جدول المحتويات
«نبض الخليج»
فجر الأربعاء 21 آب 2013، شنت قوات النظام المخلوع أكبر هجوم بالأسلحة الكيميائية في سوريا، استهدف الغوطتين الشرقية والغربية في ريف دمشق. وجاء الهجوم منسقاً بصواريخ محمّلة بغاز السارين، ضمن سياسة ممنهجة لاستخدام الأسلحة الكيميائية ضد السكان المدنيين، مع استهداف واضح للأطفال والنساء، بقصد إرهاب المجتمع وفرض السيطرة بالقوة.
وقالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها في الذكرى الثانية 12 للمجزرة، إن “الذكرى تحلّ في مرحلة مفصلية من تاريخ سوريا، مع دخول البلاد مساراً انتقالياً يشهد التزاماً حكومياً متزايداً بالتعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، بما يفتح نافذة حقيقية لتحقيق العدالة، وكشف الحقائق كاملة، وضمان محاسبة جميع المسؤولين عن هذه الجرائم”
تفاصيل مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق
شنت قوات نظام الأسد ليلة 21 آب 2013 أربع هجمات كيميائية متزامنة على مناطق مأهولة في الغوطة الشرقية والغوطة الغربية، بما في ذلك بلدة معضمية الشام، مستخدمةً ما لا يقل عن عشرة صواريخ محمّلة بغاز السارين بكمية إجمالية تُقدَّر بنحو 200 لتر.
وأطلقت الصواريخ من منصات مخصّصة بعد منتصف الليل، واستُغلت الظروف الجوية التي أبقت الغازات السامة قريبة من سطح الأرض، ما أدى إلى سقوط أكبر عدد ممكن من الضحايا أثناء نومهم، في دلالة واضحة على نيةٍ مبيّتة لاستهداف المدنيين المطالبين بالتغيير السياسي. ترافق ذلك مع حصار خانق مفروض منذ نهاية عام 2012، منع دخول الوقود والدواء والمستلزمات الطبية اللازمة لعلاج المصابين، مما فاقم الكارثة الإنسانية، وفق تقرير الشبكة السورية.
وتؤكد الشبكة أن قرابة 80 % من ضحايا الكيماوي في سوريا سقطوا في هجوم الغوطتين، وسجّلت الشَّبكة السورية مقتل 1144 شخصاً اختناقاً، أي ما يعادل قرابة 76 % من إجمالي ضحايا الهجمات الكيميائية التي نفذها النظام منذ كانون الأول 2012 وحتى أيار 2019. وتوزّعت حصيلة هذا الهجوم على النحو الآتي: مقتل 1119 مدنياً، بينهم 99 طفلاً و194 سيدة (أنثى بالغة)، ما يثبت الاستهداف المباشر للمدنيين؛ إضافة إلى مقتل 25 من مقاتلي المعارضة المسلحة. كما أصيب نحو 5935 شخصاً، غالبيتهم من المدنيين، بأعراض تنفسية وحالات اختناق جرّاء التعرّض للغازات السامة.
مجزرة الكيماوي.. “الهواء القاتل”
يقول أنس محمد علي، من أبناء مدينة كفر بطنا في الغوطة الشرقية، لتلفزيون سوريا إنه عاش لحظات مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام السوري في 21 آب 2013، وروى شهادته على ما جرى: “اليوم الذي تشعر فيه أن أنفاسك ثقيلة عليك وعلى الناس من حولك، لأنك ترى أشخاصًا أمامك يبحثون عن التنفس وعن الأكسجين، هو اليوم الذي لا يُمحى من الذاكرة. أنا أنس محمد علي، من كفر بطنا، عملت مواطنًا صحفيًا في الغوطة الشرقية من عام 2011 حتى 2018”.
وتابع “في الساعات الأولى بعد منتصف الليل، لم يكن الناس يدركون ما الذي يحدث. فجأة صدرت نداءات عبر المساجد، وارتفعت أصوات سيارات الإسعاف التي كانت تجوب الطرقات وتنقل المصابين، ما دفع معظم الأهالي إلى التوجه إلى أقرب مشفى. للمرة الأولى رأينا مشفى كفر بطنا ممتلئًا حتى خارج أبوابه، الجثث والمصابين ملأوا الطريق، والناس العاديون كانوا يساهمون بإدخالهم إلى الداخل ورش الماء عليهم”.
ويضيف “حين بدأنا بالتصوير كمجموعة مصورين من تنسيقية كفر بطنا، قلنا إنها “مجزرة بلا دماء”، فلم نكن نرى دماءً، وهذا ما بدا غريبًا بالنسبة لنا. اليوم وأنا أتذكر تلك العبارة أشعر وكأننا اعتدنا على المجازر التي يسيل فيها الدم، لكن هذه المرة رأينا أجسادًا مكدسة في كل مكان من دون دم. داخل المشفى امتلأت الطوابق بالجثث والمصابين، وفي الصباح بعد الساعة السابعة تقريبًا بدأ النظام يقصف المشافي والأماكن التي استقبلت المصابين والضحايا”.
“حينها ظهرت ضرورة الإسراع بدفن الضحايا، ليس فقط بسبب كثرة أعدادهم، بل أيضًا خوفًا من أن تحمل الجثث بقايا المواد الكيماوية. طُرحت فكرة دفنهم في مقابر جماعية، لكن المشكلة أن بعض الجثث لم يتعرف عليها ذووها بعد. وهنا كان دور المكاتب الإعلامية والمصورين، إذ التقطوا صورًا لكل ضحية حتى يتسنى لاحقًا لأهلها التعرف عليها إذا بحثوا عنها”.
ويشدد “يجب التوضيح أن المجزرة استهدفت بشكل أساسي بلدات زملكا، وتأثرت بها جوبر وعين ترما وحزة، لكن شهداء الكيماوي دُفنوا في معظم بلدات الغوطة”.
شعور الخوف استمر فترة طويلة بعد المجزرة. في بيتنا مثلًا، رأيت أمي لأول مرة تنام بملابسها الكاملة، مرتدية معطفها وحجابها، خوفًا من أن يُستهدف البيت مرة أخرى ويُضطروا للإسعاف وهم غير مستعدين. بعد المجزرة، أظن أن أهالي الغوطة وأنا شخصيًا فقدنا الأمل بالعدالة الدولية وبالحل السياسي، لأن اللحظة التي كان يفترض أن يُحاسب فيها بشار الأسد كانت هذه، بعد استخدام السلاح الكيماوي.
ويستطرد “بعد وصولي إلى فرنسا، عملت على مسارين. الأول كنت شاهدًا مجهول الهوية في القضية المرفوعة ضد بشار الأسد وعدد من ضباطه المسؤولين عن المجزرة، وقدمت شهادتي وسلمت وثائق رقمية للقضاء الفرنسي. المسار الثاني كان فنيًا، إذ شاركت في مشروع لإعادة تمثيل مجزرة الكيماوي بصور تجريدية فنية، حتى نستطيع أن نتذكر دائمًا… شخصيًا، أردت أن أُبقي ذكرى المجزرة حيّة أينما ذهبت في شوارع باريس، فربطت المشروع بين الغوطة الشرقية وباريس باستخدام اللون الأصفر، الذي يرمز للتحذير من خطر المواد السامة”.
القتل كـ “لعبة”.. والتداعيات على الناجين
القتل الذي ارتكبته قوات النظام المخلوع لم يكن بالرصاص أو بالقصف التقليدي، بل عبر غاز الأعصاب السارين الذي يقتل في صمت ودون ضجيج، مما جعله أكثر رعبا وهو يتسلل إلى رئات المدنيين والأطفال، حيث ما تزال تداعيات الهجوم لدى “الناجين ـ الضحايا” ترتبط بالجانب النفسي والإنساني للجريمة، من خلال تلاشي الشعور بالأمان عندما يصبح الهواء نفسه أداة للقتل.
يقول الطبيب النفسي محمد الدندل لموقع تلفزيون سوريا، إن التداعيات قد تستمر طوال عمر الناجين خصوصا أنهم استيقظوا على حالة من الهلع والصدمة، وهو ما يسمى “اضطراب الشدة ما بعد الرض ـ PTSD” حيث يعيش الناجي خيالات اقتحامية وكوابيس عند أي ذكر للكيماوي أو الحادثة، وتجعله يعيش مشاعر أقرب لما عاشه أثناء وقوعها كالشعور بالعجز وفقدان الحيلة خاصة إذا كان رب أسرة ولديه أطفال فهنا سيعيش الصراع بين إنقاذ نفسه وإنقاذ أطفاله.
ويتابع: “ما حصل أمر غير متوقع وغير مسبوق، أن تكون أنفاس الشخص قاتلة، إضافة إلى مشاهد الموت والاختناق لأناس أمامه، والعدد الهائل للضحايا في الغوطة لقد كان كل الموجودين يعانون من نفس الصدمة من دون أي ملجأ، فالقذيفة يمكن مناورتها والحصول على المساعدة من الجيران أو من الإسعاف وقد يستطيع الشخص الاختباء، أما الكيماوي فلا مكان للهرب خاصة أن الناس كانوا نياما وفترة الفجر حيث يكون الهواء باردا ووزنه ثقيل وتمركز المادة كثيف فيه، هذا يترك حالة من الصدمة.. أتوقع أن القسم الأكبر من الناجين لن يتعافوا إلا إذا خضعو لعملية علاجية طويلة ومعقدة، وللأسف هذا الأمر غير متوفر بسبب نقص الكوادر والاختصاصيين.. معظم ضحايا هذه الحادثة لم يتقلوا العلاج بعض المحظوظين يتلقون العلاج لكنهم قلة.. ما تبقى منهم سيروون الحدث لفترة طويلة قد تستمر لنهاية العمر..”.
أما بالنسبة (للقتل عن بعد) يقول د.الدندل “القاتل عن بعد شخص غير متعاطف مع الضحايا أساسا، فهو يقتل بدم بارد ولا يشعر بشيء، فالموضوع بالنسبه إليه عبارة عن ضغط زر الإطلاق.. القتل من بعد قد يجعل الأمر سهلا للقاتل لأنه لا يشاهد بأم عينه آثار أفعاله، وهناك أمثلة من الحروب العالمية وحرب الخليج، حيث انتشر مرض اسمه “مرض حرب الخليج” بين الكثيرين بعد عودتهم إلى بلادهم إذ من الممكن أن يعيش (المقاتل/القاتل) عقدة الذنب لأنه عايش قصص الضحايا.. أم في القتل عن بعد لن يتعرض لآثار فعلته بشكل مباشر لذلك لا يمكن خلق مشاعر ذنب ومن الممكن أن يجعل ذلك منه لاحقا شخصا يقتل بسهولة أكبر وبدم بارد.. وبدون لوم ذات اتجاه الضحايا فهو أصلا لا يعرف أشكالهم ولا أعدادهم.. وهم يتحولون لمجرد رقم.. خاصة ضمن حملات التعتيم والتضليل الإعلامي التي نفذها النظام السابق، الذي لم يعترف بما جرى حتى آخر أيام سقوطه”.
أما من وجهة نظر فلسفة التكنولوجيا، فإن القتل عن بعد هو نتاج تطور التكنولوجيا التي تفصل بين السبب والنتيجة. فحين نتحدث عن القتل كـ”لعبة” يصبح فعل القتل أشبه بلعبة فيديو، حيث يضغط الفرد على زر ويختفي الهدف دون رؤية الألم والمعاناة الناتجة.
ويرى فلاسفة مثل “بول فيريليو” أن التكنولوجيا العسكرية الحديثة تحوّل الحرب من صراع بشري مباشر إلى صراع آلي، مما يفرغها من أي معنى أخلاقي أو بطولي ويزيد من إمكانية ارتكاب الفظائع. ويشير إلى أن “القتل عن بعد” ليس مجرد طريقة جديدة للقتل، بل هو تحول عميق في طبيعة العنف. ويمثل هذا الفعل قمة التجريد من الإنسانية، حيث يُنظر إلى الضحية على أنها مجرد نقطة على خريطة، أو هدف يتم محوه بضغطة زر.
المجازر في سوريا وقتل “الضمير”
رغم قسوة العنف التقليدي، إلا أنه يحمل في طياته نوعا من “المواجهة” التي قد تثير ضمير الفرد. لكن القتل الصامت عن بعد يقتل هذا الضمير، فهو يمنح القاتل راحة زائفة من الشعور بالذنب، لأنه لم يرَ الدموع، ولم يسمع الصرخات، ولم يشم رائحة الدم.
هذا النوع من القتل يحمل في طياته خطرا مزدوجا فهو لا يقتل الأبرياء فحسب، بل يقتل أيضا قدرتنا على التعاطف والمساءلة الأخلاقية، مما يجعلنا كبشر أكثر عرضة للقتل الجماعي والمجازر.
أما الرأي الفلسفي الأكثر شيوعا حول “القتل عن بعد” هو أنه يجرّد الضحية من إنسانيتها. عندما يكون القاتل على بعد آلاف الأميال أو محلقا بطائرته الحربية في السماء أو وراء لوحة لإطلاق الصواريخ، فهو لا يرى الضحية ككائن حي له قصة بل كهدف على شاشة. وتسمي ذلك الفيلسوفة حنة آرندت بـ “تفاهة الشر“، أي أن الجريمة قد تصبح “إدارية” أكثر منها “إنسانية”.
ضرب السلاح الكيماوي الأجساد في أكثر حالاتها هشاشة: النوم، التنفس، الحاجة الأساسية للحياة. هذا الأسلوب يُظهر أن القاتل “النظام المخلوع” لا يكتفي بقتل الجسد، بل يقتل حق الإنسان في الحياة الطبيعية (النوم، التنفس، الأمان)، ما يجعله جريمة مضاعفة أخلاقيا.
هذا البعد الجغرافي والرؤية المحدودة يمحوان التعاطف ويجعلان عملية القتل تشبه تدمير جماد أو هدف غير مهم. يرى الفلاسفة أن هذا التجريد من الإنسانية يسهل على الفرد ارتكاب أفعال عنيفة لم يكن ليقدم عليها لو كان يواجه الضحية وجها لوجه. ولكن الموضوع يبقى مثار جدل بسبب وقوع أعمال عنف وجرائم ضد مدنيين تمت وجها لوجه، لكن الأكثر وضوحا هو تأثيرها وتداعياتها على المرتكب والمنتهك. حيث يفترض أن القتل له عواقب حقيقية لا رجعة فيها: فقدان حياة، ألم للضحايا وعائلاتهم، وعقوبات قانونية. أما حين يصبح القتل لعبة تختفي هذه العواقب. (الشخصيات تُقتل وتُبعث من جديد، ويمكن للاعب إعادة المحاولة مرارا وتكرارا).
هذا التجريد للعواقب هو ما يجعل القتل كـ”لعبة” تجربة مختلفة تماما. لكن السؤال يبقى: هل يمكن أن يُؤدي هذا التجريد إلى تقليل قيمة الحياة البشرية في نظر “اللاعب/القاتل”؟
في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، اقترح روبرت فيشر، أستاذ القانون بجامعة هارفارد، أسلوبا جديدا، لكنه مروع، للطريقة التي يمكن أن تقرر بها الدول شن هجوم نووي.
وكتب فيشر في جريدة “علماء الذرة”، أنه بدلا من الاحتفاظ بالشفرة السرية لتفعيل ترسانة الأسلحة النووية في حقيبة يحملها رؤساء الجمهورية، يفضل أن توضع وسائل إطلاق القنبلة الذرية في كبسولة تزرع بالقرب من قلب أحد المتبرعين، على أن يرافق هذا المتبرع الرئيس أينما ذهب، ويحمل معه سيفا ثقيلا. بحسب أرشيف صحيفة نيويورك تايمز.
وإذا وافق الرئيس، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، على شن هجوم نووي، فعليه أولا أن يقتل ذلك المتطوع وينتزع قلبه حتى يستخرج الشفرة.
وعندما عرض فيشر هذا المقترح على أصدقائه من وزارة الدفاع الأميركية، أصيبوا بذهول، ورأوا أن هذا التصرف قد يؤثر على تفكير الرئيس وتقديره للأمور. لكن فيشر كان يريد من وراء هذا المقترح أن “يرى الرئيس القتل بعينه ويدرك حقيقة موت الأبرياء، قبل أن يقدم على قتل الآلاف. وأن تراق الدماء أولاً على بساط البيت الأبيض”.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية