جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في الفضاء السياسي الإيراني، لا تُعامل تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشأن احتمال انخراط واشنطن في عدوان إسرائيل على إيران، كحقائق ثابتة أو نوايا مؤكدة، بل تُقرأ ضمن منظومة أوسع من التقديرات التي تضع خطاب ترمب في خانة الأدوات التفاوضية لا التحضيرات العسكرية. فصانع القرار الإيراني بات متمرسًا – كما يبدو- في تفكيك الخطاب الأميركي الترمبي، مدركاً أن التهديد بالحرب قد يكون مجرد وسيلة لتحسين الشروط أو الضغط على الداخل الإيراني بهدف إحداث تصدعات سياسية واجتماعية. هذه التصدعات دعت إليها إسرائيل بشكل واضح على شكل مطالبة الإيرانيين بالنزول إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط النظام.
من هذا المنطلق، تنظر طهران إلى تصعيد ترمب الكلامي على أنه جزء من “فن الصفقات” – لديه كتاب صدر عام 1987 يحمل اسم فن الصفقة – كسلوك يعتمده رجل الأعمال الذي يدير البيت الأبيض، وليس مقدمة حقيقية لضربة عسكرية شاملة. بل إن القناعة السائدة لدى المؤسسة الإيرانية هي أن الإدارة الأميركية، رغم خطابها الناري، ليست مستعدة لتحمّل تبعات مواجهة مفتوحة في منطقة استراتيجية بالنسبة لها، ولا تزال في عمقها الجغرافي تحت وطأة الفوضى، ولا سيما أن سجل ترمب نفسه اتّسم برغبة في تقليص الانخراط العسكري في الشرق الأوسط وليس توسيعه.
لذلك، تتبع إيران استراتيجية مزدوجة تقوم على تحصين موقعها في الحرب والمواجهة مع إسرائيل من جهة، وتعطيل مفاعيل التصعيد الكلامي الأميركي من جهة أخرى. فهي لا تستجيب سريعًا لأي إشارة لاستئناف المفاوضات، بل ترفع من شروطها كلما شعرت أن واشنطن تقترب من حافة الحرب، لكنها لا تملك إرادة القفز فيها. كما أنها تُصعّد انتقائيًا في العمق الإسرائيلي، وتتوعد بشكل متكرر بأِشياء غير متوقعة لزيادة الكلفة على الإسرائيلي والأميركي دون الوصول إلى نقطة اللاعودة.
أما الرأي العام الإيراني، فيجد في تصريحات ترمب مادة للسخرية أكثر من كونها مصدرًا للرعب، – على الأقل في التعليقات التي تظهر من المحللين الذين يظهرون من طهران- بخاصة أن السنوات الأخيرة راكمت لدى المجتمع الإيراني مناعة خطابية ضد الحرب، ودرّبته على التمييز بين التهديد التكتيكي والخطر الاستراتيجي. وفي هذا السياق، تدرك طهران أن الإدارة الأميركية – في عهد ترمب تحديدًا – تسعى لتحقيق نصر سياسي بصيغة اتفاق جديد، لا في خوض حرب لا يمكن ضبط نتائجها. ومن هنا، تستمر إيران في رسم خطواتها بناء على فرضية أن الحرب ليست الخيار المفضل لواشنطن، بل ورقة في لعبة النفوذ الطويلة. حتى وإن كانت تصريحات ترمب تلوِّح بها دائماً.
عقيدة “الثواني الأخيرة” الأميركية:
حين يتحدث الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن “الثواني الأخيرة” باعتبارها لحظة اتخاذ القرار بالمشاركة في الحرب، فإنه لا ينطق فقط بوصف ظرفيّ أو لحظة شخصية، بل يكشف عن جوهر عقل الدولة الأمنية والسياسية الأميركية في إدارة الحروب. ففي الأدبيات السياسية والعسكرية للولايات المتحدة، لطالما ارتبطت “الثواني الأخيرة” بإستراتيجية التدخل المتأخر، لكنها ليست متأخرة على الأرض بقدر ما هي متقدمة على الخاتمة. هي تلك اللحظة التي تكون فيها كل عناصر المشهد قد اكتملت: القوات الأميركية انتشرت بشكل فعّال على تخوم جغرافيا المواجهة، المبعوثون أرهقوا مساحات التفاوض، والخصوم استُنزفوا حتى حافة الانهيار، ثم يأتي الدخول الأميركي كطلقة ختامية في مسرحية طويلة أُعدت من وراء الكواليس.
بمعنى صناعة الانتصار دون خوض الحرب كاملة. وهذه العقيدة لها جذورعميقة أميركياً. ففي الحرب العالمية الثانية، لم تدخل واشنطن الحرب منذ بدايتها. لقد تركت أوروبا تشتعل وتحترق، وسمحت للقوى الأخرى أن تخوض معركة البقاء. وعندما تحققت اللحظة المناسبة لها، اندفعت بقوتها، لا فقط لتغيير ميزان المعركة، بل لكتابة الفصل الأخير باسمها. لم تكن المعركة معركتها وحدها، لكن النصر كان أميركيًّا خالصًا، صُمم على مقاييس النظام العالمي الجديد الذي فرضته فيما بعد.
اليوم، يعيد ترمب إنتاج هذا النموذج بعبارة خاطفة: “سندخل في الثواني الأخيرة”. أو بعبارة أكثر إدهاشاَ ” لا أحد يعرف قراري”، هو لا يُنكر الحرب، لكنه لا يعترف بها إلا إذا كانت النهاية قد كُتبت مسبقًا. فبالنسبة له، المشاركة لا تعني التضحية، بل تعني امتلاك مفتاح الخاتمة. وهذه الخاتمة يجب أن تكون أميركية، حتى وإن بُنيت على جثث ومصائر الآخرين.
لكن السؤال الأخلاقي والسياسي الذي يتصاعد مع هذا النهج: ماذا لو لم تكن هناك “ثوانٍ أخيرة” أصلاً؟ ماذا لو أن الأحداث تجاوزت السيطرة، والنهايات لم تعد تُكتب من واشنطن؟ هل يمكن للولايات المتحدة أن تدخل حربًا في لحظتها الحاسمة، وتخرج منها كما خرجت من أوروبا في 1945 منتصرة ومحرّرة ومُشرِّعة لتلعب حتى اليوم دور الأخ الأكبر مع القارة العجوز؟ أم أن الزمن تغيّر، والمعارك الآن لا تُحسم في صور رسمية ولا في توقيع اتفاقات، بل في الرمال المتحركة للمنطقة، وفي ضباب المعارك التي لا تنتهي؟ وفي سحبُه النووية التي تثير الرعب في الإقليم كله.
ثمّة مخاطر في وهم “اللحظة المناسبة”. في الشرق الأوسط، لا شيء يُنتظر حتى ينضج، ولا لحظة تتحقق دون ثمن. وحتى لو ظنت واشنطن أنها ستحصد النصر بالدخول المتأخر، فإنها قد تجد نفسها تُركّب خاتمة لا تُرضي أحدًا، بما فيهم الأميركيون أنفسهم. الانتصار الذي يأتي في الثواني الأخيرة قد يكون انتصارًا بلا سردية، بلا قاعدة يُبنى عليها سلام أو نظام أو استقرار. ترمب حين يتحدث عن هذه “الثواني” يتحدث وكأن التاريخ يتكرّر بلمسة زر، لكن الحقيقة أن الزمن لم يعد خاضعًا لإرادة واحدة. فالحرب – إن حدثت – لن تكون عرضًا مسرحيًا يُختم بتصفيق أميركي، بل زلزالًا تتشظى فيه كل الأطراف، بمن فيهم أولئك الذين انتظروا حتى اللحظة الأخيرة ليقرروا إن كانوا سيشاركون أم لا. فهل ستكفي الثواني الأخيرة لصناعة انتصار؟ أم ستكون هي اللحظة التي تُولد فيها الهزيمة للجميع؟.
المرشد الإيراني “خطاب في عين العاصفة”:
ظهر المرشد الإيراني علي خامنئي على منصة الخطاب لا ليعلن موقفاً، بل ليؤسس رؤية. لم يكن الخطاب رداً مباشراً على التصعيد الأميركي، بل كان إعلانًا لمعادلة أيديولوجية واستراتيجية تحكم السلوك الحالي للسلطة في إيران بلحظة مفصلية. ففي الوقت الذي تتصاعد فيه التهديدات الأميركية ويشتد العدوان الإسرائيلي، جاء كلام المرشد كمن يضع إيران بين حدّين: الاختبار الوجودي والمواجهة القدرية بخاصة أن شهر محرم سيدخل بعد أيام بما يحمله من إرث كربلائي في العقيدة الإيرانية. المثير في خطاب المرشد ليس فقط ما قاله، بل كيف تم توظيفه داخل إيران. خلال ساعات، انتشرت مقاطع من خطابه عبر رسائل قصيرة على هواتف ملايين الإيرانيين، تدعوهم إلى “الثبات”، إلى “مواصلة المعركة”، إلى إدراك أن “العدوان لا يُرد فقط بالسلاح بل بالإيمان”. لم يكن ذلك مجرد تعبئة نفسية، بل استدعاء صريح لفكرة “الأمة المقاومة” التي تتحمّل الحرب كجزء من قدَرها التاريخي، لا كحدث طارئ. هنا تبرز رؤية طهران تجاه المواجهة فالشعب هو امتداد للعقيدة، وأن الحرب لا تخاض في الجبهات فقط، بل في المصارف، في الشوارع، وفي داخل الوعي، وأن أي تراجع هو خيانة للزمن الذي تراكمت فيه أوراق القوة الإيرانية. من هنا، لم يكن الحديث عن الصبر دفاعًا، بل كان توصيفًا لمرحلة “صنع النصر”، حتى وإن بدا مكلفاً أو دموياً. وفي هذه الرؤية، يبدو أن إيران لا تسعى إلى تجنب الصدام بقدر ما تسعى إلى تحميله كلفة سياسية وأخلاقية وأمنية لا تحتملها واشنطن. فخامنئي قال بوضوح: “إن أضرار الحرب لا يمكن إصلاحها”، بمعنى “لن تكون هناك حرب دون أن يشعر بها الجميع في عمق قلوبهم ومدنهم”، وكأنه يلوّح بأن أي تدخل أميركي لن يكون محصورًا في سماء طهران أو مفاعل نطنز أو فوردو، بل سيمتد إلى ما وراء البحار، إلى حيث يوجد الأميركيون أنفسهم.
المرشد كما يُفهَمُ من كلامه يعد بـ”تغيير التوازن” والتغيير لا يأتي من ضربة واحدة، بل من معركة طويلة، تخسر فيها إسرائيل رصيدها الاستراتيجي أكثر من منشآتها. فالحرب – إيرانياً- ليست حدثًا طارئًا، بل جزء من حركة التاريخ. ولهذا لا يتم التعامل معها كرهان قصير المدى، بل كفرصة لإعادة تشكيل الإقليم على قواعد أكثر “عدلاً”،وفق معركة الوجود التي لا تتضمن مفاوضات أو تنازلات أو استسلام بحسب رؤية طهران.
الضربة المركَّبة:
لأول مرة منذ سنوات، تواجه البنية التحتية النووية الإيرانية هذا الحجم من الدمار المتزامن. لم تعد الضربات الإسرائيلية محض رسائل ردع أو عمليات تسلل محدودة التأثير، بل تحوّلت إلى حملة منهجية استهدفت العمود الفقري للبرنامج النووي الإيراني. لم تُوجَّه النيران نحو الأهداف السهلة عسكرياً فوق الأرض فحسب، بل اخترقت الطبقات الصخرية والنظم الأمنية إلى حيث تُدار أخطر مراحل التخصيب وأكثرها تعقيدًا، في عمق المنشآت المحصنة التي طالما اعتُبرت عصيّة على الضرب. هنا يمكن الإشارة إلى نطنز، المحطة التي بُنيت لتكون “العقل المحصّن” للمشروع النووي، وجُهزت لتحمل الضغط، والعزلة، وحتى الحصار، شهدت انهيارًا كاملًا في منظومتها الكهربائية. تدمير محطة الكهرباء الرئيسية، والاحتياطية، ومنظومة الطوارئ، لم يكن مجرد قطع للتيار، بل هو ما يشبه “اجتثاث النبض من قلب صناعي” يعمل على مدار الساعة لإبقاء أجهزة الطرد المركزي في حالة دوران. هذه الأجهزة – التي تُمثل الشرايين الحيوية لتخصيب اليورانيوم – لا تتحمّل التوقف المفاجئ. فتعطلها لا يعني فقط تجمّد التخصيب، بل غالبًا تلف دائم في أجزائها الدقيقة، واحتراق محتمل في دوائرها المغلقة، وربما انفجارات صغيرة متسلسلة في قلب قاعاتها. إنها ليست منشأة خرجت عن الخدمة؛ إنها جسد تجرّد من دمائه فجأة. والصدمة هنا مزدوجة بالنسبة لإيران: تقنية ومعنوية. تقنيًا، قد تحتاج طهران أشهرًا – وربما أكثر – لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة، وتأمين البدائل. ومعنويًا، فإن هذه الضربة شكّلت خرقًا رمزيًا في جدار “الحصانة النووية الإيرانية”، وأحدثت شقًا في السردية التي بُنيت على أن نطنز لا تُمسّ، وأن العمق الإيراني بمنأى عن الاختراق المباشر. إنها لحظة فقدان وهم السيطرة، أو بالأحرى، إعادة تعريف حدود القوة. كما حدث في مجمع أصفهان النووي، حيث أصابت الهجمات أربع منشآت حيوية، بينها مرافق لتحويل اليورانيوم إلى معدن. وهي مفاصل نادرة لا تُرصد إلا حين تنفجر، رغم وجود أجزاء تحت الأرض. وقد أظهرت الصور الجوية التي تسرَّبت دمارًا مباشرًا، ما يكشف عن اختراق نوعي ومدروس استهدف البنية الأعمق والأكثر حساسية في النسيج النووي الإيراني. لم تكن ضربة سطح، بل جراحة في صمت النواة. وفي ظاهر هذا المشهد الحربي الحالي، تبدو منشأة فوردو وكأنها الناجي الوحيد – حتى الآن- من العاصفة التي اجتاحت البرنامج النووي الإيراني. لم تُسجّل عليها أضرار مرئية، ولم ترصد الأقمار الصناعية آثارًا مباشرة للقصف أو التخريب. محصّنة بجدران الجبل الصلب، ومغمورة في عمق الأرض، تحافظ فوردو على صمتها وعلى وظيفتها الدقيقة: إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وهي النسبة التي تقف على بعد خطوة واحدة فقط من صناعة السلاح النووي وفقا للوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن هذه “النجاة” الظاهرة حتى اللحظة لا تعني الاطمئنان، بل توحي بحالة من الترقب المشوب بالقلق. فالغموض يلفّ وضع فوردو الداخلي، ليس فقط من حيث مدى جاهزيتها التشغيلية بعد موجة الهجمات، بل من حيث احتمال أن تكون الهدف التالي في بنك الأهداف الإسرائيلية. وقد تكون فوردو اليوم أكثر خطورة مما كانت قبل الهجمات، لأنها باتت تمثل “الرصيد الأخير المعلن” لإيران في مشروعها النووي عالي التخصيب، والعقدة التي إن تم فكّها، قد يُعاد رسم كامل المعادلة. وفي هذه اللحظة الدقيقة، تغدو فوردو أشبه بجمرٍ تحت الرماد. لم تُقصف، لكنها محاصرة بالاحتمالات. لم تُشلّ، لكنها أصبحت مركزًا وحيدًا للتركيز النووي العالي، ما يجعلها مفتوحة على سيناريوهين متضادين: إما أن تكون بوابة استعادة التوازن النووي لإيران، أو أن تتحول في أي لحظة إلى هدف حاسم في موجة قادمة من الضربات، تُسدل الستار على قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم عند المستويات الحاسمة. وما يضاعف من حساسية فوردو هو موقعها في سردية الردع الإيرانية: منشأة مبنية لتصمد أمام القصف، لتكون “حصن البقاء النووي”. فإذا استُهدفت أو تعطلت، فإن ذلك لن يعني فقط ضربة تقنية، بل نزعًا لمفهوم الردع ذاته، وتعرية ما كان يُعتقد أنه “الملاذ الأخير” للقدرة النووية الإيرانية. فوردو الآن لم تعد مجرد منشأة نشطة، إنها قنبلة زمنية سياسية وتقنية، عقاربها تتحرك على وقع الحسابات الإسرائيلية والأميركية، وردود الفعل الإيرانية المحتملة. الصمت المحيط بها ليس علامة استقرار، بل إشارة إلى عمق المأزق القادم أو التي هي فيه الآن. الضربة المحتملة لها ليست فقط تدميرًا لموقع، بل كسرٌ لمنظومة حسابات. فمنشآت كهذه لا تُبنى فقط لحماية التكنولوجيا، بل لحماية الإرادة السياسية التي تقف خلفها. وعندما يتم الوصول إليها، تحييدها، وتخريب مكوناتها الحرجة، فإن الرسالة التي تصل لطهران وللعالم هي أن زمن “المنشآت الحصينة” قد انتهى، وأن المراكز التي تُدار في الظل باتت مكشوفة لضوء الصواريخ. في هذا السياق، تُفهم الضربة كمحاولة لا لإبطاء البرنامج النووي الإيراني فحسب، بل لضرب رمزيته، وللضغط على طهران كي تدفع ثمنًا – وفق المنطق الأميركي والإسرائيلي- يتجاوز فقدان أجهزة أو مبانٍ، إنه ثمن فقدان الثقة بالحصانة نفسها.
ضرب المشروع والعقول:
في موازاة الضربات المادية التي طاولت المدن والمنشآت النووية الإيرانية، نفّذت إسرائيل ما يمكن اعتباره واحدة من أكثر العمليات حساسية واستهدافًا للبنية غير المرئية للبرنامج النووي الإيراني. تمثل ذلك باغتيال 14 عالماً نووياً خلال أيام معدودة، في هجمات دقيقة لم تُكشف كل تفاصيلها بعد. تسعة من هؤلاء العلماء، وفق ما أعلن الجيش الإسرائيلي، وُصفوا بأنهم “العقول المدبرة” و”الركائز الفنية” لمشروع إيران النووي. هم ليسوا مجرد أفراد في مختبر، بل تجسيد حي لذاكرة البرنامج ومعرفته التراكمية. وفي عالم التكنولوجيا النووية، لا تكون القيمة الحقيقية في الأجهزة والمنشآت فحسب، بل في الخبرات المعقدة التي تُكتسب عبر سنوات من العمل في بيئات مغلقة، محرومة من الدعم العالمي، وتعتمد على محاولات فك الشيفرة، والتحايل على القيود، وتطوير نماذج عمل تحت ضغط المراقبة والعقوبات. العلماء الذين تم اغتيالهم ليسوا مجرد تقنيين، بل هم بنية ذهنية تراكمت فوق تجارب فاشلة، نجاحات جزئية، واختراقات محدودة كانت تُعدّ بمثابة قفزات في نفق مظلم بطريق إيران النووي.
وحين يُستهدف هؤلاء، لا يُستهدف الجسد فقط، بل تُستهدف الذاكرة العملية. فالبرنامج النووي لا يُعاد بناؤه فقط من خلال إعادة تدوير الأوراق والمعدّات، بل يتطلب من يحمل المعرفة، من يفهم السياقات المخفية، من يستطيع أن يربط بين معادلة في ملف مغلق ونتيجة في مفاعل يعمل بصمت. هؤلاء العلماء هم الحلقات التي تربط بين المختبر والواقع، بين النظرية والتطبيق. بين القرار السياسي والإمكانية العسكرية، وأي فراغ يخلّفه غيابهم، لا يُسد بسهولة إيرانياً، حتى لو توفّرت البدائل على الورق. بتعبير آخر إنها ضربة للعقل، لا للجسم فقط. وفي كل علم دقيق، هناك “زمن للخبرة” لا يمكن تسريعه أو تسليمه ببساطة من شخص إلى آخر. في مجال الطاقة النووية، يكون هذا الزمن مشحونًا بالتوتر، بالحذر. وبالتجريب. وبالتالي، فإن عملية اغتيال العلماء ليست مجرّد تصفية لرموز، بل محاولة منهجية لاجتثاث جوهر المشروع النووي الإيراني. فحتى لو أعادت إيران بناء المنشآت، وحتى لو استوردت أو أنتجت أجهزة طرد مركزي جديدة، فإن استعادة ما فُقد من مهارات، ومن حدس علمي، ومن روابط العمل الجماعي، تحتاج إلى سنوات، وربما إلى أجيال كاملة.
وبالتالي فإن الضربات الإسرائيلية لا تقاس قوتها إيرانياً فقط بعدد الضحايا، بل بعمق الفجوة التي تُحدثها في مسار المعرفة النووية. إنها محاولة لكسر العمود الفقري غير المعلَن للمشروع: “الإنسان العالِم”، باعتباره ليس فقط من يُدير التخصيب، بل من يُؤسس لفكرته. لقد اختارت إسرائيل أن تهاجم العقل، لأن العقل هو ما يُنتج القنبلة، حتى قبل أن تُنتجها أجهزة الطرد المركزي. ومن هنا أتت فكرة إسقاط النظام الإيراني برمته.
تداعيات الرد غير المحسوم:
في ظل الانكشاف غير المسبوق للمنشآت النووية والمشروع ككل، تقف إيران عند حافة قرارات استراتيجية كبرى، أولها وأكثرها خطورة يكمن في التلويح بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي. هذا التهديد لا يعبّر فقط عن لحظة غضب، بل يكشف عن تحوّل جذري في فلسفة التعاطي مع الضغوط الدولية من زاوية الدفاع عن الحق في التخصيب تحت المراقبة، إلى التحرر الكامل من الالتزامات والرقابة، والانطلاق نحو “تخصيب بلا سقف”. وهذا بالتالي سيعيد رسم المشهد النووي العالمي، ويحوّل طهران إلى نموذج نووي يشبه كوريا الشمالية: دولة خارج النظام، وخارج التفاهمات، وخارج القدرة على الاحتواء. ستكون طهران حينها قد كسرت آخر الخطوط الحمراء الدبلوماسية، وأطلقت يدها لتخصيب اليورانيوم إلى المستويات اللازمة لصنع سلاح نووي، من دون قيود تقنية أو سياسية. لكن الأخطر، فيما لو حدث هذا الانسحاب سيفتح الباب أمام إنشاء محطة سرّية واحدة فقط، بعيدة عن أعين الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تكفي لإعادة إيران إلى نقطة الصفر في السباق نحو امتلاك القنبلة، أو بالأدق، إلى نقطة الانفجار. فالمعرفة التقنية متوفرة، والخبرة البشرية – رغم الاغتيالات- لم تُجتث بالكامل، والمخزون من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% كافٍ لصنع عدة رؤوس نووية بعد رفع النقاء وفقاً لخبراء في هذا الشأن.
الرد الإيراني إذن لا يُقاس فقط بالصواريخ أو التصريحات، بل بالقرارات الصامتة التي قد تُتخذ في عمق مؤسسات الدولة: الخروج من المعاهدة، إعادة ضبط السلاسل التقنية، وإطلاق مشروع موازٍ بلا أثر علني. هذا الرد قد لا يُعلن في طهران، بل يُكتشف لاحقًا عبر أجهزة استخباراتية أو من خلال حدث مفاجئ يفرض نفسه على الطاولة الدولية. فيجد العالم نفسه أمام لحظة حرجة ومفتوحة، حيث الصمت قد يكون ردًّا، والانفجار قد يكون إعلان موقف جديد.
طريق الحرب أو الاتفاق:
طرح ترمب فكرة الستين يوماً أمام طهران، باعتبار هناك طريقان فقط أمامها فإما اتفاق أو قصف، تلك الفكرة لم تكن دبلوماسية بقدر ما كانت إنذاراً وجودياً. وفي هذه اللحظة الدقيقة التي تشهد تصاعد التوترات الإقليمية، ترتفع إيقاعات ضبط حراك البيت الأبيض من الداخل الأميركي، حيث يتقدم نائبان ” أحدهما جمهوري والآخر ديمقراطي”، بالإضافة إلى السيناتور تيم كين، بمبادرة تشريعية جريئة تهدف إلى وقف الانزلاق نحو مواجهة عسكرية جديدة دون غطاء دستوري. ينص مشروع القرار المطروح على منع أي تدخل عسكري أميركي ضد إيران ما لم يُقر الكونغرس تفويضًا صريحًا باستخدام القوة، وذلك استنادًا إلى قانون صلاحيات الحرب لعام 1973، الذي لا يزال يشكّل حجر الأساس في ضبط العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في قضايا الحرب والسلام بالنظام السياسي الأميركي.
هذه المبادرة ليست استجابة لظرف آني فحسب، بل هي ردّ متأخر على سلسلة طويلة من الانتهاكات التي تعرض لها نص الدستور الأميركي وروحه، حيث تم تجاوز الكونغرس مرارًا في قرارات خطيرة تمس حياة الأميركيين ومصالحهم الاستراتيجية. إن المشروع يعيد التأكيد على أن قرار الحرب ليس امتيازًا رئاسيًا مطلقًا، بل هو اختصاص أصيل للسلطة التشريعية، ويمثل أحد أهم الضوابط التي تحول دون التورط في حروب خارجية مكلفة وغير محسوبة.
تاريخ الولايات المتحدة الحديث مثقل بنماذج من التدخلات العسكرية التي نُفذت دون تفويض صريح من الكونغرس، في تجاهل واضح وصارخ لمبدأ الفصل بين السلطات. من الحرب الكورية التي خاضها الرئيس ترومان تحت غطاء أممي، مرورًا بفيتنام التي اندلعت عملياتها قبل تفويض “خليج تونكين”، إلى غزو غرينادا وقصف ليبيا في عهد ريغان، ثم غزو بنما في ظل جورج بوش الأب، وصولاً إلى حرب الخليج التي سبقت قواتها قرار الكونغرس بأشهر. وهذا المسار لم يتوقف مع نهاية الحرب الباردة. بل توسع تحت شعارات “التدخل الإنساني” و”مكافحة الإرهاب”، كما في قصف يوغسلافيا السابقة دون غطاء تشريعي، ثم عمليات ما بعد 2003 في العراق التي تجاوزت تفويض 2002، فالتدخل في ليبيا لإسقاط القذافي دون الرجوع إلى الكونغرس، وأخيرًا توجيه ضربات للأراضي السورية والعراقية بين عامي 2014 و 2020.
تُبرّر هذه العمليات غالبًا – وفق منطق البيت الأبيض- بأنها “دفاع عن النفس” أو ضمن تفويضات قائمة، ولكنها في جوهرها تمثل انحرافًا خطيرًا عن الأصل الدستوري، وتفتح الباب أمام عسكرة السياسة الخارجية بعيدًا عن رقابة الشعب وممثليه. وأهمية المشروع الجديد تكمن في أنه لا يكتفي بتقييد تدخل عسكري ضد إيران، بل يعلن عن لحظة مراجعة دستورية وسياسية شاملة. المشروع يسعى إلى إعادة التوازن داخل منظومة القرار الأميركي، ويمنع الرئيس – أيًا يكن – من اتخاذ قرار الحرب بمفرده، تحت ضغط اللحظة أو حسابات انتخابية أو ضغوط خارجية. وبالتلي استناداً إلى الميزان الأميركي الشعبي الذي وعده ترمب بالرخاء وعدم الدخول في مغامرات عسكرية خلال حملته الانتخابية، فإن الحرب مع إيران لا تُخاض اليوم باسم الأمة الأميركية – على الأقل على غرار الحروب الأميركية السابقة- وإنما تُخاض تحت يافطة ترمب – نتنياهو.
نهاية مفتوحة على الجمر:
في عمق هذه المواجهة المتصاعدة، لم يعد الصراع بين إيران وإسرائيل، ومعهما الولايات المتحدة، مجرد نزاع تقني على أجهزة طرد مركزي، أو جدل قانوني حول تفويضات الحرب. لقد تجاوز الحدثُ والجغرافيا والدبلوماسية ذلك تماما، وتحول إلى اختبار فلسفي لكيف تعيش الأمم إرثها، وتقاتل من أجل سرديتها، وتعيد اختراع ذاتها عند الحافة.
كل طرف في هذا المثلث ينزف من ذاكرته. إيران تسير، لا نحو القنبلة، بل نحو إثبات أن مشروعها هو الامتداد الطبيعي لتاريخ مقاومة طويل، يسبق الثورة ويستبطن مفاهيم الخلاص، حيث لا يُهزم من يموت واقفاً. إنها لا تفاوض على تخصيب اليورانيوم فحسب، بل على شرعية وجودها كقوة إقليمية ذات إرادة. لهذا، فإن الحديث الإيراني عن الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي لا يهدف فقط إلى الضغط، بل إلى إعلان: إذا كان السقف ممنوعاً، فسنبني غرفة تحت الأرض. هذا ما يعرف في الشخصيات الروائية بمنطق “الصمود المستحيل”، حيث البقاء يتحول إلى فعل إيمان، والبرنامج النووي يصبح دلالة ودرعًا لسبب الوجود، لا مشروع قنبلة.
في المقابل، إسرائيل لا ترى في إيران دولة، بل ” تهديد وجودي”، مهما كان الزمن أو المسافة. لذا فإن ما تسميه “الردع الاستباقي” ليس سياسة، بل عقيدة محفورة في جدار نجاةٍ طويل بدأ في أوشفيتز، ويمتد إلى نطنز. ضربات إسرائيل لا تهدف فقط إلى تدمير المنشآت، بل إلى انتزاع ما هو أخطر: الطمأنينة من عقل الخصم. ولهذا، فإن ضرب العلماء الإيرانيين، وتفجير مراكز تحت الأرض، هو فعل وجود أيضاً، يُمارَس كما لو أنه صلاة أمنية لا مجال للتراخي فيها.
ثم تأتي أميركا، بثقلها وزمنها الطويل، لتمارس إرث “الهيمنة المتأخرة”. بتدخل محتمل في “الثواني الأخيرة”. وهذا ليس تردداً، بل جزء من بنية القرار الأميركي: دخول محسوب، في لحظة انهيار الجميع، لتُعلن الانتصار من فوق الركام. لأن أميركا تُفضل أن تكتب التاريخ بأثر رجعي، حين لا يبقى في المشهد أحدٌ سواها.
هكذا، تتقاطع ثلاث سرديات في لحظة واحدة: إيران تقاتل لتصنع قدَرها، أميركا تتأمل اللحظة التي تُعلن فيها الانتصار، وإسرائيل تمارس فكرة الوجود كفعلٍ دفاعي مستمر. لا أحد يريد الحرب، لكن لا أحد يقبل أن يُهزم. لا أحد يسعى إلى انفجار شامل، لكن الجميع يضع يده على الزناد.
وهكذا، تشتعل الجغرافيا بالنصوص القديمة. كل طرف يقترب من لحظة قراره الكبير، لا بوصفه مجرد رد على الآخر، بل كفعل رمزي يحقق نبوءة في ضميره الجمعي. ولأول مرة منذ عقود، نصبح أمام نهاية لا تحددها نتائج المعركة، بل هشاشة السرديات نفسها. لأن من يخسر اليوم، لا يخسر الأرض أو الهيبة فقط، بل يخسر القصة التي بناها لنفسه على مدى نصف قرن.
وقد لا تُطلق القنبلة النووية في نهاية المطاف، كما حدث في هيروشيما وناغازاكي حين طالب هاري ترومان الرئيس الأميركي الثالث والثلاثين اليابان بالاستسلام غير المشروط – كما فعل ترمب مع إيران- إلا أن الامبراطور الياباني هيروهيتو رفض الاستسلام بالمنطق الأميركي فارتكب الأميركيون الجريمة. قد لا يحدث هذا في المدن الإيرانية اليوم، لكنّ ما أطلقته واشنطن ترمب هو ما لا يمكن استعادته: وهم الاستقرار. الثقة التي اختفت من الطاولة. فلا أحد في العالم كله سيصدق أن اللعبة يمكن أن تُدار كما كانت في السابق. والذي نشهده اليوم ليس نهاية أو بداية حرب نووية. إنها بداية عالم لا يمكن التنبؤ بمستقبله، لا يؤتمن على حياة الأطفال فيه، لأن أبطاله لم يعودوا يكتبون البيانات بل يصوغون الأقدار بعد أن صعدوا على الشجرة وضيَّعوا طريق الهبوط!.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية