«نبض الخليج»
هل باتت البلاد السورية على فوهة بركان؟ نعم هي كذلك، بل هي أشبه ما تكون بجزر متناثرة من الحرائق، وكلّما انطفأ حريق هنا، شبّ حريقٌ هناك، يخبو اللهب حيناً ولكنّ جذوة النار تبقى مستعرةً تحت الرماد، لا تحتاج إلّا قليلاً من النفخ حتى تشتعل من جديد، وما أكثر النافخين في النيران السورية.
حين تتجاور الحرائق ويختلط دخانها بعضه ببعض، تصبح البلاد غمامة سوداء مشرئبة بالسواد الممزوج بالقهر، وربما يكون من أيسر الطرق لإخفاء القهر هو إسكات المقهور، سواء بقمعه أو البطش به أو التهديد أو الترغيب، ولكنه سرعان ما سيعود إلى الاشتعال، وربما إلى الانفجار بطريقة مباغتة.
في السادس من شهر آذار الماضي اشتعلت حرائق الساحل، في جبلة وطرطوس واللاذقية، ولم يكن من أشعلها شبحاً أو شخصاً مجهولاً، بل وقف يصيح بملء فمه: أنا من ألقمَ برميل البارود شعلةً من نار، وسأحرق هذه الديار طالما لم أعد متسيّداً فيها، فهذه البلاد الجميلة لا تليق بكم من بعدي، ولعله كان من المقدور عليه آنذاك محاصرة الفاعل وإغلاق جميع نوافذ الأوكسجين عنه، ليموت اختناقاً بناره ودخانه، ولكن جرت الأمور على غير هذا النحو، إذ يبدو أن نهج التجييش والانتقام الجماعي وأخْذ البرىء بجريرة المسيء هو نهج ضرب بجذوره في ترابنا ووجد من يغذّيه ويرعاه. لعله من الصحيح أن ألسنة اللهب المشتعلة قد خبتْ، ولكن بقع السواد ما تزال تختزل كثيرا من الأحقاد التي لم تحترق بعد، بينما أبطال (الفزعة) والنفير العام وحَمَلة (سيوف الحق) ولّوا وجوههم شطر وجهات أخرى للبحث عن حرائق أخرى لتأدية واجب الجهاد.
في سوريا أصناف عدة من البشر المنتمين إلى أعراق وطوائف، عرب وكورد وتركمان وشركس، مسلمون سنة ومسيحيون وشيعة وعلويون ودروز وآشوريون..
وفي أواخر شهر نيسان الماضي انتشر تسجيل مرئي لشخص مجهول يتمادى فيه على شخص النبي الكريم، نعم هو مجرّد تسجيل لشخص نكرة، ولكنّه قلب البلاد رأساً على عقب، وقامت الدنيا ولم تقعد، أليس من المذهل هذا الاستعداد الفظيع للهياج؟ وهل تكمن المشكلة في الإساءة ذاتها أم لم تكن سوى شرارة لامست أطراف الهشيم؟ فكثر المتصايحون واحتدم اللطم والندب، والجميع بات يحذّر من حرب أهلية توشك بالوقوع، أليست هذه الحرب الأهلية ذاتها؟ لقد وقعت وانتهى الأمر، وقعت ليس بتدبير خارجي ولا تآمر صهيوني ، ولنفرض أن إسرائيل لم تدّخر جهداً في تحريضها وهدفها الرامي إلى تقسيم البلاد من خلال استثمار التكوين الطائفي والعرقي في سوريا، أليس الأجدى في هذه الحالة هو العمل على تفويت الفرصة على الخطاب الإسرائيلي وسدّ الثغرات أمامها وقطع الطريق على مسعاها؟ وذلك من خلال تعزيز أواصر المواطنة بين السوريين ورفض التجييش الطائفي ومحاربة المحرّضين الذين يجدون في تعميم الاتهامات هوايتهم الفريدة ونبوغهم النادر؟ فالتذرّع الدائم بوجود مؤامرة خارجية لن يأتي بنتيجة ولن يكون مقنعاً مع استمرار افتقاد الدولة أو الحكومة إلى مبادرات فاعلة وجدّية لمواجهة المشكلة، لكن المؤسف أن ما حدث كان بفعل عقول لا تفكّر إلّا على هدْي يقينياتها ولا ترى إلّا من خَرْم مناظيرها، ولا تسمع إلّا ما يطربها ويداعب أوتار غرورها.
في سوريا أصناف عدة من البشر المنتمين إلى أعراق وطوائف، عرب وكورد وتركمان وشركس، مسلمون سنة ومسيحيون وشيعة وعلويون ودروز وآشوريون وووو، ولعل هذه الانتماءات جميعها كانت بالولادة، ولم تكن خياراً فكرياً وسياسياً وثقافياً لجميع هؤلاء الناس، فما هو الحق الذي يجيز لأحد أن يتمايز على الآخر، وإن كان ثمة امتياز ، فهو لمن استطاع أن يرتقي بهذا الانتماء إلى مراتب أكثر إنسانيةً ونبلاً، ليبرهن – حينها – على أن هذه الانتماءات الفرعية – القدرية – يمكن أن تكون مصدر ثراء وخصوبة حين يكون أصحابها أكثر قابلية لتفهّم الاختلاف وتقبّل الآخر باعتباره شريكاً حقيقياً بكل مقدّرات البلاد وليس ضيفاً طارئاً أو دخيلاً تنبغي حمايته. وربما كان التعويل في هذا الاتجاه على المثقفين والسياسيين وأصحاب الفكر من أصحاب هذه الانتماءات جميعها، إلّا أن المفارقات كانت أدهى وأمرّ، حين استنفر كثيرا من هؤلاء، وعاد كلٌّ إلى مرابع طائفته وعشيرته، ليصبح حادياً للركب، ولا يني يردح ليل نهار، بمنشور على وسائل التواصل هنا، وبتسجيل مرئي هناك، ونكاد نرى الزهوَ والنشوة تتدفقان من حروفه وحركاته، إذ يرى أن كل ( ردحة ) تحصل على مئات وربما آلاف ( اللايكات) والمئات من المشاركات، كيف لا، وهو يتحصّن بحاضنته الطائفية أو العشائرية ويرى في التصفيق الذي يعقب ردْحَه إنجازاً معرفياً كبيراً وتفرّداً إعلامياً قلّ نظيره، ويغدو كلامه السابق ومجمل تنظيراته حول العلمانية والديمقراطية وقيم الحداثة مجرّد (مطويّات من السجّاد المزركش الفاخر) لا تُفرشُ إلّا في المناسبات الوجاهية والندوات العامة والهرج الثقافي. وفي المقابل نجد أن من نصّبوا أنفسهم حماةً ورعاةً للدين وتجهّزوا لاستكمال المسيرة حتى فتح الأندلس قد امتشقوا السيوف وملؤوا جُعبَهم بفتاوى التكفير وكبّروا للجهاد الأكبر.
ما نزال في بداية الطريق، والالتفات إلى الوراء بغية اكتشاف الشروخات والكبوات هو من علائم التفكير السليم.
هل ينبغي الالتفات إلى الوراء؟
منذ سقوط الطاغية الأسدي في الثامن من شهر كانون الأول الماضي، بدأ الحديث عن ضرورة انعقاد مؤتمر وطني كحاجة لا بدّ منها، ذلك أن المؤتمر المنشود من جانب الجميع كان وحده القادر على الإجابة عن السؤال: ما هي أولوياتنا – نحن السوريين – لمواجهة المرحلة القادمة؟ وما هي التحدّيات التي تواجهنا، وما هي وسائلنا وعدّتنا لمواجهة ما ينتظرنا من استحقاقات راهنة ومستقبلية؟ وحين ارتفع أكثر من صوت من أصحاب الرأي والغيرة الوطنية والذين يفكرون بعمق وهدوء وبعيدين عن المعمعة، ورأى هؤلاء أن الخطوة الأهم هي التحضير للمؤتمر، وتعني هذه المسألة الشروع في حوارات معمّقة تعلن عنها وتشرف عليها السلطة الجديدة، ولا تستثني تلك الحوارات أي طرف من الأطراف (مكونات عرقية وطائفية وكيانات سياسية)، وربما يستغرق التحضير ستة أشهر على الأقل، يتم خلالها البحث المعمق والنقاش الجاد حول جميع مسائل الخلاف بين السوريين، وينبغي ألّا تثنينا كثرة الخلافات وتعقيداتها عن متابعة الحوار، إذ يمكن أن نتعثّر مرات، ثم نعود إلى استكمال هذا المسعى، ولا شك لن يكون طريقنا معبّداً باليسر والسلاسة، ولكن علينا التحلّي بالمزيد من الصبر واتساع الأفق والإخلاص لتجاوز هذا المخاض الذي إن تحقق بنجاح، فالجميع ناجح، وإن أخفق فالجميع خاسر، وبعد تجاوز مرحلة التحضير تلك، يمكن للمؤتمر أن يأتي تتويجاً لمجمل التفاهمات، وحينها يكون السوريون – على الأقل – باتوا يعرفون ماذا يريد كل طرف منهم. لكن الأمور مضت على غير هذا النحو، فتحوّل اللقاء إلى (مؤتمر حوار وطني) لمدّة يومين 24 – 25 – شباط 2025 ) وإذا حذفنا فترة الاستقبال والتعارف يبقى أمامنا يوم واحد، وقد اعتمدت دعوة الحضور على معيار العلاقات الشخصية والمعارف الخاصة، ذلك أن المراد من المؤتمر – بالنسبة إلى السلطة الجديدة – هو المنجز الرمزي الذي يمكن تصديره للرأي العام الخارجي، باعتباره مستحقاً يجب على الحكومة تأديته. ولكننا الآن – نحن السوريين جميعاً – ندفع ثمن سَلْق ذاك المؤتمر، لأنه فوّت علينا فرصة كان يمكن استثمارها بعمق، من خلال معرفة مواجع كل طرف من السوريين، وماذا يريد؟ وما هو الممكن وما هو الممتنع؟ وما هي هوامش الاتفاق والاختلاف؟ يمكن ألّا تكون هكذا حوارات قادرةً على احتواء جميع مسائل خلافات السوريين، ولكنها بالتأكيد سوف تكون قادرة على كبح الانفجارات كالتي حدثت في الساحل والسويداء وجرمانا وأشرفية صحنايا.
ما نزال في بداية الطريق، والالتفات إلى الوراء بغية اكتشاف الشروخات والكبوات هو من علائم التفكير السليم، والعودة لتأسيس انطلاقة أكثر سلامةً أجدى بكثير من القفز فوق الصعاب أو تجاهلها، نتمنّى أن تحظى هذه الدعوة باهتمام أصحاب القرار.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية