«نبض الخليج»
“حين تفقد الأخوّة معناها، لا يبقى من الإنسان إلا ظلّ إلهٍ مصلوب، ينزف دون أن يراه أحد”.
في أولى قراءاتي لرواية “الأخوة الأعداء” لنيكوس كازانتزاكيس، كنتُ طالبة جامعية، لم يكن في ذهني آنذاك سوى أنّني أطالع رواية عن الحرب الأهلية اليونانية، حدثٌ دامٍ في التاريخ الأوروبي، لا صلة له بواقعنا. لم أعلم أنَّ ما قرأته كماضٍ بعيد، قد يتحوّل ذات يوم إلى نصٍّ كاشف لراهننا، وكأنَّ كازانتزاكيس كتبها لنا وعنّا، بلغةٍ يونانية، ولكن بألمٍ مشرقيٍّ مألوف.
فالتمزّق الذي عاشته قرية “كاستيلو”، بتجاذباتها الإيديولوجيّة والانفعالية، يشبه ما عرفناه نحن في قرانا ومدنِنا، حين اختُبرنا في أعزّ ما نملك في قيمنا الأخلاقية الإنسانية، في قدرتنا على التعاطف، على الاعتراف بالآخر، على تجاوز الانقسامات الحادّة التي فرّقتنا بين “خائن ووطني”، “مؤمن وكافر”، “نحن وهم” تلك الثنائيات القاتلة التي لا تترك مجالًا للرحمة، ولا تقبل بالاختلاف، ولا ترى الآخر إلا كخصمٍ يجب إلغاؤه.
إنّ ما عبّر عنه كازانتزاكيس من تمزّق داخلي، وتفكك أخلاقيّ ومعنوي في زمن الحرب الأهلية اليونانية، أصبح لحظةً راهنة تتجسد يوميًا في معظم سوادنا السّوري، وتحديدًا ما بعد سقوط النظام، حين انكشفت هشاشة البنى، وتَيتّمت الفكرة من حامليها. لم يعد السؤال عن العدو في الخارج، إنّما عن ذلك الأخ الذي صار يُشبهه.
هذا الرّاهن كشف بفجاجة ما كان مستترًا تحت قشرة الدولة، فراغٌ أخلاقي، شروخٌ في الوعي الجمعي، وانهيارٌ مدوٍّ لمفهوم الأخوّة ذاته. فقد بعضنا الشعور بالأمان الجمعي، وتبدّد الحسّ بالانتماء إلى نسيجٍ واحد، تحوّلت السويداء، كما بعض المدن الأخرى، إلى فضاء معلّق، تتنازعَه قوى متصارعة باسم الحقّ والهوية والكرامة، ودخلنا في نفق العدم السياسي والاجتماعي، بينما الإنسان ذلك الذي كان موضوع الثورة وغرضها، تراجع إلى الظلّ، وانتهى به الأمر مهمّشًا، مسحوقًا بين فكي سرديّتين متصارعتين، كلٌّ منهما تدّعي امتلاك الحقيقة.
تروي (الإخوة الأعداء) مأساةَ الحربِ الأهليّةِ اليونانيّة في أواخرِ الأربعينيّات، من خلال قرية “كاستيلو”، التي تقع بين جبهتَي الصراع، المتمرّدين الشيوعيين من جهة، والمحافظين من جهةٍ أُخرى.
تُقدّم الروايةُ تحليلًا دقيقًا للصراعاتِ الإيديولوجيّة والدينيّة التي مزّقت المجتمعَ اليوناني آنذاك، من خلال شخصيّة الأب ياناروس، الكاهنِ الذي يسعى جاهدًا لتحقيقِ السلام بين الأطرافِ المتنازعة، يحاول التوسّطَ بين الشيوعيين المتمرّدين الذين يُعارضون التقاليدَ الدينيّة، والقوميّين المحافظين الذين يتمسّكون بها، لكنّه يُواجِه تحدّياتٍ كبيرة، حيث يُنظَر إليه بعينِ الشكّ من كلا الجانبين.
يرى كازانتزاكيس أنّ الحربَ الأهليّة، كونَها صراعًا بين أبناءِ الوطنِ الواحد، هي الأكثرُ دمويّة، تمامًا كما كانت أوّلَ جريمةٍ في التاريخ، قتلُ قابيلَ لأخيهِ هابيل.
في مشهدٍ لا يبتعد في ملامحه عن القرية اليونانية “كاستيلو”، تتبدّى السويداء اليوم كمسرحٍ لصراعٍ أيديولوجي، تمزّقها قوى متباينة، تتوزّع ولاءاتها بين أجنداتٍ متضادّة، بعضها مُرتهنٌ لإراداتٍ خارجية تُغذّي مشاريعَ الانفصال، وأخرى متمسّكة بخيوطِ الولاءِ لدمشق، وشريحةٌ واسعةٌ من أبناء السويداء وجهتها الوطن ككل، لكنّها تقف على مسافة، تُراقب الواقع بعينٍ فاحصة، لا تميل إلى الموالاة أو المعارضة، بل ترى الأمور كما هي بلا تهويلٍ ولا مغالاة.
مشهدٌ متشظٍٍّ تتنازع فيه الفصائل المسلحة السلطة والنفوذ تحت شعاراتٍ متباينة، ظاهرها حماية المجتمع، وباطنها تكريس الانقسام والمصالح الشخصيّة. فالسويداء، ك(كاستيلو) ساحةٌ مفتوحة لتصفية الحسابات، وتحوّل دراماتيكي في معنى الانتماء والوحدة.
يفكك كازنتزاكيس المفهوم التقليدي للحرب الأهلية باعتبارها صراعًا ثنائيًّا بين طرفين متناحرين، ليكشف عن وجود طرف ثالث منسي ومُقصى، وهم أولئك الذين لم ينحازوا لأيّ أيديولوجيا، بل وجدوا أنفسهم ضحايا لعنف لا يشبهُهم، ومأزقٍ لا يمثلُهم، حيثُ يُصوّر هذه الفئة بصوت روائيّ أخلاقي حاد، يرفض تأليه الأيديولوجيات أو تبرير الاقتتال باسم العدالة.
هذا الطرف المنسي يُجسّد موقفًا إنسانيًا مضادًا لكل أشكال الاستقطاب، منحه كزانزاكيس صوتًا وشرعية، إنّه الضمير المقموع الذي يرفض التحول لأداة للقتل والدمار. في هذا السياق تُمثّل هذه الرواية شهادةً عميقة على تمزّق الذات الوطنية، بين الرغبة في الحياة، وجنون الأيديولوجيا، وصمت الذين وجدوا أنفسهم غرباء في أوطانهم وهم يحاولون النجاة من عبث العنف والانقسام.
تتجلى بوضوح ملامح “الطرف الثالث” في محافظة السويداء بالمدنيين الرافضين للانخراط في متاهات الفصائل المتصارعة، والناهضين فوق الانقسامات الأيديولوجية التي لا تزيد الواقع إلا تمزقًا واشتعالًا، إلا أنهم يُدفعون قسرًا إلى مواجهة قسوة النزاعات، ويُستهدفون لأنّ حيادهم يفضح عبثية الصراع، ويكشف عري الشعارات التي تتذرع بالحماية وتخفي وراءها سعيًا للهيمنة.
تُظهر رواية (الإخوة الأعداء) عبث الصراع بين فصيلين متناحرين، كلاهما يرتكب الفظائع باسم الخلاص، ويهدم المنظومة الأخلاقية للإنسان، حيث تتحول الوحشية إلى سلوك يومي، وتُختبر الروابط الأسرية حدّ التمزّق، فالصراعات لا تنتج منتصرين، إنّما تُخلّف بشرًا مهزومين، أمّا “الطرف الثالث” الرافض للاصطفاف. الساعي لإنهاء الانقسام، يظل دائمًا هدفًا مشتركًا لكراهية الطرفين، لأنّه يكشف زيف ادعاءاتهما ويهددُ وجودهما القائم على الإقصاء.
برأي كازانتزاكيس تقع مسؤولية الصراع على القوميين والشيوعيون، أمّا الطرف الثالث غير المنتمي، ممثلاً بالكاهن ياناروس هو طرف مستقل يرفض العنف والتعصب من أيّ جهة.
الأب ياناروس لا يتبنى حيادًا سلبيًا، بل يقاوم بمنظوره الأخلاقي والروحي عبثية الاقتتال، رافضًا الاختيار بين “شيطانين” كما يسميهما، مستبصرًا بتشابه الأيديولوجيتين في جوهرهما الاستبدادي. في صوته، نسمع احتجاجًا عميقًا على تمزيق الوطن باسم الإنقاذ، ونداءً إلى الخلاص من الخارج والداخل معًا، فالمعركة الحقيقية في الرواية بين من اختاروا العنف وسيلة، ومن يرفضونه، ياناروس في حيرته وصراخه مستنجدا بالله، يكشف انسداد طرق النجاة، الله غائب، الزعماء مأزومون، ولم يتشكل بعد طريق الخلاص الذي يبدأ بالشعب وينتهي إليه.
يقف المدنيّون في السويداء ــ الطرف المنسي عمداً ــ في وجه واقع خانق، تنهال عليهم الضغوط من كل صوب، أمنيّة تُقيّد حريتهم، وسياسية تسعى إلى إخضاعهم أو إسكات صوتهم. يرزحون تحت وطأة التهميش والابتزاز، ذنبهم أنّهم اختاروا طريق الاستقلال في الرأي، ورفضوا الانضواء تحت الرّايات المتصارعة.
إنّ وجودهم، بما يحملونه من وعي ومسؤولية، يُربك المعادلات المفروضة، ويكشف زيف الخطابات المتاجرة بالشعب ومصيره. هؤلاء ليسوا قلّة ولا طارئين، إنّهم يمثلون الشريحة الأوسع من أبناء المحافظة، أولئك الذين يجرؤون على تسمية الخطأ باسمه، أياً كان مرتكبه، ويرون في بناء سوريا جديدة مشروعًا عابر للطوائف والسلاح والشعارات الجوفاء.
همّهم الأوّل تأسيس عقد اجتماعي يقوم على أسس المواطنة، تصونه دولة القانون، وتحكمُه معايير العدالة وحقوق الإنسان، لا سطوة الفصائل ولا تحريف المَركَز.
تكشف (الإخوة الأعداء) كيف تتحوّل الأيديولوجيات (الشيوعيّة والقوميّة) إلى دياناتٍ، لها طقوسٌ وشهداء ويومُ خلاصٍ، لكنها بلا غفرانٍ أو رحمة. عقائدُ مطلقةٌ تبتلعُ الأخلاق، فالشيوعيون يرفضون الكنيسة لكنّهم يكرّرون بُنيتها: الإيمان، الطاعة، النقاء، والنبذ.
أمّا القوميون، فيُقدّسون الأرض على حساب الروح، لا أحد ينجو من التشويه، كلّ الأطراف تلوثها فكرةُ “الحقّ الكامل”، وكلٌّ يبرّرُ سفكَ الدمّ للوصول إلى الفردوس السياسي.
ياناروس هو نموذجُ الكاهن/المثقّف الممزّق بين صمتِ الكنيسة، وكلمةِ الله التي ترفض سفك الدماء، لا يستطيع إنقاذَ أحد، ولا يملك الانسحاب. يرفض القتل لكنّه لا يُقدّم بديلاً عادلاً، يواجه تناقضه حتى موته، كإنسان ظلّ يحاول حتى النهاية.
يُمثّل ياناروس الشريحة الأوسع في السويداء، العالقة بين العجز والرفض والتّخوين. لا قاتلةً ولا مُنقذةً، شاهدةٌ على زمنٍ لا يمنح خلاصًا، مصلوبةٌ بين تقديم المعنى والسقوط، مقاومةٌ بصمتها، ومنبوذةٌ بوعيها، فقط الغرقُ البطيء بأفعال الأيديولوجيات المتصارعة، إنّها الخاسرةُ الأخيرة في حربٍ يقودها المزيفون.
يصوّر كازانتزاكيس الحربَ الأهليّةَ ككارثةٍ إنسانيّةٍ لا تميز بين جنديٍّ وثائر، كلّهم متوحّشون، ويؤكّد عبر شخصيات مثل ليونيداس ونيكوليوس على ضرورة تحرّر الناس من الأهداف الإيديولوجيّة للقادة.
يُظهر نيكوس أنّ المدنيّين غير المنخرطين هم أكثر من عانى من العنف، إذ كان يُجبرون على الانضمام تحت التهديد أو يُقتلون. كلا طرفي الصراع مارسَا التجنيدَ القسريّ على عامة الناس: “تخضع، فأنت حرّ، تقاوم، فالموت مصيرك.”
يُجسّد كازانتزاكيس في شخصية ليونيداس مأساةَ الجلاد الذي يتعذّب من فعله، فالقتل بدافع الخوف، كما يقول هو السقوط الأعظم، بهذا يفضح عبثية الحرب الأهليّة كدوّامةٍ تُدمّر الضحيّة، وتمزّق إنسانيّة القاتل.
العنف بلغ ذروته حين استُخدم الأبرياء وسيلةً للانتقام، كما في مشهد اقتحام قرية “كاستيلو”، حيث تحوّل ليونيداس من جنديٍّ متردّدٍ مجبرٍ على أن يخدم في جيش اليمين إلى “وحش”، مدفوعًا بالخوف.
كأنّ كازانتزاكيس يقول لنا إنّ الإنسان، حين يُهدَّد، ينحدر إلى وحشيّةٍ غريزية، ويفقد إنسانيّته تدريجيًّا.
ليونيداس، كممثل للطرف الثالث، يُجبر على العنف من أجل النجاة، لكنّ نظرةَ أمٍّ تحمل طفلها تبقى تطارده، كشاهدٍ على إنسانيّته الضائعة.
يُجسّد كازانتزاكيس في شخصية ليونيداس مأساةَ الجلاد الذي يتعذّب من فعله، فالقتل بدافع الخوف، كما يقول هو السقوط الأعظم، بهذا يفضح عبثية الحرب الأهليّة كدوّامةٍ تُدمّر الضحيّة، وتمزّق إنسانيّة القاتل.
دفعت قرية كاستيلو ثمن حيادها، إذ كانت عرضة لانعدام الثقة من كلا طرفي الصراع، ويعود ذلك إلى امتناعها عن إعلان ولاءٍ صريح لأيّ جهة.
استطاع الأب ياناروس المحافظة على هذا التوازن الهشّ، مانعًا القرية من الانجرار خلف أحد المعسكرين، لكنّ ضغوط الانحياز تتصاعد من كلّ اتجاه، وبسبب ثبات موقفه أصبح هدفًا للطرفين.
يكشف كانتزاكيس في روايته عن حدّة الانقسام المجتمعي حتى بين أفراد الأسرة الواحدة من خلال ابن ياناروس حيث يقاتل في صفوف الثوار الشيوعيين ضد الحكومة والقوات الملكية، أيّ أنّه أحد الأعداء في الصراع، رغم أنّه ابن الكاهن رجل الدين الذي يُفترض به أن يكون حياديًا أو منحازًا للسلطة التقليدية.
في السويداء كاستيلوس 2025، تُقاس الكارثة بسطوة السلاح وبنوع الصمت المفروض على المدنيين. أولئك الذين لم ينخرطوا في مشاريع الفصائل، ولم يمنحوا الشرعية لسرديّاتها، يُعاملون كأنّهم خارج الزمن السياسي، إنهم “الطرف الثالث” بامتياز لا يُرفقون مواقفهم برشّاشاتٍ أو خطاباتٍ تعبويّة، لا سلطة لهم سوى حلمهم بوطن يتّسع للجميع، يحفظ كرامتهم وحقّهم في الحياة.
إنّهم محاصَرون، إن انحازوا سُحِقوا، وإن صمتوا خُوِّنوا. يتم إقصاؤهم من القرار ثم يُحمَّلون وزر الخراب، وتلك مأساةٌ مزدوجة أن تُقصى عن تمثيل نفسك، ثم تُعاقب لأنك لم تمثّل ما لا يمثّلك.
تُضاف إلى هذه التراجيديا مفارقة تمثيلٍ باطلٍ باسم الأكثرية الصامتة، حيث يتصدّر اتخاذ القرار مشايخُ دين وزعماءُ ميليشيات، فيما يغيب وجه الثورة الأصلي، شباب الساحات وشابّاتها، مثقفوها، وعمّالها.
الخذلان لا يأتي من السلطة وحدها، وأيضًا من الأخ السّوري الذين يرى فيك “خطرًا على الجماعة” إن لم تُشبهه. يهاجمك لأنك تذكّره بأنّ ما تبقّى من أخلاق الثورة لا يَقبل التحوّل إلى نسخة مكرّرة من الاستبداد، وتتعرض للتخوين والإقصاء ثانية، ولكن هذه المرة من بعض رفاق الثورة وشركائك في بناء سوريا.
رواية كازانتزاكيس لا تقدّم إجابات، بل تُمعن في اقتلاع وهم الإجابة، تُعرّي الخوف، وتُحمّل الإنسان وزر اختياراته، كشريك في تشكيل المأساة.
في النهاية، تدفع السويداء – بطبقتها المدنية – ثمنَ وضوحها الأخلاقي. والوضوح في زمن الالتباسات مأساة، مأساة أن ترى كلّ شيء، وتُقصى عن كلّ قرار، وتُدان من كلّ طرف، فقط لأنك ما زلت تؤمن بأن الوطن لا يُبنى على رُكام الطوائف ولا على القرارات الملتبسة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية