«نبض الخليج»
في ظل التصعيد الأخير في الصراع الإقليمي بين إيران وإسرائيل، الذي تجاوز حدود البلدين ليشمل دولًا عديدة في المنطقة، تبرز سوريا كدولة كانت سابقًا ساحة مباشرة للتنافس الطائفي والمذهبي والسياسي بين الطرفين.
لكن مع تغيّر المعطيات على الأرض، وسقوط نظام بشار الأسد البائد بعد ثورة شعبية نجحت في إنهاء أكثر من خمسة عقود من الاستبداد والفساد، دخلت سوريا مرحلة جديدة من إعادة تحديد مكانتها الجيوسياسية.
لم تعد سوريا اليوم أرضًا لتصفية الحسابات بين طهران وتل أبيب كما كانت في السابق، فقد انسحب النفوذ الإيراني عمليًا من معظم المناطق السورية، باستثناء بعض البؤر في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، حيث لا يزال هناك وجود رمزي لبعض العناصر المرتبطة بالميليشيات الإيرانية أو المتعاطفة معها.
السياسة الخارجية الجديدة التي بدأت سوريا في تبنيها، تقوم على مبدأ واضح: الحياد وعدم الانحياز لأي محور إقليمي أو دولي.
هذا الانسحاب لم يكن نتيجة ضغوط خارجية فقط، بل جاء كنتيجة طبيعية لتغيير جذري في السياسة الخارجية الجديدة التي تنتهجها الحكومة السورية المؤقتة، والتي تركز على “النأي بالنفس” عن صراعات المحاور، واعتماد سياسة الحياد كركيزة أولى في بناء الدولة الحديثة.
الثورة السورية، التي استمرت لأكثر من ثلاثة عشر عامًا، كلفت البلاد غاليًا من دماء ودمار، لكنها أنجزت هدفًا استراتيجيًا أساسيًا: إنهاء النظام الذي حوّل سوريا إلى وكيل إقليمي لإيران، وأداة تنفيذية في مشروع الهلال الشيعي.
ومع زوال ذلك النظام، زالت بالتالي البنية التي كانت تسمح بإدخال النفوذ الإيراني عبر شبكات ميليشياوية واقتصادية، وسيطرة على مؤسسات الدولة.
ما يجري الآن في سوريا هو إعادة بناء دولة قادرة على استعادة السيادة الوطنية، وبناء مؤسسات عسكرية وأمنية مهنية، بعيدًا عن أيدي الميليشيات أو الجهات الخارجة عن القانون.
وهذا التحول يشكل حماية استراتيجية للبلاد من الانزلاق مرة أخرى في صراعات الآخرين، وخاصة في ظل تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، اللتين تبحثان عن نقاط ضعف في الجوار السوري.
ورغم الانسحاب الرسمي للنفوذ الإيراني، إلا أن هناك مخاطر أمنية حقيقية قد تهدد الاستقرار الجديد في سوريا؛ فهناك بقايا ميليشيات إيرانية أو عناصر مرتبطة بها في مناطق متفرقة، خاصة في شمال شرقي البلاد وفي بعض المناطق الحدودية مع العراق.
هذه العناصر قد تحاول استخدام سوريا كنقطة انطلاق لتنفيذ عمليات تخريبية أو إثارة الفوضى، وهو ما يستدعي تعزيز حالة اليقظة الأمنية، وبناء منظومة أمن وطني محترفة قادرة على التصدي لأي اختراقات.
الأمر ذاته ينطبق على مناطق قسد، التي تضم، بالإضافة إلى التنظيمات الكردية، عناصر من تنظيم PKK وبعض فلول النظام السابق، الذين يمكن أن يكونوا ذراعًا لقوى خارجية تريد زعزعة الاستقرار.
إسرائيل، التي تواصل استهداف مواقع إيرانية في المنطقة، قد تجد في التغيرات السورية فرصة لتوسيع عملياتها العسكرية، خاصة إذا شعرت بأن بقايا الميليشيات الإيرانية لا تزال تشكل تهديدًا.
من ناحية أخرى، قد تحاول إيران استغلال الفوضى في مناطق قسد أو الحدود العراقية لإعادة بناء نفوذها، ولو بشكل محدود، بهدف استعادة موطئ قدم في سوريا.
هذه الديناميكيات تجعل من الضروري أن تتبنى سوريا استراتيجية أمنية استباقية. يجب أن تركز هذه الاستراتيجية على تعزيز الرقابة على الحدود، وتطوير أجهزة استخبارية متطورة قادرة على كشف أي تحركات مشبوهة.
ومن هنا، فإن مهمة الحكومة السورية الجديدة ليست فقط إعادة إعمار البنية التحتية المدمّرة، بل أيضًا إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، بحيث تكون موحدة ومهنية، قادرة على حماية الحدود، وتأمين المناطق الحساسة، ومواجهة أي تهديدات خارجية أو داخلية.
السياسة الخارجية الجديدة التي بدأت سوريا في تبنيها، تقوم على مبدأ واضح: الحياد وعدم الانحياز لأي محور إقليمي أو دولي.
هذا الخيار ليس مجرد موقف سياسي آني، بل هو رؤية استراتيجية تمثل تحوّلًا جذريًا في فهم الدبلوماسية السورية؛ فبعد سنوات طويلة من التبعية لإيران، وتحويل سوريا إلى ساحة صراع إقليمي، تسعى القيادة الجديدة إلى إعادة تعريف موقع البلاد كدولة مستقلة، ذات قرار سيادي، تعمل على بناء علاقات متوازنة مع جميع الدول، دون أن تكون أداة في أي لعبة جيوسياسية.
وقد بدأ هذا التوجه بالفعل في العلاقات مع الدول العربية، حيث عادت سوريا تدريجيًا إلى الحضن العربي، وبدأت في تطبيع علاقاتها مع دول الخليج، التي كانت تعارض النظام السابق بشدة.
كما أن هناك محاولات لتحريك العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتعلق بالمساعدة الإنسانية وإعادة الإعمار، ضمن شروط واضحة تمنع أي تدخل في الشأن الداخلي السوري.
إن النجاح في هذه المرحلة يعتمد على قدرة القيادة السياسية على توحيد الصفوف، وتحصين الداخل، وتجنب الانجرار إلى الصراعات التي لا تخدم سوى أعداء سوريا الحقيقيين.
إذا كان النجاح في السياسة الخارجية يعتمد على الحفاظ على الحياد، فإن نجاح المرحلة الانتقالية بكاملها يعتمد على القدرة على تحصين الداخل؛ فالشعب السوري، الذي دفع ثمنًا باهظًا للحرب، يطالب اليوم بدولة مدنية، ديمقراطية، تخدم مصالحه وتنهض باقتصاده، وتوفّر له فرص العمل والتعليم والصحة.
هذا يتطلب إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، وبناء شراكات اقتصادية مع دول العالم، بما فيها الدول الإقليمية، على أسس من المنفعة المشتركة، بعيدًا عن سياسة الامتيازات المتبادلة التي كانت سائدة في الماضي.
كما يتطلب الأمر بناء مؤسسات حكم رشيد، ومحاربة الفساد، وتطبيق العدالة الاجتماعية، وخلق بيئة آمنة للاستثمار والعمل والإنتاج.
في عالم يتجه نحو التعددية القطبية، ويتراجع فيه دور الولايات المتحدة كقوة مهيمنة واحدة، وتعود فيه روسيا والصين إلى الصدارة، فإن سوريا تدرك أهمية التوازن في العلاقات الدولية؛ فهي لا تمانع في التعاون مع روسيا أو الصين، بشرط ألا يكون هذا التعاون على حساب سيادتها أو استقلال قرارها.
وبالمقابل، فإن سوريا ترى في أوروبا والدول العربية شركاء طبيعيين لها في بناء المستقبل، خاصة في المجال الاقتصادي والاستثماري، وقد بدأت الحكومة المؤقتة في إطلاق مبادرات لجذب الاستثمار، وتقديم حوافز للمستثمرين من مختلف الجنسيات، ضمن إطار قانوني واضح وشفاف.
ما يجري اليوم في سوريا يحمل مشروعًا وطنيًا حقيقيًا، يهدف إلى استعادة الدولة، وبناء وطن لكل السوريين، بعيدًا عن الكراهية والتمزق الذي خلقته سنوات الحرب.
سوريا الجديدة لن تكون ساحة لصراعات إقليمية، ولن تكون أداة بيد أي جهة كانت، سواء من الشرق أو الغرب.
سوريا، التي عانت لعقود من استغلالها كساحة لصراعات الآخرين، لديها اليوم فرصة لرسم مستقبل جديد يقوم على الحياد والاستقلال، لكنّ هذا المستقبل لن يتحقق إلا باليقظة الأمنية، والعمل الدؤوب، والإيمان ببناء سوريا الحديثة، التي تستحق أن تكون نموذجًا للتعايش والاستقرار في منطقة مضطربة.
إن النجاح في هذه المرحلة يعتمد على قدرة القيادة السياسية على توحيد الصفوف، وتحصين الداخل، وتجنب الانجرار إلى الصراعات التي لا تخدم سوى أعداء سوريا الحقيقيين؛ فالشعب السوري، بعد كل ما مرّ به، يستحق دولة عادلة، آمنة، مستقرة، وقادرة على العيش بكرامة بين الأمم.
في النهاية، تقف سوريا اليوم على مفترق طرق: من جهة، فإن الصراع الإيراني الإسرائيلي يلقي بظلاله على المنطقة، ويشكل تهديدًا غير مباشر على استقرارها، ومن جهة أخرى، فإن سياسة النأي بالنفس وإعادة البناء توفّر فرصة تاريخية لاستعادة السيادة الوطنية وبناء دولة حديثة. نجاح هذا المسار يعتمد على قدرة الحكومة السورية على تحصين جبهتها الداخلية، من خلال بناء مؤسسات قوية، وجيش وطني موحد، وتعزيز التعاون مع الدول العربية والإقليمية.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية