جدول المحتويات
«نبض الخليج»
يردد كثير من الناس عبارة: “أنا لا أحب السياسة ولا أهتم بها”، وعلى المستوى الأخلاقي غالبا ما توصف السياسة بمفردات وجمل فيها كثير من الازدراء والتحقير، لكن السياسة على ما يبدو هي قدر البشر الذي لا مفر منه، فلو تأمل الفرد بقليل من التبصر في مسار حياته اليومية سوف يكتشف بسهولة أن للقرارات السياسية الصادرة عن الحكومة أثر في مجريات حياته بشكل من الأشكال، فعلى سبيل المثال: نحن لا نتجاوز سرعة معينة على الطريق الفلاني لأن الحكومة حددت ذلك بقانون، ونحن نلتزم بتوقيت دوام محدد لأن الحكومة قررت ذلك، وهكذا على هذا المنوال، نكتشف أن استخراج شهادة الولادة وشهادة الوفاة، ودفع الضريبة وتدوين تاريخ الصلاحية على المنتجات كلها انصياع لقرارات وقوانين حكومية. وباستكمال بقية اللائحة (الصحة، التعليم، الآداب العامة) نكتشف أن العزوف عن السياسية هو عزوف عن أمر متعلق بتفاصيل حياتنا اليومية.
لماذا نهتم بالتحليل السياسي؟
إذا، فالسياسة هي حقيقة من حقائق الوجود الإنساني لا يمكن تجنبها، فكل فرد يجد نفسه مشتركا بطريقة ما، وفي لحظة ما، في شكل من أشكال النظم السياسية. ولعل في هذا إجابة عن سؤال: لماذا يهتم البشر في التحليل السياسي؟ فالبعض قد يرغب في فهم السياسة إشباعا للفضول، أو لأنهم يريدون أن يشعروا بأنهم يستوعبون ويدركون ما يجري حولهم في هذا العالم، لكن الأهم من هذا وذاك أننا نريد أن نصل إلى أفضل الخيارات من بين بدائل عدة متاحة. وبعبارة أخرى؛ لأننا نريد أن نتصرف بحكمة. ويعد دافع التوصل إلى أفضل الخيارات هو الدافع الأقوى لدى معظم الناس للاهتمام بالتحليل السياسي. من هنا يعتقد بعض المحللين أن كثيرا من جمهور الثورة وجمهور الموالاة اختار موقعة من المعادلة السورية قبل انتصار الثورة بناء تحليل سياسي؛ فمن اعتقد أن النظام لا يمكن أن يسقط اختار موقع الموالاة، أما من اعتقد أن النظام السوري حاله كباقي حال الأنظمة العربية التي تهاوت اختار البيئة الثورية. والحديث هنا عن فئة من الجمهورين ولا يمكن تعميمها على الجميع، لكنه يشير إلى خطورة التحليل السياسي.
بناء على ما سبق؛ فالتحليل السياسي وخصوصا في جانبه التنبؤي يحمل في ثناياه رسائل عدة؛ دعائية ونفسية. كما ويتضمن بعدا أخلاقيا
البعد الأخلاقي في التحليل السياسي
بناء على ما سبق؛ فالتحليل السياسي وخصوصا في جانبه التنبؤي يحمل في ثناياه رسائل عدة؛ دعائية ونفسية. كما ويتضمن بعدا أخلاقيا، فالمحلل عندما يسوق تنبؤاته باتجاه معين يصب في مصلحة جهة محددة إنما يمارس عملا دعائيا لصالح هذه الجهة وحربا نفسية على الطرف الآخر، وعندما يكون تحليله وتنبؤاته مضللة فإنه يدفع كثيرين ممن يستهلكون معلوماته إلى اختيار البديل الأسوأ من بين عدة بدائل متاحة. وينحدر المستوى الأخلاقي للمحللين الذين يعملون لصالح جهة ما للدرك الأسفل في أثناء النزاعات التي تكون الجهة المشغلة لهم أحد أطرافها، وهذا ما لاحظه معظم السوريين من خلال متابعتهم للمحللين السياسيين المجندين من قبل النظام البائد. فهؤلاء كانت غايتهم من كل ما يقدمونه من مادة تحليلية دفع المؤيدين للثبات من خلال محاولتهم البرهنة أحيانا والإيحاء في أحيان أخرى أن نظام الإجرام منتصر لا محال، وهذا الكلام يعني في نفس الوقت إحباطا ويأسا للطرف الآخر. والأهم من ذلك أنه تبين في النهاية أنهم دفعوا كثيرين لتبني خيارات لم تكن في صالحهم الشخصي.
سوريا ذاهبة نحو الاستقرار
في الثامن من كانون الأول 2024 انهار نظام الإجرام في دمشق وانهارت معه كل التنبؤات ببقائه، ومع الساعات الأولى لدخول المحررين دمشق بدأت التصريحات الدولية تتوالى من كل فج وصوب مرحبة بما آلت إليه الأمور في سوريا. وبناء عليه كان التحليل الأكثر منطقية أن سوريا ذاهبة نحو الاستقرار، فالحكومة الجديدة أصبحت أمرا واقعا وأصبحت في موقع صمام الأمان الذي يمنع سوريا من الانزلاق إلى الفوضى. وإذا لاحظنا أنه في السنوات الأخيرة أصبح الملف السوري مصدر قلق لم يعد يحتمل بالنسبة للدول الإقليمية والدول الأوروبية، وهو ما دفع القادة في هذه الدول للضغط على الدول الأقل تضررا، والأكثر ترددا من أجل القبول بإغلاق هذا الملف مع بقاء النظام السوري. من هنا كان الاعتقاد بأن الدول المتضررة والمترددة أصبحت أشد حماسا لطي الملف السوري بعد أن تخلص قادة هذه الدول من المأزق القانوني والأخلاقي الذي كان سوف يلوث تاريخهم فيما لو تصالحوا مع النظام البائد، فالأمر يعادل التصالح مع مجرم خطير يشبه الزعيم النازي “هتلر”.
تضليل الجمهور نتيجة للصدمة
بعدما أصبحت الحكومة السورية الجديدة أمرا واقعا وفي موقع صمام الأمان كان من المتوقع من صناع القرار في الدول الكبرى؛ الذين يعرفون جيدا أين تكمن مصالحهم أن تكون قراراتهم واقعة تحت تأثير مقولتين: أولهما “إن ثمن فشل التجربة السورية سيفوق بكثير كلفة تمويل نجاحها”، أما الثانية فهي “لا تدفعوا الإدارة الجديدة دفعا للارتماء في أحضان روسيا وإيران”. كان هذا واضحا منذ البداية، وهو ما أثبتته الأحداث والمواقف الإقليمية والدولية التالية، بل كان التسارع في إجراءات الاعتراف والدعم يفوق التوقعات، وهو ما يعد كفيلا بإسقاط كل الروايات والتنبؤات التي سارع لإطلاقها كل المتضررين من سقوط النظام البائد بالشكل الذي سقط به. فشكل السقوط وطبيعة القوى التي أسهمت به ومن ثم وصلت إلى السلطة تسببت بصدمة للمؤيدين وبعض فئات المعارضة على حد سواء، وهو ما دفع هذه الجهات لشن حرب إعلامية على الحكومة الجديدة؛ مادتها الأساسية التشكيك بمقدرات هذه الحكومة على البقاء والاستمرار، والترويج لأفكار ومعلومات مضللة تفيد بأن القوى الدولية ستقوم باستبدالها في وقت من الأوقات وكأنها مجرد موظف يمكن إقالته في أي وقت.
رغم أن كل ما يقال بهذا الشأن يبدو شديد التهافت ويأتي في سياق خيالي معاكس تماما لمعطيات الواقع، إلا أن المتضررين من وصول الحكومة السورية الجديدة إلى سدة الحكم يتقبلون مثل هذه الإشاعات رغم تهافتها، فبشكل عام، يميل الناس إلى تصديق الدعاية التي تسبب لهم الشعور بالسعادة أكثر من تلك التي تسبب القلق واليأس. ولكن السؤال الذي يسأل في هذه الحالة: ألا يعلم المروجون لهذه الدعايات أن البعض يتخذ خياراته بناء على تنبؤاتهم المختلقة؟ ألا يعلمون أن تنبؤاتهم هذه تحفز لدى بعضهم سلوكا قد يودي بهم إلى التهلكة أو مزيدا من التهميش؟
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية