جدول المحتويات
«نبض الخليج»
أزمة التّلقي في عالمنا العربي تتوضّح بصورة المتلقي التقليدي العالق طوعاً ما بين الاستسلام للكسل أو الجنوح نحو أفق التوقعات[1] المسبقة، وهذه التوقعات تنسجم عادة مع النماذج الكلاسيكية التي ترسّخت في الذهن على مدار سنوات من التّلقي للأعمال الفنية والأدبية.
وتكون عملية التّلقي عن طريق عملية مقارنة بسيطة يضع المتلقي فيها العمل الماثل أمامه على كفة ميزان والعمل الأكمل والأمثل –وفق ذائقته الخاصة- على الكفة الثانية، حينها يصدر حكماً مرتكزاً على حكم سابق، وإنه بهذه الطريقة تبعد المتلقي عن الثلاثية الأساسية: المؤلفالفنان – العمل الأدبيالفني – المتلقي.
وذلك لأنه يجنح إلى منطقة الرّاحة والأمان فيكون تذوقه وفقاً للشروط والمرتكزات التي ترسخت عنده، فلا يساهم في إعادة خلق العمل من خلال تلقيه بشكل كامل وفهمه وتفسيره بما يؤدي للتأثير في الأعمال اللاحقة للمؤلف أو الفنان الذين لا يستطيعان عزل نفسيهما عن المتلقي، وهنا سنضع مثالين للتلقي، الأول تلقي قصيدة النثر، والثاني تلقي فنون ما بعد الحداثة.
وما يجمع ما بين الموضوعين (قصيدة النثر و فنون ما بعد الحداثة ) ليس مرتكزاً على النّوع أو على وجود عناصر مشتركة بينهما، بقدر ما هو مزج يعتمد على طريقة التلقي الكلاسيكي لكلّ النموذجين الفنيين.
تلقي قصيدة النثر
إنّ متلقي الشّعر العربي يمتلكون عادةً نموذجاً كلاسيكياً للقصيدة:
موزونة، مقفّاة وحتى أن البعض يملك مواضيعه المفضلة، وبحوره المفضلة أيضاً.
فإن لم تتطابق القصيدة مع الشّروط، أسقطوا عنها انتماءها للشّعر.
غالباً ما يتعلق هذا التشدّد بالارتباط بالهوية العربية، وموروثها الشّعري، والحنين إلى الماضي، معتبرين رفض تلقي قصيدة النثر باعتبارها تنتمي للشّعر العربي جزءاً من ارتباطهم بالهويّة العربية، فقصيدة النثر برأيهم تقليد للغرب، وعند آخرين هي جزء من المؤامرة على التراث العربي.
بالإضافة إلى أن هذا الرّفض يمهّد له من قبل المناهج الدّراسية التي تغفل في أغلبها تقديم قصيدة النثر، وتقدّم الشّعر الكلاسيكي كنموذج وحيد للشعر العربي، مما يجعل تذوق قصيدة النثر بحمولتها الشّعرية أصعب حتى للجيل الجديد.
المتلقي للفن التشكيلي ضمن البيئة العربية نخبوي ودائرته ضمن المجتمع أضيق بكثير من متلقي الشعر إذ أنّ الفن التشكيلي غير مرتبط بالذاكرة الجمعية بتراث العربي ولا تاريخه
لكن بشكل أساسي فإن رغبة المتلقين بالتلقي السّهل، عبر المطابقة مع نموذج يعرفه في المرتبة الأولى، دون أن يتكفلوا عناء استيعاب قصيدة النثر وتحليل عناصرها ومصادر الشاعرية والجمال داخلها، بل يبحثون عن متعة فورية تحملها لهم القصائد الكلاسيكية عن طريق الإيقاع التقليدي والموسيقى الواضحة التي تستطيع لفت انتباههم للشعر، وبغياب هذا الإيقاع تغيب صفة الشعر عن النص.
وللعمل على تغيير نموذج المتلقي التقليدي، نحتاج أولاً رؤية نقدية جديدة لقصيدة النثر وحقيقية، بعيداً عن الجدل حول شرعيتها والذي حسم منذ سنوات وكتبها شعراء عرفوا عربياً وعالمياً بتجاربهم المهمة، لذا لابد من مقالات نقدية تتحرّك باتجاه قصيدة النثر، تبحث في عناصرها وتفندها وتلقي الضّوء على التجارب الحقيقية المهمة.
فالنقاد المهاجمون لها هم من يحتل الصدارة في النقد وبالكاد نجد منظراً لقصيدة النثر ولو كان داعماً، وهذا بالطبع له دور سلبي على المتلقي الذي يتأثر بالحركة النقديّة من حوله، مما يسمح له بأن يتشجع ويستقبل القصيدة من جديد دون أحكامٍ مسبقة.
لا ننكر أن هذا النوع الشعري هو الأكثر استسهالاً من قبل الكثيرين ممن يظنون كتابته سهلة باعتبارها غير خاضعة لمعايير صارمة وقيود تكبّل القصيدة، دون أن يعوا بأنها أصعب أنواع الكتابة، فهي تحتاج شاعريةً عالية وتكثيفاً وخيالاً حاضراً وعمقاً أيضاً وإلا ستكون كلاماً عادياً موزعاً ضمن سطور، فكمل قال الناقد السّعودي عبد الله الغذّامي في أحد حواراته الأخيرة أن قصيدة النثر أصعب أنواع الشّعر لأنها تنكشف، فالوزن أحياناً يغطي في العمودي مع الإيقاعات والقوافي، لكن قصيدة النثر إما أن تتقنها جداً أو تكون بالحضيض.
قلة النقد الموجه لقصيدة النثر هو سبب أساسي لكثرة النماذج السيئة فيه، وكذلك قلة النماذج السابقة –مقارنةً بأنواع الشّعر الأخرى- سبب آخر، إذ كان يُعتبر تراكمها عند الشاعر شرطاً ليصير شاعراً ففي رواية تنسب لأبي نواس بأن أحدهم طلب منه أن يخبره كيف يستطيع أن يكون شاعراً، فقال له احفظ ألف بيتاً ثم انساه، وبعد ذلك جرّب الشّعر.
ومن صعوبات تلقي قصيدة النثر هو صعوبة تحويلها إلى حدث صوتي كالشّعر العمودي مثلاً، فلا منبرية هنا تليق بهذه القصيدة، فهي تطلب تقنيات خاصة وتركيزاً على التقطيع والإيقاع الداخليين، التحكم بالتنغيم الصّوتي رفعه وخفضه حسب المعنى، الإسراع والإبطاء حسب الفكرة إن كانت تحتاج تراكماً، أم تأملاً.
الإلقاء الجيد لقصيدة النثر لا يقلّ عن كتابتها صعوبة، فالمطلوب هو تحويل الكلمات إلى طاقة حية توصل إحساسك دون مبالغة واصطناع ودون جمود.
السؤال الآن هل يجب أن تُرضي قصيدة النثر كل المتلقين؟
لا بالطبع، ليس من الضروري أن يفضّلها المتلقي، لكن لابد من توفر أدوات لتلقيها من قبل الأفراد أولاً ومن ثم المؤسسات، وضرورة التوقّف عن تصويرها كأنّها خطر على الشّعر العربي إنّما هي تطوّر طبيعي لمساره.
تلقي فنون ما بعد الحداثة
المتلقي للفن التشكيلي ضمن البيئة العربية، نخبوي ودائرته ضمن المجتمع أضيق بكثير من متلقي الشعر، إذ أنّ الفن التشكيلي غير مرتبط بالذاكرة الجمعية بتراث العربي ولا تاريخه.
فقد بدأ الفن التشكيلي الكلاسيكي في أواسط القرن العشرين واستقر في ذاكرة المتلقين بأنّه نموذج الفن التشكيلي، وبقي هذا النموذج هو الأكثر حضوراً عند المتلقين، ويستطيع المراقب للمجتمع الفني العالمي أن يلاحظ القطيعة شبه التامة ما بين التجارب الفنية العربية وما بين التجارب العالمية، لهذا أسبابه منها ما يتعلق بثقافة الفنان ورغبته في التغيير وبمواكبة الموجات الحديثة، والأخرى ضعف تلقي الحداثة الفنية مما يشكل عنصراً آخر يمنع الفنان من ترك كلاسيكيته.
وبالعودة للمتلقي نجد أن سهولة التلقي هنا أيضاً، فهو يفضيل الذهاب لمعرض ومشاهدة الأعمال على الجدران حسب النموذج التقليدي، وإن كانت اللوحات واقعية كلاسيكية سترتفع أسهم العمل الفني لأنه سيتوافق حينها مع أفق التوقعات، باعتبار أن المدارس الفنية الأخرى تحتاج تحليلاً وتأويلاً وبحثاً للوصول إلى فهمٍ معقولٍ للعمل، إلا إذا تبنى المتلقي وجهة نظر الشكلانيين الذي يراهنون على أن الفن لأجل الفن والشكل وجمالياته هي الأساس، فالفن ليس من الواجب أن يفسر.
كذلك نجد أنّ ضعف التواصل بين المتلقي مع العوالم التقنية -التي تعتبر أساس الفنون المعاصرة- سبب آخر لضعف التلقي، وهذا يفسر كون الدول الأكثر انفتاحاً على الغرب هي الأكثر قدرة على تلقي الفنون المعاصرة ضمن سياقها الصحيح.
فالمتلقي الكلاسيكي للفن يخاف من الجديد ومن التغيير، يستسلم لفكرة ربط الفنون المعاصرة الحالية بالحركة الدادائية –التي اعتبرت أباً روحياً لبعض الفنون- لكن لابد من الخروج من تحت عباءة هذا المعتقد الذي يقول بأنّ كلّ ما هو حديث يدعو بالضرورة إلى تحطيم قداسة الكلاسيكي.
فالمتلقي تنقصه الخبرة الكافية في عوالم التشكيل ليتلقى العمل بسياقه، فقد اشترط “ستانلي فش” على القارئ الخبير القادر على التلقي بشكل جيد للعمل الأدبي أن يكون متحدثاً بطلاقة بلغة النّص، عارفاً بالدلالات مالكاً للكفاءة المعرفية، إذا ما أسقطنا هذه الشّروط على المتلقي الفني الخبير ستكون هناك قلة من المتلقين ممن يعرفون مفردات الفن المعاصر ويفهمون عوالمه ويعون فلسفاته.
هنا نحتاج المتلقي الضمني –أسوةً بالمؤلف الضمني الذي اصطلحه واين بوث- حيث يكون لهذا المتلقي أنا ثانية تنفصل عن الشروط الصارمة والواقع من حوله، فيتلقى العمل بأفق مفتوح للخيال فيه الحصة الأكبر.
ولردم هذه الفجوة ما بين المتلقي والفن المعاصر فنون ما بعد الحداثة، نعود للنقد وضرورة حضور الفنون المعاصرة في دراسات النقاد، وفتح المجال أمام الفنانين بالعمل على تجاربهم ضمن مساحات مفتوحة وبدعم مؤسساتي أو حكومي، لأنّنا ننتقل من فن تقليدي يحتاج قماشاً وألواناً، لفن يحتاج سفراً وتقنيات وأجهزة وكاميرات ومجسّات ….. وغيرها الكثير، بحسب الفكرة وطريقة تنفيذها، ولن يرأب هذا الصدع حتى ندخل غمار هذه التجارب، وبعدها سيبدأ المتلقي بتطوير ذائقته وفقاً للتجارب والمعطيات من حوله.
إذن المشكلة ليست في قصيدة النثر نفسها أو فنون ما بعد الحداثة، بل في الفجوة بينهم وبين المتلقي وتوقعاته، فلو وُضِّحت أدواتهم وشُرحت الفلسفة الخاصة بكلّ نوع وقدّمت نماذج مهمة، لوجدوا جمهورًا أوسع ومتلقياً واعياً مهتماً، في كلتا الحالتين نجد أن قصيدة النثر وفنون ما بعد الحداثة، يحتاجان تلقياً تفاعليًا، غير سلبي، تلقي مرن بعيد عن الجمود دون نمذجة ما خبره من قبل، يشارك في بناء المعنى عبر فهمه وتأويلاته الخاصة.
مع رغبة حقيقيّة بأن يتخلى عن البحث عن “الحقيقة الواحدة” ويفكك المركزية لصالح تجربة جمالية مفتوحة.
في النّهاية ما لا يعلمه المتلقي التقليدي أن أصناف الكتابة الجديدة من قصيدة النثر وما بعدها مثل قصائد الهايكو، قصائد الومضة والأدب الوجيز هي ما تتجه نحوه الثقافة العالمية والتي لابد أن نكون جزءاً منها خاصة مع الانفتاح التقني الذي جعل العالم كوكب صغير.
والفنون المعاصرة –فنون ما بعد الحداثة- هي بالطبع الاتجاه المسيطر على عالم الفن في العالم، فإذا لم نكن منتجين لهذه الأعمال على الأقل نكون على درجة من الثقافة والوعي يسمح لنا بتلقيها.
لنكون لاحقاً متلقين لأنواع هجينة من الفنون تجمع الأجناس وتقدّم تجارب تجريبية وتفتح البواب أمام الخيال (وهي حاضرة بقوة حول العالم)، فيتعيّن على المتلقي حينها التخلي ليس فقط عن نموذجه الكلاسيكي، بل ترك توقعاته فيما يخصّ الأجناس أيضاً، وبناء تجربة تلقي تماثل بأهميتها التجربة الأدبية الفنية.
[1] هذا المصطلح استخدمه باختين للإشارة إلى نطاق استجابة القارئ وهنا التوقعات تتعلق بالتقييم فقط
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية