جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في تحول لافت في توازنات شرق آسيا والشرق الأوسط، كشفت مجلة ذا ديبلومات عن مسعى استراتيجي جديد تقوده كوريا الجنوبية لتعزيز علاقاتها مع سوريا بعد سقوط نظام الأسد، مستغلة الفراغ الذي خلفه تراجع نفوذ كوريا الشمالية، الحليف التاريخي لدمشق. ووفقاً للتقرير، تسعى سيئول إلى لعب دور فاعل في إعادة إعمار سوريا، ليس فقط لكسر عزلة بيونغ يانغ، بل أيضاً لترسيخ نفوذها في منطقة لطالما طغى عليها حضور قوى كبرى مثل الصين وروسيا وتركيا. إن المبادرة الكورية الجنوبية، التي وُصفت بأنها فرصة نادرة، تتجاوز الحسابات السياسية لتطرح نموذجاً تنموياً قائماً على الاستقرار، والحكم الرشيد، والتنمية البشرية، في بلد أنهكته الحرب وأثقلته العقوبات الدولية.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بواقع الأمن في سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:
كان لسقوط نظام الأسد في سوريا تداعيات جيوسياسية وصلت إلى آسيا، فخلقت انفراجة لكوريا الجنوبية سمحت لها بالتعامل مع حكومة تصريف الأعمال الجديدة في سوريا، كما ساعدتها على أن تحل محل كوريا الشمالية التي كانت أحد حلفاء بشار الأسد الصامدين، وبذلك أصبحت كوريا الجنوبية حليفاً مهماً للسوريين.
على مدار عقود طويلة، حافظت دمشق هي وبيونغ يانغ على علاقات سياسية ودفاعية عميقة، ظهرت في ظل عزلة مشتركة تحت وطأة العقوبات الدولية. غير أن انهيار الأسد أنهى ذلك التحالف، وقدم لسيئول فرصة لتعميق العزلة على كوريا الشمالية، وذلك عبر التعامل بشكل مباشر مع الدولة السورية بعد الأسد. إذ بالنسبة لكوريا الجنوبية، فتح تطبيع العلاقات مع سوريا صفحة جديدة في تاريخ التعاون بين البلدين، وجرد كوريا الشمالية من صفة الحليف الدبلوماسي النادر.
إنهاء محور سوريا-كوريا الشمالية
على مدى عشرات السنين، حافظت سوريا وكوريا الشمالية على رابطة “التحالف بالدم” التي رسمت العزلة الدولية المشتركة والتعاون العسكري بينهما ملامحها، فقد بدأ هذا التحالف خلال حروب العرب مع إسرائيل، وتعمق في ظل حكم الأسد عقب الحرب السورية، وذلك عندما أخذت بيونغ يانغ تمد النظام البائد بالأسلحة التقليدية والصواريخ الباليستية، والتقانة وكذلك المساعدات في مجال تطوير الأسلحة الكيماوية والنووية. فخلال الحرب السورية، رفدت بيونغ يانغ الأسد بمستشارين عسكريين، فضلاً عن شحنات الأسلحة غير القانونية، والمقاتلين المسلحين، في خرق صريح للعقوبات الأممية. وبادلها الأسد الدعم عبر تحدي العقوبات الدولية المفروضة على كوريا الشمالية، وذلك من خلال تعزيز التعاون بين البلدين في سلسلة من القضايا الاستراتيجية. وهكذا تحول كلا البلدين إلى شريان يمد الآخر بالحياة.
انهار ذلك التحالف بسقوط الأسد، إذ خسرت كوريا الشمالية بذلك شريكاً دبلوماسياً نادر الوجود، وبالمقابل، اقتنصت كوريا الجنوبية فرصة نادرة الحدوث، ولهذا تحركت بسرعة لتستغل تلك الانفراجة الاستراتيجية، إذ بعد أن صممت على تأمين موطئ قدم لها بين أوائل الساعين لذلك في مجال إعادة إعمار سوريا، أرسلت كوريا الجنوبية إلى دمشق في نيسان الماضي تشو تاي-يول وزير خارجيتها آنذاك، وذلك لإحياء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ضمن اتفاق تاريخي عقده مع وزير الخارجية السوري الجديد، أسعد الشيباني. فاعتبرت تلك الخطوة خطوة تاريخية مهمة، إذ لأول مرة في تاريخها، تحافظ سيئول على علاقاتها الدبلوماسية مع كل دولة عضو في الأمم المتحدة، ما عدا كوريا الشمالية.
كما أوضحت قيادة كوريا الجنوبية نواياها بكل جلاء بالنسبة لدعم عملية تعافي سوريا وتشجيع الشركات الكورية على الاستثمار في إعادة الإعمار، وخاصة بعد قرار الولايات المتحدة القاضي برفع العقوبات، إذ أكد تشو بأن استقرار سوريا وازدهارها أمر ضروري لنشر السلام في الشرق الأوسط وما سواه، وعبر عن أمله بأن يسهم إحياء التعاون بين البلدين في التنمية ونشر الاستقرار على المستوى الإقليمي. ومن جانبه، رحب الشيباني بعرض كوريا الجنوبية المتمثل بتقديم الخبرة التطويرية والمساعدات الإنسانية لسوريا، وتطلع لدعم سيئول في مجال مواصلة تخفيف العقوبات وإعادة بناء البلد.
أهمية سوريا بعين كوريا الجنوبية
إن اليد التي مدتها كوريا الجنوبية للحكومة السورية المؤقتة تخدم ثلاثة أهداف رئيسية، أولها تعميق عزلة كوريا الشمالية، وتوسيع نفوذ سيئول في الشرق الأوسط، ورسم معالم عملية إعادة الإعمار لتتمحور حول التنمية والتطوير القائمين على المبادئ والقيم.
بداية، يمكن لتعميق العلاقات بين البلدين أن يسمح لسيئول بمجابهة نفوذ كوريا الشمالية على الصعيد الاستراتيجي في المنطقة، إذ يرى خبراء في شؤون الأمن الكوري بأن تعامل كوريا الجنوبية مع سوريا لابد أن يسهم في إضعاف موطئ قدم بيونغ يانغ الذي أقامته هناك منذ أمد بعيد، كما سيوجه رسالة واضحة لباقي الأنظمة المستبدة التي تعتبر شريكة لكوريا الشمالية، وعلى رأسها روسيا وإيران. وفي الوقت الذي أخذت القيادة السورية الجديدة تنأى بنفسها عن الماضي، يمكن للتعامل مع سيئول أن يغير التوازن لصالح كوريا الجنوبية.
ثانياً، يمكن لتعاون كوريا الجنوبية مع سوريا أن يسهم في خلق حالة توازن مناهضة لتوازن نفوذ القوى الإقليمية والدولية الأخرى، والتي تشمل الصين وتركيا وإيران، وذلك عبر مساعدة السلطات السورية على تنويع علاقاتها الخارجية والحد من اعتمادها على تكتل واحد. وفي الوقت الذي تؤكد كثير من العناصر الفاعلة غير الغربية على فكرة التطوير السريع للبنية التحتية، والتي تأتي غالباً على حساب الحكم الرشيد، قد تطرح كوريا الجنوبية نموذجاً أشمل على هذا الصعيد، وذلك لأن سيئول خلال فترة تعافيها بعد الحرب جمعت ما بين التخطيط المركز والنمو القائم على السوق، وهذا ما ساعد البلد على تحقيق قفزة سريعة في مجال الصناعة والابتكارات التقنية وتطوير الرأسمال البشري. ولقد أبدى المسؤولون السوريون اهتمامهم بالتعلم من هذا المسار، غير أن تقليد نموذج كوريا الجنوبية في سوريا لابد أن يعتبر تحدياً كبيراً نظراً للانقسامات التي تعتري مؤسسات الدولة في سوريا، ولاستمرار حالة انعدام الاستقرار، ولاستمرار وجود ثغرات ونواقص ضمن الإمكانيات السياسية للدولة السورية.
ثالثاً: قد تلعب كوريا الجنوبية دوراً في المشهد الأمني الهش لسوريا، ولنفصل في هذه النقطة يمكن القول إن سيئول بوسعها دعم الإصلاحات الأمنية المهمة في سوريا وذلك عبر تقديم المساعدات التقنية في مجالات معينة مثل إزالة الألغام وضبط الحدود، وحماية البنى التحتية. وهذا ما سيحول كوريا الجنوبية إلى عنصر فاعل مهم على المستوى الإقليمي، إلى جانب فتح فرص للتصدير أمام صناعاتها الدفاعية الناشئة. فقد زادت صادرات السلاح في كوريا الجنوبية عشرة أضعاف تقريباً خلال العقد الماضي، ويعتبر الشرق الأوسط من أهم أسواق التصدير أمامها.
غير أن هذه المساعي ستبقى في سوريا محدودة إلى أن تخفف القيود الأميركية على الصادرات التقنية ذات الاستخدام المزدوج التي تصل إلى سوريا، لأن هذه العملية ترتبط بضمان عدم وصول تلك الأمور إلى جماعات إرهابية أو كيانات خاضعة للعقوبات، بيد أن هذه الضمانات لم توجد بعد.
إعادة البناء على أرضية هشة
قدرت لتكاليف إعادة إعمار سوريا أن تصل إلى نحو 400 مليار دولار، ولا يمكن لهذا البلد تحمل عبء كل تلك الفاتورة، فقد انكمش الاقتصاد السوري بنسبة فاقت 85% منذ بداية الحرب في عام 2011، ووصلت نسبة الفقر فيه إلى أعلى مستوياتها عند حاجز 90% من أبناء وبنات الشعب، وذلك وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة. وحتى بعد حصول عملية الانتقال السياسي، ماتزال المخاطر قائمة، إذ مايزال هنالك احتمال قائم لتجدد النزاع، ولمزيد من الإنهاك والضغط الذي يمكن أن يطرأ على الاقتصاد الرسمي للبلد، ناهيك عن التشكيك المستمر الذي ينتاب المستثمرين الأجانب تجاه مستقبل سوريا.
ومع كل ذلك، ماتزال حكومة تصريف الأعمال التي يترأسها أحمد الشرع تبدي براغماتية حتى الآن، إذ خلال أول ستة أشهر لها في الحكم، قدمت عملية إعادة الخدمات لعامة الناس على سائر الأولويات، كما استقطبت الدعم الدولي من أجل رفع العقوبات، وأعادت بناء المؤسسات التي أفرغتها حكومة الأسد البائد من محتواها، وشمل ذلك المساعي التي بذلتها تلك الحكومة لتنأى بنفسها عن كوريا الشمالية.
حققت تلك الحكومة أهم نجاحاتها منقطعة النظير عند رفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لعقوباتهما المفروضة على سوريا، إذ في 23 أيار 2025، أصدرت الولايات المتحدة الرخصة العامة رقم 25 التي تبيح إقامة معظم الصفقات التجارية مع الحكومة السورية الجديدة، وتبعها الاتحاد الأوروبي بعد يوم على ذلك، فخلقت تلك التحركات مجالاً قانونياً أمام كوريا الجنوبية وغيرها من الدول حتى تبدأ بالتعامل مع سوريا في ملف إعادة الإعمار وتوسيع الاستثمارات في القطاعات الرئيسية بسوريا. بيد أن التحديات ماتزال قائمة، إذ ماتزال سوريا تفتقر للسيولة، ولديها احتياجات إنسانية كبيرة، كما أنها تسعى جاهدة لتستقطب الاستثمارات الأجنبية على أعلى المستويات.
بصيص نور ضئيل أمام تحقيق أثر استراتيجي
وفي ظل هذه الظروف لن يكون تعامل كوريا الجنوبية مع سوريا بالأمر الهين، لأن عليها أن تبحث عن فرصة لها ضمن هذا المشهد السياسي المتصدع، والمصالح الإقليمية المتناحرة، والصدمة التي لا يمكن أن ينساها أحد في سوريا والتي خلفتها حرب طويلة في هذا البلد. بيد أن هذه اللحظة تمثل فرصة نادرة بالنسبة لسيئول حتى تلعب دوراً في مجال نشر الاستقرار ودعم هذا البلد وهو في طريقه نحو التعافي.
إن آثار رفع العقوبات تحتاج إلى وقت حتى يشعر بها الإنسان السوري العادي، وخلال هذه الفترة، بوسع كوريا الجنوبية أن تسهم في ملء الثغرات الحساسة وذلك عبر دعم جهود التعافي المبكر التي تعزز الاستجابة الإنسانية والخدمات الأساسية، بالتنسيق مع الأمم المتحدة والمجتمع المدني السوري. وسبق لسيئول أن التزمت بتقديم مساعدات عينية شملت أجهزة طبية مثل جهاز غسل الكلى وأجهزة التصوير بأشعة إكس والتي كانت المنظومة الصحية المتداعية في عموم سوريا بأمس الحاجة إليها وقتئذ.
لذا، فإن توسيع أطر هذه المساعدات، إلى جانب توفير الدعم التقني للإدارة العامة وللرعاية الصحية وللتعليم، يمكن أن يسهم في إعادة بناء قطاع الخدمات العامة بسوريا ويعزز شرعية مؤسسات الحكومة الانتقالية. كما يمكن لدعم العناصر الفاعلة المحلية ضمن المجتمع المدني والتي تتدخل غالباً في النواحي التي فشلت الدولة بحلها، أن يحسن عملية توفير الخدمات وأن يعزز الثقة وأن يحد من الاعتماد طويل الأمد على المساعدات الدولية.
ولابد للعلاقة المتوازنة التي قامت بين كوريا الجنوبية وسوريا أن تتوسع لتتجاوز صادرات الدفاع والجهود الاستراتيجية الساعية لعزل كوريا الشمالية، لأنها يجب أن تركز على تنمية الإنسان أيضاً، فتعافي سوريا يعتمد بشكل كبير على استقرار الحياة اليومية لمواطنيها، وهنا بوسع كوريا الجنوبية أن تحقق مصداقية دائمة، إذ شوهدت سيارات هيونداي في شوارع سوريا قبل كل ذلك، غير أن بقية السلع والمنتجات الكورية مثل المعدات الطبية أو أدوات إزالة الألغام بوسعها أن تخلف أثراً فورياً أعمق كونها تحسن حياة الناس بشكل كبير، وذلك قبل أن تتحقق آثار عملية رفع العقوبات ونتائجها على الأرض.
ولكن يجب على كوريا الجنوبية أن تخطو تلك الخطوات بحذر شديد، وذلك لأن تعاملها مع الحكومة الانتقالية التي تشتمل على عناصر فاعلة تربطها علاقات بتنظيمات فرضت عليها عقوبات في السابق، مثل هيئة تحرير الشام، قد يثير قلقاً كبيراً بين الشركاء الذين يمثلون عدة أطراف، كما يدعو للتحقيق والبحث في المسألة. ولذلك لابد من ربط الدعم بآليات معترف بها دولياً وتشمل وكالات الأمم المتحدة، إلى جانب التعاون الوثيق مع منظمات معتمدة ضمن المجتمع المدني وذلك لحماية مشروعية تلك المساعدات ولإدارة المخاطر التي قد تتسبب بتشويه السمعة.
كما قد يكون لتاريخ كوريا الجنوبية البعيد كل البعد عن الصبغة الاستعمارية، وحياديتها المعروفة ضمن هذا المضمار أن يصبا في مصلحتها، إذ في الوقت الذي تتنافس الدول العربية والمانحون الإقليميون على النفوذ في سوريا بعد انتهاء النزاع فيها، تلوح أمام سيئول فرصة لتقدم نفسها بوصفها جسراً يربط بين المانحين الغربيين والعناصر الفاعلة الإقليمية، إلى جانب محافظتها على نهج قائم على مبدأ تعافي سوريا واستقرارها.
وهنا قد يتمخض رهان كوريا الجنوبية على سوريا عن نتائج أكبر وأهم من مجرد تحقيق حالة تكافؤ على المستوى الدبلوماسي، لأن هذا الرهان يقدم نموذجاً جديداً لطريقة تعامل دول مثل كوريا الجنوبية مع دول هشة على تعزيز حالة التعافي بعد النزاع، ورسم مستقبل جهود عمليات نشر الاستقرار الدولية من الصفر.
المصدر: The Diplomat
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية