جدول المحتويات
«نبض الخليج»
بالرغم من مرور أكثر من ستة أشهر على تحرير سوريا وسقوط نظام الأسد، ما يزال عشرات الآلاف من مهجري الشمال السوري يعيشون في خيام مؤقتة، على أمل العودة إلى مدنهم وقراهم التي لم تعد كما كانت أو لم تعد موجودة أصلاً.
فبعد أن انتصرت الثورة في سوريا، لم تكن العودة خيارًا واقعيًا لكثير من الأهالي، لا بسبب الموقف السياسي أو الأمني هذه المرة، بل لأن مدنهم وقراهم الأصلية قد تحولت إلى ركام، أو باتت تفتقر لأبسط مقومات الحياة: منازل مهدّمة، بنى تحتية مدمّرة، مدارس ومشافٍ مفقودة، وأرض زراعية لم تعد صالحة للعمل، لقد هُجّر هؤلاء قسرًا، لكن العودة تحوّلت إلى مغامرة محفوفة بالمجهول، لا تقل قسوة عن التهجير الأول.
يعيش المهجّرون اليوم في واقع مؤقت أصبح دائمًا، ورغم الوعود المتكررة بمشاريع الإعمار وخطط العودة، إلا أن تلك الخطط غالبًا ما تصطدم “حتى الآن” بغياب التمويل، وضعف البنية التحتية، وانعدام الأمن في بعض الأماكن، ومع الوقت، بدأت الأسئلة تتبدل من “متى سنعود؟” إلى “هل يمكن أن نعود حقًا؟”.
مفارقة ما بعد سقوط النظام
في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، طويت صفحة دامية من تاريخ سوريا بإعلان سقوط نظام بشار الأسد وتشكيل حكومة انتقالية جديدة بعد مفاوضات شاقة ورعاية إقليمية ودولية، ومع أن هذا الحدث مثّل لحظة مفصلية طال انتظارها في مسار الثورة السورية، إلا أنه لم يُترجم، كما كان متوقعًا، إلى عودة جماعية للمهجّرين إلى مدنهم وقراهم الأصلية.
وبينما اعتبر كثير من السوريين، في الداخل والشتات، أن سقوط النظام يمثل نهاية الظلم وبداية الاستقرار، بقيت مئات آلاف العائلات في خيامها شمال البلاد، وكأن شيئًا لم يتغير، هذا الواقع يطرح سؤالًا جوهريًا ومؤلمًا: لماذا لم تحدث العودة حتى بعد زوال السبب السياسي الرئيسي للتهجير؟
بالنظر إلى الخريطة الجغرافية الجديدة، لا توجد عوائق أمنية تمنع العودة إلى العديد من المناطق التي كانت سابقًا تحت سيطرة النظام، خاصة في ريفي حماة وحمص وأجزاء من حلب ودرعا وإدلب، كما أن الحكومة الجديدة، أبدت في تصريحاتها رغبة بفتح صفحة جديدة مع جميع المكوّنات السورية، وتعهدت بالعمل على إعادة المهجّرين، ورغم ذلك، لم تتحرك القوافل إلى المدن كما تحركت ذات يوم هاربة منها، بل ظل المشهد ساكنًا في مخيمات النزوح.
ليست المسألة فقط في أن الناس فقدوا بيوتهم، بل في أنهم فقدوا القدرة على إعادة بناء حياة في تلك المناطق، “حتى لو أردنا العودة، إلى أين نعود؟” يتساءل أحمد الأحمد مُسن وأحد المهجّرين في مخيم كفرلوسين شمال إدلب، “البيت ذهب، الأرض غير صالحة، لا كهرباء، لا مدرسة لأولادي، والمكان مليء بالأفاعي والعقارب.”
ويؤكد الأحمد لموقع تلفزيون سوريا أنّ كثيرا من الأراضي الزراعية التي كانت تمثّل مصدر رزق العائلات تحوّلت إلى بؤر خطرة: بعضها تُرك لسنوات بلا حرث أو عناية، ما جعلها مرتعًا للأفاعي والعقارب والحشرات السامة، وبعضها الآخر ملغّم أو مدمّر بالكامل نتيجة المعارك، ومن يعود إلى بيته اليوم، قد يضطر إلى استخدام أدوات بدائية لرفع الأنقاض، وقد يجد نفسه محاطًا بالخطر من كل جهة: انهيار الجدران، الحيوانات السامة، أو حتى الألغام.
أما في المدن الصغيرة والبلدات، فإن غياب البلديات والخدمات يجعل من العودة تجربة محفوفة بالذل والمشقة، لا توجد سيارات إسعاف، ولا مراكز طبية، ولا أفران خبز عاملة، وحتى لو قرر أحدهم أن يبدأ من الصفر، فإنه يصطدم بواقع خالٍ من الدعم، لا من الحكومة الجديدة، ولا من المنظمات الإنسانية التي ما تزال تركّز على “إغاثة المخيمات” بدل “إعمار القرى”.
هذه العوامل جميعًا تجعل العودة ليست فقط صعبة، بل في بعض الحالات خطِرة على حياة من يفكر بها فبين عائلة تسكن خيمة لكنها قريبة من مستشفى ومخبز ومدرسة، وبين عودة إلى منزل مهدّم وسط أراضٍ موبوءة بالحيوانات السامة، يختار الناس “الخيمة الآمنة” على “البيت الهالك”.
الخيمة أفضل من المجهول؟
في بلدة أطمة، الواقعة شمال إدلب على الحدود السورية-التركية، بات مشهد المخيمات المحيطة بها جزءًا ثابتًا من الحياة اليومية، آلاف العائلات المهجرة من مختلف المحافظات السورية، وخاصة من ريفي حماة وحمص وإدلب، تقيم هناك منذ سنوات، في خيام لا تقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء، معتمدين بشكل شبه كامل على المساعدات الإنسانية التي بدأت تتآكل مع الوقت.
لكن المفارقة الكبرى أن هذا “الاستقرار المؤقت” لم يتغير حتى بعد سقوط نظام الأسد، بل ازداد هشاشة، خاصة مع غياب أي خطوات جدية لإعادة الإعمار أو تهيئة المناطق المنكوبة للعودة.
مصطفى حميدة، من سكان بلدة أطمة، يتابع الوضع عن قرب، ويعرف تفاصيل معاناة المهجرين من جيرانه في المخيمات المحيطة، يقول لموقع تلفزيون سوريا: “هؤلاء الناس فقدوا كل شيء، واللي شايفو من بعيد مو مثل اللي عايشو، صحيح إنو الوضع بالمخيمات صعب، بس العودة إلى مناطقهم أصعب، ما في كهرباء، ما في ماء، حتى الطرق مدمرة، والأرض صارت مليانة أفاعي وعقارب بعد ما تُركت سنين، واللي بيرجع، بيخاف يخسر المساعدات اللي عم يتعيش منها هون”.
يرى الحميدة أن العودة، كما تطرح اليوم، غير واقعية، لأن الدولة الجديدة لم تقدّم أي ضمانات، ولا توجد بنية حقيقية تحتية لاستقبال الناس.
البعد النفسي والمعنوي
وبالرغم من أنّ المشهد الواضح والحقيقي في شمال سوريا يوحي بثبات مؤقت، إلا أنّ في عمق الخيام رواسب ألمٍ لم تلتقطها عدسات الكاميرات بعد، فمهجرو الشمال الذين ما زالوا بخيامهم بعد التحرير لم يحملوا فقط همّ الخبز والدواء، بل ثقلاً نفسياًَ يغرس جذوره في وجدان الأهالي، جاء ذلك نتيجة الانتظار المتآكل، وخيباتٍ متراكمة ذهبت معها الثقة بأي وعد قادم.
تبدأ القصة من الصدمة الأولى: لحظة التهجير، لكنها لم تكن النهاية، بل بداية رحلة طويلة من التكيّف القسري مع بيئة مؤقتة أصبحت دائمة، اليوم وبعد إعلان سقوط النظام في دمشق، لم تُولد لدى كثيرين مشاعر النشوة أو التحرر، بل عادت الأسئلة القديمة بثوب جديد: هل ما يأتي سيكون أفضل؟ هل نحن حقًا في بداية نهاية المعاناة، أم في بداية فصل جديد منها؟
تقول الباحثة الاجتماعية نور نجّار لموقع تلفزيون سوريا، التي تعمل في توثيق التحولات النفسية لدى سكان المخيمات: “لاحظنا أن كثيرًا من المهجّرين لم يُظهروا حماسة تُذكر لفكرة العودة، ليس لأنهم لا يريدون العودة، بل لأنهم فقدوا الثقة بأنّ شيئًا سيتغيّر فعلًا، الصدمة النفسية لديهم مركّبة، إحباط إنساني، وخوف من المجهول، هناك من عاش 10 سنوات في الخيمة، أصبح يشعر بأن أيّ محاولة للخروج منها مخاطرة، لا فرصة.”
وتابعت النجار أنّ هذا الواقع النفسي يتعمّق أكثر لدى الجيل الجديد، الجيل الذي نشأ وترعرع في المخيمات، ولم يعرف من سوريا سوى بيوت القماش، وساحات الطين، وصوت المساعدات الذي يأتي ويغيب بلا موعد، جيل لم يختبر المدرسة النظامية، ولا الحيّ، ولا حتى فكرة المنزل، بالنسبة له، “العودة” ليست عودة إلى مكان، بل انتقال غامض نحو بيئة لم يجرّبها من قبل.
تضيف نور نجّار في شهادتها، عندما نتحدّث مع الأطفال في المخيمات، ونسألهم: أين بيتك؟ يشيرون إلى الخيمة بثقة، البعض منهم يعتبر الخيمة ‘طبيعية’، ويجد في فكرة البيت المبني شيئًا غير مألوف.
كل هذا ينعكس على قرار البقاء أو العودة، فالخوف ليس فقط من الألغام أو الخراب أو غياب الخدمات، بل من فقدان “الأمان النفسي” الذي بنوه، بمرارة، داخل هذا العالم المؤقّت، كثير من المهجّرين يفضّلون “المعلوم القاسي” على “المجهول المأمول”، لا لأنهم لا يملكون طموحًا، بل لأنهم أُنهكوا من خيبات الماضي.
في ظلّ هذا البعد النفسي، تصبح خطط العودة، مهما كانت مدروسة، ناقصة ما لم تتضمّن برامج دعم نفسي، وتأهيل اجتماعي، ومصارحة حقيقية مع آلام الناس لا مجرّد وعود، فالإعمار لا يبدأ بالإسمنت، بل بإعادة بناء الثقة.
وفي السياق ذاته، تروي ربا ياسين، وهي طالبة جامعية مهجّرة إلى مدينة عفرين وتتابع دراستها في كلية التمريض، وجهًا آخر من المعاناة المرتبطة بفكرة “العودة”، لكنه أكثر حساسية من الناحية الاجتماعية والنفسية، خصوصًا بالنسبة للنساء
تقول ربا لموقع تلفزيون سوريا: “أنا من ريف دمشق، تهجّرنا من وقت ما كنت بمرحلة التعليم الإعدادي وكملت دراستي بصعوبة، والحمد لله وصلت الجامعة، اليوم عم يسألونا ليش ما منرجع؟ بس أنا كفتاة، ما برجع على مكان، ما فيه نقل، شو بعمل؟ بترك دراستي؟ بوقف تعبي؟ بعيش ببيت مهدود وما فيه كهربا ولا إنترنت؟”
شهادة ربا تفتح نافذة على معاناة مضاعفة: معاناة التهجير، ومعاناة مواجهة مجتمع غير مهيّأ أصلًا لاستقبال طلاب من شمال سوريا، في بيئة ما تزال تفتقر لأدنى مقومات الحياة، فبالنسبة لها، العودة ليست قرارًا فرديًا، بل منظومة يجب أن تتكامل: من سكن جامعي آمن، إلى مواصلات، إلى فرص وظيفية لاحقة، وغياب كل ذلك يجعل من فكرة “العودة” رفاهية لا يملكها المهجّرون، حتى وهم يتمنّونها.
في النهاية، لا يمكن اختزال بقاء المهجّرين في خيامهم بمجرّد قرار شخصي أو تعلّق مؤقّت ببيئة النزوح، فالمشهد أعقد من ذلك بكثير، فبين الخيمة والبلدة المهجورة، هناك فراغ كبير لم تملأه خطط العودة، ولا الوعود السياسية، ولا حتى تطمينات المستقبل، ولعلّ أبسط ما يمكن قوله هو أننا، نحن الذين نكتب ونحلّل، لا نملك أجوبة جاهزة، لكننا نملك واجب الإنصات، واجب أن نُنقل صوت الذين ينتظرون، لا من باب الرثاء، بل من باب الإصرار على أن تظل معاناتهم حاضرة، حتى يأتي اليوم الذي لا تكون فيه الخيمة خيارًا دائمًا، ولا العودة حلمًا مؤجلًا.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية