جدول المحتويات
«نبض الخليج»
منذ اندلاع الحرب في سوريا، عاشت في مصر آلاف الأسر السورية التي انتقلت من العيش في بيئة أسرية ممتدة (الأب والأم والأبناء والأجداد والأقارب في بيت واحد أو حي واحد) إلى نمط الأسرة الصغيرة المختلفة عن حياتهم السابقة، وأحيانا أسر مفككة، وهو واقع فرضته ظروف النزوح والواقع الاقتصادي والاجتماعي الجديد.
” كنا عائلة كبيرة، نجتمع يوم الجمعة من كل أسبوع، الآن كل شخص في بلد، وما تبقى منا يعيش في مصر، ورغم قرب المسافة ومحاولاتنا بإبقاء تجمعنا إلى أن الظروف تغيرت، ما عدنا نعيش كعائلة”.
بهذه الكلمات، اختصرت منى الخالدي، لاجئة سورية تعيش في القاهرة، تحول الأسرة السورية من نموذجها التقليدي المتماسك، إلى واقع جديد فرضه اللجوء.
الأسرة تشمل الأفراد المقيمين معا في منزل واحد، وتربطهم علاقة مباشرة (دم أو زواج)، في حين العائلة تشمل عددا أكبر من الأقارب لا يعيشون في منزل واحدة.
في سوريا، كان “بيت العيلة” مؤسسة متكاملة والأدوار موزعة على الجميع، لكن بعد اللجوء إلى مصر، اختلفت المعادلة، ومع انقسام العائلة نتيجة للحرب، إما بسبب الموت أو التهجير، أصبحت الأسر أكثر هشاشة.
تقول ليلى محي الدين، سورية تعيش مع أولادها الثلاثة في منطقة “ستة أكتوبر” بعد أن فقدت زوجها في الحرب، تشتت عائلتنا، عائلتي موزعة على بلدان عديدة.
وتضيف، في حديثها لموقع “تلفزيون سوريا”، لا يوجد لدي في مصر أي سند سوى بعض جيراني المصريين، أنا الأم والأب والعائلة بأكملها.
الأمهات في الواجهة.. ربة بيت ومعيلة في آن معا
أبرز ما تغير في بنية الأسرة هو دور المرأة السورية، الذي انتقل من نمط تقليدي في كثير من الأسر إلى دور مركزي، معيلة ومربية ومسؤولة عن التوجيه.
كثير من السوريات في مصر اليوم يعملن في مشاريع صغيرة، مثل الطهي المنزلي، وبيع المنتجات عبر الإنترنت والحضانة وإعطاء الدروس الخصوصية وغيرها.
تقول هبة سروجي، التي تدير مشروعا لإعداد الطعام المنزلي، قبل الحرب كنت ربة منزل، زوجي كان المسؤول عن كل متطلبات الحياة، ولكن بعد أن لجأت إلى مصر، اضطررت أن أعمل لأساعد زوجي، الوضع الاقتصادي صعب للغاية، لا يمكن لشخص واحد أن يعيل أسرة لوحده في هذا الوقت.
الاعتماد على الذات غيّر من التوازنات داخل البيت، فازداد احترام الأبناء للأمهات، لكنه أيضا أرهقهن، خاصة في ظل غياب الدعم المادي والاجتماعي.
تآكل الصورة التقليدية للأب
عدد كبير من الرجال السوريين في مصر يعملون بأجور زهيدة لا تفي بمتطلبات الحياة، هذا الانحدار الاقتصادي ينعكس على مكانتهم داخل الأسرة.
تقول لمى سالم، إحدى الأمهات السوريات، زوجي يعمل بأكثر من وظيفة، لكنه محبط دائما بسبب الظروف، وهو ما انعكس بالسلب على أولادنا، وغيابه الطويل عن البيت جعلهم يعتادون أنه غير موجود، أحاول أن أغير لهم هذه النظرة وأرسم صورة الأب المركزية.
يقول محمد وجيه، أخصائي اجتماعي، في حين يتراجع دور الأب كمصدر رئيسي للسلطة والقرار والإنفاق، يعاد توزيع ” السلطة العائلية” بشكل غير معلن على النساء والأبناء، مما يحدث نوعا من التفكك أو إعادة البناء العشوائي للعائلة.
تربية جديدة.. بين التشديد والتساهل
أحدثت تجربة اللجوء في مصر تغييرا في أسلوب التربية داخل كثير من الأسر السورية، نتيجة لانفصالها عن محيطها التقليدي الذي كان يلعب دورا رقابيا وتوجيهيا ضمن العائلة الكبيرة أو الحي أو حتى المدرسة.
هذا الغياب للبيئة المألوفة، وضع الأهل أمام تحد جديد يتمثل في اتخاذ قرارات تربوية بشكل منفرد، في سياق اجتماعي وثقافي مختلف.
هذا التغيير دفع بعض الأهالي إلى التشدد أكثر في أساليبهم التربوية، خوفا من ضياع العادات والتقاليد في الغربة، خاصة مع ازدياد الانفتاح الإعلامي والثقافي المحيط بأبنائهم.
في المقابل، اختار البعض الآخر نهجا أكثر مرونة، إدراكا منهم لاختلاف الواقع وحرصا على التخفيف من الضغوط النفسية التي قد يواجهها الأطفال في بيئة مختلفة.
وفي أوساط الأسر المتعلمة أو المنفتحة ثقافيا، بدأ يظهر توجه مغاير يقوم على الاستفادة من هامش الحرية في المجتمع المصري لتعزيز استقلالية الأبناء، وتشجيعهم على التعبير عن آرائهم وتنمية مهاراتهم الفردية، هذا النوع من التربية لا يخلو من التحديات، ولكنه أتاح للأطفال فرصا للتطور لم تكن ممكنة في بيئات أكثر انغلاقا.
مصر الحاضنة.. الأمان والعلاقات والتعاطف الشعبي
رغم التحديات الكثيرة التي تواجهها الأسر السورية في مصر، إلا أن كثيرا منهم يؤكدون أن البيئة المصرية ساعدت في تخفيف الصدمة وتوفير حد أدنى من الاستقرار.
في الأحياء التي يسكنها السوريون، نشأت علاقات إنسانية دافئة مع الجيران المصريين، وأظهر العديد منهم تعاطفا صادقا، خاصة خلال السنوات الأولى من اللجوء.
يقول براء جمعة، وهو سوري مقيم في حي مدينة نصر، عندما أسافر مع عائلتي لقضاء إجازة، يتصل جيراني باستمرار للاطمئنان علينا، وعندما توفت والدتي منذ عامين، تكفل جيراني بكل إجراءات الدفن والعزاء، لم يسمحوا لي أن أحزن وحدي.
كذلك أسهم استقرار الوضع الأمني وتوفر المدارس والجامعات في تمكين الأسر السورية من إعادة بناء نمط حياتها، ولو بشكل مؤقت.
ورغم الضغوط الاقتصادية ووجود حملات كراهية على الإنترنت، ما يزال المزاج العام المصري في الشارع يظهر قدرا كبيرا من التسامح والقبول، خاصة مع العائلات السورية والبسيطة والمجتهدة، وهو ما أسهم بشكل غير مباشر في تعزيز صمود الأسرة السورية واستمرار تماسكها.
العودة المؤجلة.. ما أبرز معوقات العودة
وسط كل التغييرات التي عاشتها الأسرة السورية في مصر، يظل السؤال الأصعب معلقا فوق رؤوس الجميع، كيف سنعود؟ ومتى؟ تتفاوت الإجابات بين الحنين والخوف، وبين الرغبة والتعذر.
يقول نور الدين عمر، سوري مقيم في مصر منذ عشر سنوات، قلبي متعلق في دمشق، لكن لا يمكنني العودة حاليا، لا يوجد لدي منزل، ولا عمل مستقر، وهنا بالكاد أؤمن مصاريف عائلتي الشهرية، ربما قريبا تتحسن الأوضاع وأعود.
بحسب شهادات مختلفة، تعيق العودة عدة عوامل منها:
غياب البنية التحتية والخدمات، في بعض المناطق ما تزال الكهرباء ضعيفة، والانقسام الأسري من حيث تشتت أفراد العائلة بين تركيا وأوروبا والوطن العربي، كما تعتبر تكاليف العودة والبدء من الصفر فكرة صعبة للغاية لعدد كبير من العائلات.
من ناحية أخرى، نشأة الأطفال في مصر تعتبر أحد عوامل تمسك العائلات بالانتظار قليلا، حيث إن عددا كبيرا منهم لا يعرفون عن سوريا سوى ما يسمعونه عنها من أسرهم، في حين كل حياتهم وأصدقائهم في مصر.
تقول جمانة فضل، سورية مقيمة في المعادي، أولادي يتحدثون باللهجة المصرية مع جميع أصدقائهم وجيرانهم، هناك كلمات كثيرة لا يعرفون معناها بالسوري، أخاف أن أعيدهم فجأة من دون تمهيد لأنهم سيشعرون بأنهم غرباء عن مجتمعهم.
في حين يستعد عدد من العائلات للعودة إلى سوريا خاصة بعد انتهاء العام الدراسي، وبدأت بالفعل بعض العائلات ببيع أثاث منزلها وممتلكاتها وتجهيز أوراق نقل أبنائهم إلى مدراس في سوريا من أجل بداية حياة جديدة هناك.
وبين التعلق العاطفي بسوريا والاندماج التدريجي في المجتمع المصري، يعيش السوريون في مصر حالة من الانتظار المعلق ، لا هم قادرون على العودة، ولا متأكدون أنهم يستطيعون الافتراق عن مصر المكان الذي كان لهم وطن ثان.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية