت من جديد، لا ليُجيب الأعضاء عن سؤال تجاوزته الوقائع، بعد أن انتصرت الثورة على نظام الإجرام الأسدي، بل من أجل تذكّر بعض التفاصيل، بكامل الطاقة التي صار فعل التذكّر يمنحها للسوريين، بين الأسى والفرح، وبين تكريس الذكرى ونسيان الحوادث المؤلمة التي أحاقت بالجميع في ظروف حرب ساحقة، لم ينجُ من تأثيراتها أحد.
التفاصيل المستعادة هنا بدأت بأسماء وصور المشتركين الشهداء والمختفين قسرًا والمعتقلين الذين غابت حيواتهم في مجاهيل الأسر. فحين نتذكّر ذلك الحضور البهيّ حينما كانوا بيننا، أو على صفحات فيس بوك وغيره، يسجّلون تفاصيل مشاركتهم في لحظة تاريخية فارقة، ونتذكّر كيف أنهم اختفوا فجأة من ذلك الفضاء، نتيجة لتكتيك كان يُتبع مع المعتقلين الجدد، يقضي بقيام أصدقائهم بحذف صفحاتهم الشخصية، بالتعاون مع عدد من الناشطين الواصلين إلى المحطة الإقليمية للموقع الأزرق، من أجل حمايتهم في أثناء التحقيق من عذاب إضافي بسبب فضول المحققين لمعرفة كل شاردة وواردة في محادثاتهم، وحرصًا أيضًا على الشركاء ممن لم يتم اعتقالهم.
بسبب هذا التكتيك اختفت نسبة كبيرة من صفحات الناشطين الغائبين، وبقي القليل. لكن لا يخلو الأمر من العثور على مشاركة لهذا الشهيد أو ذاك المختفي أو المعتقل في صفحة ما أو مجموعة منسية، كما حصل هنا.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن القيمة الأهم في عودة محادثات السوريين الثائرين بمختلف توجهاتهم، تمثّلت في محتوى الإجابة على السؤال: ماذا تريد أن تفعل إذا سقط النظام؟
إذ يحصل الباحث المهتم بتحوّلات مطالب السوريين بين شهور الثورة الأولى ولحظة سقوط النظام، على كمّ هائل من الحيثيات التي تُظهر الفرق بين زمنين، حدثت بينهما مجازر هائلة، أدت إلى نزوح ولجوء ما يقارب نصف سكان سوريا، وارتفاع أعداد القتلى على يد جيش النظام وأجهزته الأمنية وشبّيحته والفصائل الطائفية القادمة من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان، والطيران الروسي والحرس الثوري الإيراني. ووقوع جرائم شنيعة ارتكبتها الفصائل المسلحة التي حاربت النظام وحلفاءه، ووقوع جزء كبير من السوريين تحت أسر تنظيم الدولة، الذي حوّل أنظار العالم من مراقبة أفعال الأسد وعصاباته إلى التركيز على أفعال قام بها مقاتلوه والتي لا يقبل بها شرع ولا دين.
يصعب التصديق بأن الشاب الذي حلم بعد سقوط النظام بعزف الدرامز في شارع الصالحية، ما زال يحتفظ بالحلم ذاته اليوم. فما جرى في سوريا جعله يترك السلمية كخيار أساسي للثورة في عامها الأول، ويبحث عن طريقة أخرى لمقاومة العنف الذي مُورس ضده وضد أهله وسكّان حيه ومنطقته، التي صارت خاوية بعد أن هرب الناس منها، فأتى الشبيحة ونهبوها، وكسّروا وأحرقوا ما لم يستطيعوا حمله معهم.
يصعب التصديق بأن الشاب الذي حلم بعد سقوط النظام بعزف الدرامز في شارع الصالحية، ما زال يحتفظ بالحلم ذاته اليوم. فما جرى في سوريا جعله يترك السلمية كخيار أساسي للثورة في عامها الأول، ويبحث عن طريقة أخرى لمقاومة العنف الذي مُورس ضده وضد أهله وسكّان حيه ومنطقته
معظم ما يُقرأ في هذه المجموعة وفي غيرها، يأتي على ذات المنوال؛ فلا تستغرب أن ترى الشابة الثائرة التي كانت تملأ الشارع بحيويتها، قد انتهى بها الحال تنتظر عودتها بعد أن قضت الوقت وهي تُربّي أطفالًا صغارًا في إحدى دول اللجوء، ولن تستغرب أن البعض ممن كانوا يشاركون الثائرين الحلم ذاته قد انتكسوا في وقت ما وعادوا إلى أحضان النظام، وربما صاروا من شبيحته.
هي تحوّلات الحياة، نعم، لكنها اختبار كبير، نجح فيه الشهداء والمختفون، وقد غادروا المشهد وهم على الأرضية التي نعرفها، ونجح فيه آخرون، ممن أكملوا العمل على قضيتهم الأساسية، فواجهوا صعوبات جمّة، كادت أن تجعل كفّة اليأس راجحة على كفّة التفاؤل في حيواتهم، حتى تم إنقاذ الجميع عبر انتصار قوات ردع العدوان في إسقاط الطغمة الأسدية، والتي ضمّت مقاتلين كانوا في وقت ما حالمين، كما الجميع الذين دوّنوا أفكارهم في المجموعة.
التباينات التي يشهدها الواقع بين السوريين المنتصرين، ولا سيّما الخلاف حول الموقف من الدولة الحالية، وسلوكيات القائمين على مؤسساتها، لم يكن شركاء الحلم ليتوقّعوا أنهم سيصلون إليها. لا لعجز في التفكير، بل لأن الإغواء الثوري العفوي قاد نحو تصوّر مثالي، لم يكن الشباب الثائر مضطرًا لأن يخوض في رؤى مخالفة له، بسبب الدويّ الهائل الذي أحرزه سقوط أعتى الأنظمة الديكتاتورية العربية في وقت قياسي تحت موجات الربيع العربي.
لكن غياب التوقع لا يعني الاستنكاف عن مباشرة السياسة بوصفها الوسيلة الأفضل للنضال من أجل تغيير الواقع المستجد، وهذا ما يتوجّب على وارثي اللحظة الثورية الأولى أن يفعلوه الآن. فالزمن المتبقي في المرحلة الانتقالية يمكن استغلاله، ويمكن أن يتم ذلك في أي وقت، من أجل بناء أطر سياسية تعبّر عن تطلعاتهم، وكذلك يمكن لكل من ذهب إلى الثورة من أجل حلمه أن يبحث عن الأدوات والشركاء من أجل أن ينفّذه.
خلال الأيام الماضية، تذكّر السوريون في لحظة عاطفية واحدًا من الشباب السوري النقي الذي دفع حياته ثمنًا لموقفه في الانضمام إلى الثورة، أقصد المخرج الشاب باسل شحادة. وطالما أن حمص قد ضمّت جسده بعد أن استُشهد، كان الجميع يتذكرون أيضًا الشهيد عبد الباسط الساروت، ورحلته من كرة القدم إلى الثورة والعمل العسكري. ولو قُيّض لنا أن نسألهما بشكل افتراضي عمّا كانا سيفعلانه بعد سقوط النظام، فهل كنا سنسمع منهما جوابًا لا نتوقّعه؟
سيذهب السينمائي إلى أفلامه، وحارس المرمى إلى ملعبه، والموسيقي إلى أنغامه، والسياسي إلى جدالاته، إلخ… لكن شيئًا واحدًا سيجمع الكل: لقد أصبح بإمكاننا أن نعيش ونعبر عن أنفسنا من دون خوف من سلطة تطارد حياتنا وأحلامنا.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية