جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في أحد صباحات أيلول من عام 2013، وصلنا في المكتب الإعلامي لـ”تنسيقية الثورة في ببيلا” بريف دمشق نداءٌ صوتي عبر جهاز اللاسلكي الذي يربطنا بغرفة العمليات في البلدة. لم يكن طلبًا لتصوير قصف قوات النظام أو توثيق شهداء جدد أو مصابين جدد، وإنما دعوة لأخذ الاحتياطات اللازمة، وتحذيرًا من رتل عسكري يتبع لأحد التشكيلات المحسوبة على الجيش الحر، كان قادمًا لاقتحام المكتب. ورغم أن المستهدف من هذا الاقتحام كنتُ أنا وحدي لاعتقالي، إلا أن سمعة ذاك الفصيل، ومتزعمه تحديدًا، كانت كافية لعدم ترك الأمر لمفاجآت القدر.
كان الصدام آنذاك متجذرًا في نشر خبر يفضح فساد إحدى المجموعات التابعة للفصيل المذكور، بعد اكتشاف مستودعٍ لها مليئًا بالمواد الغذائية، تزامنًا مع اشتداد حصار قوات النظام على المنطقة، لدرجة وجود كميات مخزّنة من حليب الأطفال مع فقدانه بشكل كامل، بعد مرور أكثر من شهرين على إغلاق آخر منفذ لمناطق جنوبي دمشق الخارجة عن سيطرة النظام المخلوع.
أصبح انتقاد أي شيء في “سوريا الجديدة” يشبه المشي في حقل ألغام؛ ليس لتشدّدٍ كبير تظهره السلطة في وجه منتقديها، بل لحماسةٍ وتطوّع جمهورها، وخاصةً الجديد منه، في ردع المنتقدين مهما بلغت هامشية انتقاداتهم بعض الأحيان.
صدامات متكررة وحجّة واحدة
الحادثة التي لم أُعتقل فيها بطبيعة الحال، لم تكن الصدام الأول مع جهاتٍ محسوبة على الثورة أو غير محسوبة ولكنها انخرطت في قتال قوات النظام المخلوع. وهنا لا داعي لذكر تبعات الصدام مع قوات النظام، فتعريف الواضحات من الفاضحات. تلك الصدامات سبقها وتلاها أخرى لانتهاكاتٍ وممارساتٍ تنوّعت في فجاجتها بين السرقة والخطف لتحصيل الفِديات، والانتهاكات بحق المدنيين والناشطين في المناطق المحررة، والقصف العشوائي لمناطق تحت سيطرة النظام المخلوع راح ضحيته مدنيون. وتنوّعت الجهات المسؤولة عنها من تلك الفصائل التي صُنّفت تحت مسمّى الجيش الحر مرورًا بالفصائل الإسلامية وصولًا إلى “جبهة النصرة” قبل أن تصبح لاحقًا “هيئة تحرير الشام” وتنظيم الدولة “داعش”، وتنوّعت مخاطرها ما بين تشويه السمعة والاعتداء والاعتقال وصولًا إلى الاغتيال.
الصدامات التي تكرّرت وامتدت على مدى سنوات بأشكال مختلفة، كانت تدور دائمًا حول ما ترتكبه هذه الجهات من أفعالٍ تُسيء لسردية الثورة ويلزم فضحُها لردع مرتكبيها، وفق ما أراه. إلا أن ما كنت أراه كان يصطدم أيضًا برؤيةٍ مضادّة تعتقد بضرورة التستّر على الانتهاكات لعدم تمكين النظام وأدواته من استغلالها، مع إمكانية إيجاد الحلول ضمن البيت الداخلي وتجنّب “نشر غسيلنا الوسخ” على الملأ. إلا أن هذه الحلول التي كان يُتحدَّث عنها دائمًا لم تكن ترى النور، بل كان الخلل يتفاقم ويكبر ويصبح جذريًا، وآثاره حاضرة إلى اليوم.
العقلية هذه، التي كانت تحاول ردع أي صوتٍ رافض لتلك الممارسات، لم تتغيّر، ولم يُتَح لها أن تدرك خطورة ما تظنه صوابًا ودفاعًا عن الحق تُبرّره الوسيلة. بل شهدت تكاثرًا بالانشطار في المجتمع بعد الثامن من كانون الأول، حيث ضمّت إليها منتسبين جددًا معظمهم لا يعرفون عن سردية الثورة إلا بضع معلوماتٍ سطحية، جعلتهم يعتقدون مثلًا أن من دخلوا دمشق محرِّرين هم كتلةٌ واحدة اسمها الجيش الحر الذي تشكّل من منشقين ومتطوعين قبل 14 عامًا، عوضًا عن جهلهم بكون الجيش الحر ما هو إلا مُسمّى رمزيًّا لفصائل غير مؤدلجة ولم تكن يومًا كيانًا واحدًا متماسكًا يحمل هذا الاسم.
ولأن العقلية هذه لم تتغيّر، بل زاد منتسبوها، أصبح انتقاد أي شيء في “سوريا الجديدة” يشبه المشي في حقل ألغام؛ ليس لتشدّدٍ كبير تظهره السلطة في وجه منتقديها، بل لحماسةٍ وتطوّع جمهورها، وخاصةً الجديد منه، في ردع المنتقدين مهما بلغت هامشية انتقاداتهم بعض الأحيان. وهنا يمكن تخيّل عمليات الاغتيال المعنوي وحملات التشويه التي يتعرّض لها من يرفعون صوتهم في القضايا الحسّاسة التي تهم البلاد خلال المرحلة الانتقالية، كالعدالة الانتقالية والسلم الأهلي ورأب الصدع بين السوريين عبر حوارٍ وطنيٍّ حقيقي، وطريقة هيكلة مؤسسات الدولة من جديد وإدارتها، والانتهاكات التي وصلت إلى حدّ ارتكاب مجازر ومجازر مضادّة في الساحل والسويداء.
جمهور السلطة الجديدة وتنوّع غاياتهم من الردع
يمكن القول إن هذه العقلية باتت كجماعةٍ كبيرة تضم أنصارًا يطيب لمعظمهم التكنّي بـ”الأمويين”، وتختلف غاياتهم في ممارسة عمليات الردع اليومية. فمنهم من يؤمن حقًّا بعقلية “عدم نشر الغسيل الوسخ” لعدم تشميت الأعداء والخصوم، وتجنّبًا لسيناريو المؤامرة الساعية لإسقاط الحكم الحالي. وهنا يحضر نموذج الإخوان المسلمين في مصر كهاجسٍ يؤرقهم، رغم الظروف المختلفة كليًّا بين الحالة السورية والمصرية؛ فالجيش الذي أطاح بمرسي هو أحد أهم أوراق قوة الشرع في تثبيت حكمه. ومنهم من يسعى لمحو سجله الأسود خلال سنوات الثورة بإبراز ولائه الأعمى للسلطة الجديدة بعد سنواتٍ من التسبيح بحمد السلطة المخلوعة، وفي سبيل ذلك لا يردعه شيء، فيصبح ملكيًّا أكثر من الملك، ويعود لما اعتاد عليه سابقًا وما لا يعرف غيره أصلًا من “التشبيح” إلى أقصى حدٍّ على كل ممتعضٍ ومستاءٍ أو حتى رافضٍ لانزلاق البلد إلى الهاوية، ومزاودٍ على مناضلٍ كرغيد الططري الذي أمضى نحو ثلثي حياته في المعتقلات، بعبارة “وين كنت قبل 14 سنة”!
أما القسم الأكبر من الرافضين لأي صوتٍ ناقد، فهم من يظنّون أن أي كلمة من شأنها إشعال ثورةٍ جديدة، أو تهدف للإطاحة بالحكم، وبالتالي إبقاء البلاد في حالة عدم استقرارٍ لانهائية، وهو ما لا يريده معظم السوريين على الأقل.
وفي سياق المحاججة التي يلجأ إليها منتقدو المنتقدين، يستحضرون دائمًا المقارنة بين الحكم الحالي والنظام المخلوع لتذكير المنتقدين بالنعمة الكبيرة التي يجب عدم الكفر بها. وهو ما لا يمكن لأي سوريٍّ عاقلٍ أن ينكره، ولكن هذا الإسقاط فيه مغالطة؛ فالنظام المخلوع وصل إلى قاعٍ يصعب على غيره النزول إليه. ومن غير المفيد المقارنة دائمًا مع النموذج الأسوأ، بل يجب أن تكون المقارنة مع النماذج الناجحة، وهي ليست قليلة. وإن كان لا بدّ من المقارنة مع النظام المخلوع فلتكن مع نظام 2010، قبل أن يبلغ فجوره لاحقًا حدًّا لا متناهيًا، ونسأل أنفسنا مجدّدًا: لماذا انتفضنا على نظام 2010؟ ثم نعيد إسقاط تلك الأسباب على الوضع الراهن؛ عندها تكون المقارنة صحيحة. وهذا الكلام لا يعني أن النظام الحالي يشبه نظام 2010، فهو ما يزال جسمًا لينًا في طور تشكيله، لم يصل إلى شكله الصلب النهائي بعد، ومن الظلم إطلاق أحكامٍ نهائية عليه، عوضًا عن اتخاذ مواقف راديكالية منه.
الانتقادات في هذه القضايا المصيرية لا تهدف إلى الهدم، بل إلى تصويب البناء ليكون على أسسٍ متينة منذ البداية، بحيث تصبح مؤسسات الدولة قويةً ومستقلة.
ماذا يريد المنتقدون ولماذا لا يصبرون؟
ولكن إذا لم تكن معظم الانتقادات تهدف إلى تقويض الحكم الجديد، فماذا تريد إذن؟ أولًا، دعونا نستثني من هذه الحسبة المتضرّرين من سقوط حكم الأسد، وأنصار الخصوم، ومن تحوّلوا إلى أعداء للسلطة الحالية لاحقًا.
لا شكّ أن المسيرة التي أوصلت أحمد الشرع لسدّة الحكم لم تكن ناصعة البياض خلال سنوات الثورة، ويمكن القول إن النسبة الكبرى من أنصار الثورة كانوا، على الأقل، غير راضين عن ممارسات جماعته ـ هيئة تحرير الشام وقبلها جبهة النصرة ـ فضلًا عن الخصومة وصولًا إلى حدّ العداء المباشر والمعلن. وهو ما كان واضحًا خاصة في مظاهرات إدلب قبل أشهرٍ قليلة من معركة “ردع العدوان”، التي وصلت حدّ المطالبة بتنحّيه عن “قيادة المحرر”. ولكن الحدث المنتظر ـ سقوط نظام الأسد ـ الذي ضحّى السوريون في سبيله بالغالي والنفيس، والتغيّر الواضح أيضًا خلال سنوات في عقلية “تحرير الشام” التي تدرّجت من “الجهاد” العابر للأوطان إلى “الجهاد” المحلي، ومن السلفية الجهادية التي تُضيّق على الناس إلى شكلٍ أخفّ يبقى إسلاميًا ولكن يقترب من التدين الشعبي أكثر؛ هذان العاملان، إضافةً إلى الرغبة عند معظم السوريين بالاستقرار وإعادة عجلة الحياة للبلاد، جعلتهم يقتنعون بالقبول بالواقع الراهن وفتح صفحة جديدة على أمل النجاح في انتشال البلاد من المستنقع الذي أوقعها فيه الأسد الفارّ، والحلم بسنواتٍ سِمان بعد عقودٍ عجاف.
ولكن الصفحة الجديدة هذه ليست شيكًا على بياض تُلزمهم التزامَ الصمت بشكلٍ دائم، كما يريد الموالون الجدد الذين يرددون دائمًا عبارة أخرى شهيرة أيضًا: “أعطوهم وقتًا”، في أي نقاشٍ يدور حول قضية تتصدر الشأن العام. وفضلًا عن أن الانتقادات الموجّهة لأداء الإدارة الجديدة لا تشكّل حجر عثرةٍ في طريقها، إذ يمكنها أن تمضي قُدمًا في عملها بالتوازي مع هذه الانتقادات، بل يمكن أن تستفيد منها إن أحسنت استغلالها بالنظر إليها كتنبيهٍ لا تشويش. أما بالنسبة لحجّة الوقت، فهي تصلح عند الحديث عن تحسين الخدمات والبنية التحتية ودخل الفرد وغيرها، ولكنها تبدو كشماعةٍ مهترئة عند محاججة انتقاد أمور تأسيسيةٍ متعلقة بالعدالة الانتقالية والسلم الأهلي، وطريقة هيكلة وإدارة مؤسسات الدولة؛ لا تملك الدولة فيها رفاهية التجريب والخطأ، وبداية الانحراف عن مسارها الصحيح تُصعّب إعادتها للسكة لاحقًا. فالانتقادات في هذه القضايا المصيرية لا تهدف إلى الهدم، بل إلى تصويب البناء ليكون على أسسٍ متينة منذ البداية، بحيث تصبح مؤسسات الدولة قويةً ومستقلة ـ والأهم غير مرتبطة بأشخاص ـ وعندها يصبح شخصُ مَن يجلس في قصر الشعب ليحكم تفصيلًا ثانويًا: يأتي من يأتي ويذهب من يذهب، أسوةً بكل الدول المتقدمة، لا تُلزَم ثورةٌ لتغييره ولا “مؤامرة” لتنصيبه.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية