جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في سوريا اليوم، لا يقتصر الاستقطاب على صراع السلطة والتيارات الرافضة لها، وإنما يتعداه إلى معركة صامتة على احتكار مفهوم الوطنية فمن يجرؤ على إبداء أي موقف إيجابي أو متوازن تجاه السلطة القائمة – حتى لو انتقدها في ملفات أخرى – يواجَه بحملة تشويه وضغط أخلاقي، وكأنه ارتكب خيانة كبرى.
هذا المنطق لا يوفّر حتى من يتخذون مواقف نقدية-بنائية، فيعامل الجميع على أنهم أعداء لمجرد خروجهم عن خطاب الرفض المطلق، وبهذا تتحول الوطنية من مظلة جامعة إلى بطاقة عضوية في نادٍ سياسي مغلق، بينما يستبدل النقاش الموضوعي بانفعالات إقصائية لا ترى سوى الأبيض أو الأسود.
احتكار الوطنية وأزمة المشاركة
في المشهد السوري الراهن، يبدو أن الاستقطاب لم يعد مقتصراً على خطوط التماس التقليدية بين السلطة والتيارات الرافضة لها، وإنما يتمدد ليشمل صراعاً أكبر على احتكار مفاهيم الوطنية وتحديد معايير الانتماء السياسي والأخلاقي. فمن يجرؤ على إظهار أي موقف إيجابي أو متوازن تجاه السلطة القائمة – حتى لو تضمن موقفه نقداً حاداً لسياساتها – يواجه بحملة تشويه وضغط أخلاقي، وكأن الخروج عن خطاب الرفض المطلق جريمة كبرى، ولعل الأخطر أن هذه الضغوط لا تميّز بين من يعلن ولاءه الكامل وبين من يتخذ مواقف نقدية-بنائية، إذ يجري وضع الجميع في سلة واحدة، ومعاملتهم باعتبارهم متواطئين أو فاقدين للمصداقية وكنتيجة لذلك، تتحول الوطنية من كونها فضاءً جامعاً إلى بطاقة انتماء يحتكرها تيار واحد، في حين يستبدل الحوار العقلاني بنزعة إقصائية لا ترى سوى الأبيض أو الأسود، وحين يختزل الانخراط في مؤسسات الدولة في كونه “خيانة للثورة” أو “بيعاً للمبادئ”، فإن النتيجة المباشرة هي إخلاء الميدان أمام القوى التي طالبت الثورة ذاتها
بإبعادها وبالتالي، بدلًا من أن تتحول المرحلة الحالية إلى فرصة لتجديد الكوادر وضخ دماء جديدة من أبناء الثورة السورية، تصبح عبارة عن دورة لإعادة تدوير النظام القديم، مع تغيير في الواجهات والأسماء لا في الجوهر والآليات، وذلك بسبب عدم انخراط الثوار في بناء تلك المؤسسات أو الضغط عليهم لعدم المشاركة في بناء الدولة وعليه، بدلاً من أن تكون المرحلة الجديدة فرصة حقيقية لتجديد النخب السياسية وضخ دماء جديدة تواكب تطلعات السوريين، تتحول إلى حلقة مفرغة من إعادة تدوير النظام القديم، تتغير الوجوه والأسماء فقط، بينما تبقى البنى السلطوية والعقليات الإدارية ذاتها، ما يعوق عملية الإصلاح والتنمية، ويعزز الإحباط الشعبي من إمكانية التغيير الحقيقي.
يمكن القول بأن كسر احتكار الوطنية يبدأ من استعادة الحق في الاختلاف، ومن حماية فضاء الحوار العقلاني من أن يبتلعه منطق ردود الفعل الانفعالية.
الإرث السياسي والبناء الدولتي
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل أن الحكومة الجديدة، وهي تحاول تثبيت حضورها وإدارة شؤون الدولة، أن ترتكب الأخطاء—وهذا أمر متوقع—فهي لم تبدأ من صفحة بيضاء، وإنما ورثت إرثاً معقداً من الانقسامات العسكرية، والانشطارات السياسية، والتصدعات الاجتماعية. هذا الإرث، الذي تشكّل على مدى أكثر من عقد من النزاع، وبالإضافة إلى المظلوميات التاريخية التي ورثتها سوريا عن عائلة الأسد ليست ملفاً إدارياً يمكن إغلاقه بسرعة، وإنما هو منظومة متشابكة من الأزمات تحتاج إلى سنوات من العمل المنهجي لتفكيكها.
غير أن الاعتراف بشرعية النقد لا يعني نسف شرعية العمل داخل مؤسسات الدولة أو الدعوة إلى الانسحاب منها بل على العكس، فإن المقاطعة الكاملة للمؤسسات الرسمية تمثل أكبر هدية يمكن تقديمها للحرس القديم (فلول الأسد)، ذلك التيار الذي خبر آليات السلطة في عهد الأسد ويعرف كيف يملأ أي فراغ سياسي أو إداري لصالحه وعلاوة على ذلك، يكمن التحدي الجوهري في سوريا الجديدة في صياغة معادلة دقيقة تجمع بين المشاركة الفعّالة والمساءلة الصارمة فالولاء المطلق يفرغ المشاركة من مضمونها، والرفض المطلق يحرم القوى الجديدة من التأثير في مسار الدولة. وبدون هذه المعادلة، سنظل أسرى ثنائية عقيمة تعيد إنتاج الاستقطاب ذاته الذي عطّل إمكان بناء عقد اجتماعي جديد ونتيجة لذلك، تتجلى الحاجة الماسّة إلى خطاب سياسي واعٍ، يتخطى ثنائية الولاء المطلق أو الرفض القاطع، ويؤكد أن مؤسسات الدولة هي ملك لجميع السوريين بلا استثناء، وليست حكراً على أي طرف سياسي، كما يشدد هذا الخطاب على أن إعادة بناء هذه المؤسسات لا يمكن أن تتم عبر نهج الفرز الأخلاقي الذي يسلّم القرار بيد الشبكات البيروقراطية الفاسدة، الموروثة عن حزب البعث، والتي تهيمن عليها شبكات من الأشخاص الرافضين جوهرياً لأي تغيير، والمنكرين لفكرة الثورة وولادة سوريا جديدة قائمة على قيم الحرية والمواطنة.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول بأن كسر احتكار الوطنية يبدأ من استعادة الحق في الاختلاف، ومن حماية فضاء الحوار العقلاني من أن يبتلعه منطق ردود الفعل الانفعالية، فالمستقبل لا يبنى بالصراخ أو بالقطيعة، وإنما بجرأة الدخول في مساحات الفعل الديناميكي، حيث تتشكل السياسات الحقيقية، ويختبر فيها صدق المبادئ في مواجهة تعقيدات الواقع لا في المهاترات والمواقف المسبقة.
يبقى التحدي النظري والعملي اليوم في صياغة نموذج متوازن للمشاركة السياسية يجمع بين الاستقلالية النقدية والفاعلية المؤسسية.
الخاتمة
ختاماً، لا جدال في أن المراقبة والمساءلة تشكّلان ركيزتين أساسيتين لأي مشروع سياسي رشيد، لكن التمركز على هامش العملية السياسية، والمقاطعة، والتسرع في اتهام من يسعون لبناء الدولة بخيانة المبادئ الثورية، لا يسهم في التغيير المنشود، وإنما يخلق فراغاً توظّفه فلول النظام القديم لصالح إعادة إنتاج نماذج السلطة نفسها.
ومع ذلك، يبقى التحدي النظري والعملي اليوم في صياغة نموذج متوازن للمشاركة السياسية يجمع بين الاستقلالية النقدية والفاعلية المؤسسية، وهو ما يمكّن القوى المنتقدة من التأثير الفعلي في صناعة القرار، دون التنازل عن مبادئها ومواقفها الثابتة، هذا النموذج يمكن أن يكون السبيل لتجاوز الانغلاق على ثنائية القطيعة والولاء المطلق ولبناء حوار سياسي تشاركي، يؤدي إلى تأسيس دولة تقوم على أسس التعددية الحقيقية والمساءلة الصادقة، خاصة في ظل التحولات السياسية والاجتماعية المعقدة التي تعيشها سوريا، يصبح لزاماً على الفاعلين النقديين الانخراط بجدية ومسؤولية في مسارات البناء السياسي، ليكونوا عامل تغيير جوهري ومستدام يتوافق مع تطلعات المجتمع السوري في دولة تحكمها مبادئ القانون والعدالة الاجتماعية.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية