جدول المحتويات
كتب: هاني كمال الدين
في مشهد دولي يتسم بالتوتر المتصاعد والشد والجذب الدبلوماسي، أعلنت إيران بشكل قاطع رفضها للمطالب الأوروبية التي تدعوها إلى وقف أنشطة تخصيب اليورانيوم، معتبرة أن مثل هذه المطالب تقود إلى طريق مسدود في مسار المفاوضات النووية المعقدة والمستمرة منذ سنوات. هذا التصريح، الذي نقلته وكالة “رويترز” عن مسؤول بارز في طهران، أعاد تسليط الضوء على تعقيدات الملف النووي الإيراني وأعاد طرح التساؤلات حول مستقبل الاتفاق النووي وإمكانية التوصل إلى تسوية ترضي جميع الأطراف المعنية.
موقف إيران الحاسم من مطالب أوروبا
أكد المسؤول الإيراني أن بلاده لا تعتزم التفاوض بشأن قدراتها الدفاعية، وعلى رأسها برنامجها الصاروخي الذي تعتبره جزءاً من سيادتها الوطنية وأمنها الاستراتيجي. وشدد على أن مطالب الدول الأوروبية بوقف تخصيب اليورانيوم تعتبر “غير واقعية” ولن تسهم في دفع المفاوضات نحو الأمام، بل على العكس ستؤدي إلى تعميق الخلافات وتعقيد المباحثات.
وقال المسؤول: “إن الإصرار على مثل هذه الشروط سيؤدي فقط إلى تعقيد الموقف والدخول في حلقة مفرغة لا طائل منها. نحن مستعدون لدراسة المقترحات الأوروبية في طهران وتقديم ردنا في الاجتماع القادم، ولكن من غير الواقعي توقع أن تقبل إيران بتجميد أو إنهاء عمليات تخصيب اليورانيوم بشكل كامل.”
الخلفية التاريخية للاتفاق النووي
تعود جذور الأزمة النووية الإيرانية إلى سنوات طويلة من التجاذبات بين طهران والقوى الكبرى. ففي عام 2015، تم التوصل إلى الاتفاق النووي المعروف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”، بين إيران من جهة، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والصين، وروسيا من جهة أخرى. وبموجب هذا الاتفاق، وافقت إيران على تقييد برنامجها النووي ووضع منشآتها تحت رقابة دولية صارمة مقابل رفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
غير أن هذا الاتفاق تعرض لضربة قوية في عام 2018، عندما قرر الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب الانسحاب بشكل أحادي من الاتفاق، معتبراً أنه “اتفاق كارثي” لا يحد من طموحات إيران النووية ولا يمنع تطوير برنامجها الصاروخي. أعقب هذا الانسحاب إعادة فرض العقوبات الأمريكية على طهران، ما دفعها تدريجياً إلى تقليص التزاماتها المنصوص عليها في الاتفاق وزيادة وتيرة تخصيب اليورانيوم وتوسيع أنشطتها النووية.
عودة ترامب تخلط الأوراق من جديد
بعد فوزه في الانتخابات الأمريكية عام 2025 وعودته إلى البيت الأبيض، أعاد دونالد ترامب الملف النووي الإيراني إلى صدارة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، معلناً عزمه على إعادة التفاوض مع طهران على أسس جديدة تضمن ما أسماه “وقفاً دائماً لطموحاتها النووية والصاروخية وتدخلاتها الإقليمية”، وفق تعبيره.
هذه العودة الأمريكية الصارمة، مقرونةً بضغوط أوروبية متزايدة، شكلت معادلة صعبة أمام صناع القرار في طهران، الذين يجدون أنفسهم مضطرين لموازنة مصالحهم الاستراتيجية مع الضغوط الاقتصادية المتنامية نتيجة استمرار العقوبات.
جولة مفاوضات جديدة في جنيف
في هذا السياق المضطرب، انعقدت في مدينة جنيف السويسرية هذا الأسبوع جولة جديدة من المباحثات بين إيران وثلاث من الدول الأوروبية المعنية بالاتفاق النووي، وهي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بحضور ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي كايا كالاس.
شارك في الاجتماعات وزراء خارجية الدول الثلاث: الألماني يوهان فادفول، الفرنسي جان-نويل بارو، والبريطاني ديفيد لامي، حيث استعرضوا مع الجانب الإيراني جملة من المقترحات الجديدة التي تهدف إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي ضمن آلية مرحلية تشمل تخفيفاً تدريجياً للعقوبات مقابل تجميد أو خفض مستويات تخصيب اليورانيوم.
لكن، وبحسب ما نقلته مصادر دبلوماسية مشاركة في المفاوضات، فإن الفجوة بين مواقف الجانبين لا تزال واسعة، خصوصاً مع إصرار إيران على الاحتفاظ بحقها الكامل في تطوير برنامجها النووي لأغراض سلمية، بينما تطالب الدول الأوروبية بضمانات ملموسة ومراقبة مشددة تحول دون أي محاولة مستقبلية لتحويل هذا البرنامج إلى أهداف عسكرية.
التخصيب.. العقدة الكبرى في الملف النووي الإيراني
يُعد تخصيب اليورانيوم نقطة الخلاف الأكثر حساسية في المفاوضات الجارية، إذ تعتبر الدول الغربية أن استمرار إيران في تخصيب اليورانيوم بنسب مرتفعة يقربها من القدرة على امتلاك سلاح نووي، وهو ما تنفيه طهران باستمرار مؤكدة أن برنامجها النووي مخصص للأغراض السلمية فقط، وعلى رأسها توليد الطاقة الكهربائية والبحث العلمي.
ورغم تأكيد إيران المتكرر التزامها بعدم السعي لامتلاك السلاح النووي، فإن زيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة تفوق 60% تثير مخاوف جدية لدى العواصم الغربية والوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي طالبت مراراً بالسماح لمفتشيها بالوصول الكامل وغير المشروط إلى جميع المنشآت النووية الإيرانية.
حسابات معقدة بين الداخل والخارج
في الداخل الإيراني، يواجه صناع القرار ضغوطاً متزايدة من التيار المحافظ والحرس الثوري بعدم تقديم تنازلات جديدة قد تضعف الموقف السيادي للبلاد أو تسمح بتدخلات خارجية في شؤونها الدفاعية. بالمقابل، فإن استمرار العقوبات الاقتصادية يثقل كاهل الاقتصاد الإيراني ويؤثر سلباً على معيشة المواطن العادي، ما يدفع قطاعات من المجتمع الإيراني إلى مطالبة القيادة بالسعي إلى تسوية تحفظ مصالح البلاد الاقتصادية دون المساس بكرامتها الوطنية.
وفي ظل هذه الحسابات المعقدة، يدرك المفاوض الإيراني أن أي تنازل مفرط قد يكلف الحكومة ثمناً سياسياً باهظاً داخلياً، في الوقت الذي تصر فيه الأطراف الغربية على التحقق من كل خطوة إيرانية تتعلق بالبرنامج النووي.
مستقبل الاتفاق في مهب الريح
تشير المعطيات الحالية إلى أن مسار المفاوضات حول الملف النووي الإيراني لا يزال محفوفاً بالعقبات، وأن التوصل إلى اتفاق نهائي يتطلب تنازلات متبادلة قد تبدو بعيدة المنال في ظل الظروف الراهنة.
ويرى مراقبون أن استمرار الجمود في هذه المفاوضات قد يدفع بعض الأطراف إلى التفكير في بدائل غير دبلوماسية، خاصة مع تصاعد الخطاب المتشدد من جانب بعض المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين، الذين لوحوا مراراً بأن “جميع الخيارات مطروحة على الطاولة” لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي مستقبلاً.
احتمالات العودة إلى طاولة الحوار
رغم التصريحات المتشددة من الجانبين، لا يزال باب الحوار مفتوحاً بشكل غير رسمي، خصوصاً في ظل الوساطات التي يقودها الاتحاد الأوروبي وبعض القوى الإقليمية التي تسعى لتقريب وجهات النظر وتجنيب المنطقة مزيداً من التصعيد.
ويأمل الوسطاء في أن تنجح جولات التواصل الخلفي في تهيئة الأجواء لاستئناف مفاوضات رسمية أوسع تشمل الملفات العالقة كافة، بدءاً من تخصيب اليورانيوم ووصولاً إلى دور إيران الإقليمي وبرنامجها الصاروخي، وهو ما يمثل التحدي الأكبر أمام أي اتفاق جديد قد يرى النور مستقبلاً.
الموقف الدولي: قلق وترقب
على الصعيد الدولي، تتابع روسيا والصين تطورات الملف النووي الإيراني بحذر شديد، إذ إن لكلا البلدين مصالح استراتيجية في استمرار العلاقات الجيدة مع طهران من جهة، وعدم انهيار منظومة عدم الانتشار النووي من جهة أخرى.
أما إسرائيل، فهي تواصل حملاتها الدبلوماسية والعسكرية ضد البرنامج النووي الإيراني، مع تعزيز التنسيق الأمني مع الولايات المتحدة وبعض الدول الخليجية، في مسعى لاحتواء النفوذ الإيراني في المنطقة ومنع ما تعتبره “خطراً وجودياً” يهدد أمنها القومي.
السيناريوهات المحتملة
تتراوح السيناريوهات المتوقعة بين ثلاثة مسارات رئيسية:
-
التوصل إلى اتفاق مرحلي مؤقت يضمن الحد الأدنى من مطالب الطرفين ويفتح المجال لمفاوضات أشمل لاحقاً.
-
استمرار حالة الجمود مع بقاء الوضع على ما هو عليه، مع ارتفاع وتيرة الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية على إيران دون الوصول إلى مواجهة عسكرية مباشرة.
-
التصعيد العسكري المحدود أو الشامل في حال انهيار المفاوضات بالكامل، ما سيؤدي إلى تداعيات كارثية على أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط برمتها.
وفي جميع الأحوال، يبقى الملف النووي الإيراني أحد أكثر الملفات تعقيداً في العلاقات الدولية الراهنة، حيث تتداخل فيه الحسابات الاستراتيجية مع المخاوف الأمنية والطموحات الاقتصادية، ضمن معادلة معقدة يصعب تفكيكها بسهولة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر