جدول المحتويات
«نبض الخليج»
يتناول هذا المقال العلاقة المتشابكة بين الغابات والمجتمعات المحلية في سوريا، من منظور اجتماعي–مؤسساتي، وذلك ضمن سياق النزاع وإعادة الإعمار، وبهدف استكشاف سُبل تحقيق حوكمة مستدامة للموارد الحرجية. ويُظهر كيف أسهم تآكل الحوكمة المركزية، وضعف آليات المشاركة المجتمعية، في تفكك أنظمة إدارة الغابات، ما أفسح المجال أمام صراعات مصالح واستغلال غير مستدام للموارد، لا سيّما في ظل تصاعد الطلب على الأراضي ومواد البناء وخشب التدفئة.
يركز التحليل على التناقض بين السياسات البيئية الرسمية، كتجربة “الحزام الأخضر”، وواقع التنمية الريفية، حيث أدت بعض مشاريع التحريج إلى حرمان المجتمعات من مواردها من دون بدائل. كما يسلط الضوء على غياب الغابات عن أولويات “التعافي المبكر”، رغم دورها المحوري في استدامة المياه وتعزيز الأمن الغذائي.
ويدعو المقال إلى مقاربة تشاركية وعادلة لإدارة الغابات في إحياء الغطاء النباتي في سوريا في مرحلة إعادة الاعمار، تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية، وتعيد ربط الإنسان بالمكان، بما يضمن العدالة البيئية والاجتماعية على حد سواء.
أود التنويه بأنه، يُستخدم في هذا النص مصطلح “الغابة“ بشكل مجازي للإشارة إلى “الحراج“، ويُقصد به تحديدًا المناطق التي تم غرسها بأشجار حراجية لأغراض بيئية أو تنظيمية ضمن استراتيجية إحياء الغطاء النباتي في مواجهة التصحر، وليس الغابة الطبيعية بالمعنى البيئي الواسع للكلمة.
تُدرج سوريا في الأدبيات المتخصصة في التاريخ البيئي ضمن أبرز الأمثلة التي دُرست بشأن عمليات إزالة الغابات المبكرة. فقد ربط العديد من الباحثين صعود وسقوط الحضارات الكبرى في بلاد ما بين النهرين بعوامل بيئية. ويمثل “الهلال الخصيب”، الممتد من فلسطين مرورًا بسوريا وصولًا إلى العراق، أحد المهاد الأساسية لولادة تلك الحضارات. لكنّ الاستغلال الزراعي المكثف والمستمر أسهم في انهيار المنظومة الحضارية في بدايات العصر الميلادي (Diamond, 1999؛ Roux, 1995). تشير البيانات إلى أن إزالة الغابات من قبل البشر في سوريا بدأت في وقت مبكر من عام 9000 قبل الميلاد، واستمرت وتيرتها في التصاعد عبر العصور (Yasuda et al., 2000). ورغم عدم التوصل بعد إلى صيغة علمية تربط بوضوح بين الجفاف وإزالة الغابات، إلا أن احتمال وجود مثل هذا الترابط يبقى مرجحًا. فقد وثّق علماء الآثار حدوث تغير مناخي محلي قرابة العام 1200 قبل الميلاد، أسفر عن موجات جفاف مفاجئة تسببت في زوال مدينة أوغاريت، إحدى أبرز العواصم القديمة (Kaniewski et al., 2017).
ورغم وفرة المعلومات حول التاريخ البيئي لبلاد الرافدين، فإن المعطيات المتوفرة عن ديناميات إزالة الغابات في سوريا الحديثة ما تزال محدودة. حيث تطغى فيها الدراسات المرتبطة بالعلاقة ما بين الظروف المناخية والإنتاج الزراعي، في استجابة لصورة نمطية ترسّخت عن سوريا باعتبارها بلدًا جافًا أو شبه جاف، يواجه تحديات مزمنة تتعلّق بأمنه المائي والغذائي. في حين تركز الدراسات البيئية غالبًا على المناطق الغنية بالغابات، كالأمازون وأفريقيا الوسطى وإندونيسيا، من دون أن تأخذ في الاعتبار أن ندرة الغطاء الحرجي في بلد ما تزيد من القيمة البيئية والاقتصادية لكل شجرة متبقية. وفي حالة سوريا، حيث تتفاقم التهديدات المرتبطة بالمياه (شُح الموارد، الجفاف، التلوث، أو حتى الفيضانات الموسمية)، فإن الحفاظ على الغابات بوصفها إسفنجًا بيئيًا يسهم في تنظيم دورة المياه، يكتسب أهمية حاسمة.
اعتمد إعداد هذه الورقة على منهج نوعي يجمع بين المراجعة الأدبية المنهجية، والمقابلات الشخصية شبه المفتوحة، وتقنيات الاستشعار عن بُعد. شملت المقابلات عددًا من المهندسين العاملين في مصالح الغابات، إلى جانب عدد من سكان القرى المجاورة للمناطق الحراجية التي تعرّضت للحرق أو القطع. وهدفت هذه المقابلات إلى استقصاء تصوّرات المجتمعات المحلية حول المكان وتحريجه، إضافةً إلى تحديد مكامن الإشكال المرتبطة بالحراج خلال العقود السابقة، وتحليل الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية لعمليات التحريج وتدمير الغطاء الحراجي. كما تم توظيف تقنيات الاستشعار عن بُعد لرصد وتحديد مواقع تدهور الغطاء الحراجي، وتقدير مدى انتشاره على المستوى المحلي.
سياسات التحريج: بين مكافحة التصحر وتحديات التنمية الريفية المستدامة
في ثمانينيات القرن الماضي، أُطلقت في سوريا مبادرة “الحزام الأخضر” ضمن إطار استراتيجي يهدف إلى مكافحة التصحر والحد من تمدد الصحراء وذلك من خلال إحياء الغطاء النباتي فقد تم تشجيع المزارعين على زراعة الأشجار المثمرة وتبنت وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي بزراعة الأشجار الحراجية (Al Dbiyat et al. 2015)، في سياق عالمي كان يشهد تصاعدًا في الاهتمام بالبيئة والنظم الإيكولوجية الهشة. وقد تمحور الهدف الرئيسي للمبادرة حول إنشاء حزام من الغطاء النباتي في المناطق الهامشية بهدف حماية الأراضي الزراعية والمناطق السكنية من التدهور البيئي (Al Dbiyat et al. 2015).
تُظهر التجارب التاريخية أن المجتمعات القاطنة قرب الغابات غالبًا ما تكون الأحرص على حمايتها، لما تمثّله من امتداد بيئي واقتصادي لحياتها اليومية. غير أن الوضع في سوريا يشكّل حالة مغايرة، تعود في جزء كبير منها إلى الطريقة التي طُبّقت بها مبادرة ‘الحزام الأخضر’. فقد استُخدم نهج فوقي ومركزي (Top-Down) في تخطيط وتنفيذ مشاريع التحريج، حيث تم اختيار الأراضي المستهدفة من دون أي تشاور مع المجتمعات المحلية أو مراعاة لاحتياجاتها.
أدى هذا النهج إلى تكوين بؤر توتر اجتماعي كامنة تجاه المناطق التي تم تحريجها، إذ رأت المجتمعات المحلية في هذه المشاريع شكلًا من أشكال مصادرة أراضيها وموارد عيشها التقليدية، التي كانت تُستخدم سابقًا كمراعٍ أو كمصادر لاستخراج مواد البناء. وقد نتج عن ذلك تقييدٌ فعليٌ لوصول السكان المحليين إلى مواردهم، من دون أن تقترن هذه الإجراءات بأي بدائل اقتصادية أو مشاريع تنموية تعويضية.
تجسدت هذه الإشكاليات بوضوح في حالات مثل حراج خان السبل في ريف إدلب، الذي كان يشكّل مصدر رزق لمئات العائلات من خلال استخراج الحجر والرمل، إضافة إلى كونه مرعى للماشية. كما تنطبق الحالة نفسها على الحراج المُنشأ على ضفاف بحيرة تشرين على نهر الفرات، حيث زُرعت الأشجار الحراجية في أراضٍ تقليدية مملوكة أو مستخدمة من قِبل المجتمعات المحلية، من دون أخذ مصالحهم بعين الاعتبار.
بالإضافة لذلك، أُديرت هذه المساحات الحرجية من قبل مؤسسات حكومية مركزية، أبرزها وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي (مديرية الحراج)، بالتعاون مع الجهات الأمنية، من دون إشراك المجتمعات المحلية في إدارة الغابات أو في اتخاذ القرار. فلم تُطوّر آليات للحوكمة التشاركية، ولم تُؤسس بنية مؤسسية تسمح بدمج المعرفة المحلية في استراتيجيات الحفاظ على البيئة، وتنمي المسؤولية المجتمعية، ما أدى إلى خلق فجوة بين السلطة الإدارية والمجتمعات المحلّية والغابات.
ورغم انطلاق هذه المشاريع من نوايا بيئية نبيلة، إلا أنها لم تُدرج ضمن إطار متكامل للتنمية الريفية المستدامة. فبدل أن تشكل الغابات المزروعة رافعة لتحسين سبل العيش وتعزيز الصمود الريفي، تحولت في بعض المناطق إلى رمز لتدخّل خارجي فوقي غير مندمج مع الواقع المحلي. ومع غياب الحوافز الاجتماعية والاقتصادية التي تربط السكان بالغابة، لم تتطور العلاقة ما بين الغابة (الحراج) والمجتمع المحلي.
إن هذا التناقض بين الأهداف البيئية والنتائج الاجتماعية يُبرز أحد أوجه القصور البنيوي في سياسات إدارة التحريج في السياق السوري، حيث غالبًا ما تُفصل الحماية البيئية عن العدالة الاجتماعية، وبقيت تُنفّذ السياسات، خلال العقود السابقة، بمنطق أمني أو بيروقراطي من دون استحضار البعد التنموي المحلي.
الغابات في أثناء الصراع: بين الفراغ المؤسسي والاستغلال العشوائي
أفسح غياب المؤسسات الحكومية المسؤولة عن إدارة الغابات، نتيجة لاندلاع النزاع منذ أواخر عام 2011، المجال لتحول التوترات من الحالة الكامنة الى حالة الفعل. فقد تعرّضت العديد من الغابات (الحراج) لحالات اندثار تدريجي كما هو الحال في أحراج خان السبل، غابة البوز (شكل 1) حيث يظهر تحليل الصور الفضائية تراجعا كبيرا في المساحة الخضراء.
يعود التراجع في المساحات الخضراء الى اندلاع حرائق متكررة، بعضها كان متعمّدًا، في حين كان بعضها الآخر ناتجًا عن الإهمال أو عن الاستخدام غير المنضبط للنار. كما استغل بعض الأفراد هذا الفراغ في السلطة لاقتلاع الأشجار وتحويل الأراضي الحراجية إلى مشاريع خاصة، ضمن استراتيجية غير رسمية لإعادة توظيف الموارد الطبيعية بما يخدم مصالح فردية أو تجارية. وفي حين اقتصر هدف بعض الفاعلين على تجارة الأخشاب، فقد تحولت هذه الظاهرة إلى ممارسة شائعة في بعض المناطق، في ظل ضعف الرقابة المجتمعية وغياب الردع المؤسسي.
وفي المقابل، يُلاحظ تقصير واضح من قبل العديد من الجهات المحلية والدولية في التعامل مع هذه الإشكاليات في أثناء النزاع، إذ غالبًا ما يتم استبعاد القضايا البيئية – وعلى رأسها الحراج – من أولويات التدخل الإنساني المبكر، لصالح تلبية ما يُعتبر “احتياجات ملحّة” مثل الغذاء والمأوى والمياه. غير أن هذا التوجه يُغفل، في كثير من الأحيان، إدراك المجتمعات المحلية لأهمية الغابات، ووعيها العميق بالتداعيات البيئية والاجتماعية لزوالها (Lobach, 2012).
إن تجاهل هذا البُعد قد يُسهم في فقدان فرص ثمينة لإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والبيئة كجزء لا يتجزأ من مسار التعافي والاستقرار في مرحلة إعادة الاعمار.
الغابات في مرحلة إعادة الإعمار: بين الترميم البيئي وتوازن المصالح
مع انتقال سوريا تدريجيًا من مرحلة النزاع إلى مرحلة إعادة الإعمار، يبرز الاهتمام بالموارد الحرجية بوصفه مدخلًا أساسيًا نحو تعافٍ بيئي حقيقي. فإعادة الاعتبار للغابات لا تندرج فقط ضمن جهود الحفاظ على التنوع البيولوجي، بل تشكل خطوة محورية لضمان استدامة الموارد المائية، وتعزيز الأمن الغذائي، والحد من أخطار الكوارث الطبيعية على المدى البعيد.
في هذا السياق، تصبح الحاجة ملحّة لإجراء تحليل تاريخي شامل لأنظمة إدارة الغابات في سوريا، بغرض استخلاص الدروس من التجارب السابقة، وتقييم مواطن الخلل والنجاح في آليات الحوكمة. ويتطلب هذا التحليل أيضًا استعادة النماذج المجتمعية المحلية في الحماية البيئية، التي أثبتت جدارتها في مراحل سابقة، مع ضرورة تطويرها بما يتماشى مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة.
إضافة إلى ذلك، ينبغي تحديد خريطة القوى الفاعلة وأصحاب المصلحة في ملف الغابات – من مستثمرين ومؤسسات حكومية وسكان محليين – وتحليل المنافع والأضرار التي قد تترتب على كل فئة في حال تنفيذ مشروع تحريج أو إعادة غطاء نباتي. فبناء استراتيجية وطنية لإعادة التحريج لا يمكن أن يتم بمعزل عن هذا التوازن، الذي يراعي التباينات في المصالح ويعمل على الحد من التوترات بين المجتمعات المحلية والدولة أو بين السكان أنفسهم.
ومن الطبيعي أن تشهد سوريا خلال مرحلة الإعمار تزايدًا كبيرًا في الطلب على مواد البناء، ما قد يؤدي إلى ارتفاع أسعارها ودفع بعض الفاعلين نحو استغلال الغابات كبديل اقتصادي مربح – سواء بتحويل أراضيها إلى مقالع أو من خلال المضاربة العقارية. هذه الديناميكيات تهدد بتقويض أي جهد بيئي، وتفتح الباب أمام ممارسات مدمّرة مثل الحرائق المفتعلة، التي تُستخدم كأداة لتهيئة الأرض لأغراض استثمارية.
لذا، يصبح من الضروري طرح تساؤلات حاسمة عند التخطيط لأي مشروع حراجي جديد:
- ما مدى أهمية الموقع المقترح للمجتمعات المجاورة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية؟
- وهل تعبّر هذه المجتمعات فعلًا عن رغبة في وجود غابة بالقرب منها؟
- وهل هناك مصالح خفية تسعى إلى إفراغ بعض الأراضي من غطائها النباتي تمهيدًا لتحويلها إلى فضاءات استثمارية؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات لا تكتسب قيمتها فقط من منظور بيئي، بل تتصل بشكل مباشر بمفاهيم العدالة البيئية والاجتماعية في مرحلة إعادة الإعمار في سوريا ، حيث يُفترض أن تشكّل إعادة الإعمار فرصة لتصحيح الاختلالات السابقة، وليس لتكرارها أو تعميقها.
خاتمة وتوصيات سياساتية
رغم وفرة الأدبيات الدولية حول إدارة الغابات وسياسات التحريج، إلا أن تطبيق التوصيات العامة أو استنساخ التجارب الخارجية من دون مراعاة الخصوصيات السورية قد يؤدي إلى نتائج عكسية. فالسياق السوري، بطبيعته البيئية المتنوعة، وبنيته الاجتماعية المعقّدة، لا يسمح بتطبيق نماذج موحّدة. إذ لكل منطقة، ولكل غابة أو حراج، خصائصه الفريدة من حيث الاستخدام، ونمط الحيازة، والعلاقة التاريخية بين الإنسان والمكان. وعليه، فإن أي استراتيجية لإعادة التحريج لا بد أن تنطلق من مقاربات محلية دقيقة، تعتمد على دراسات حالة، وتُبنى على تشخيص تشاركي يراعي الفروقات البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
إن إعادة الغطاء النباتي في سوريا يجب ألا تُفهم كمجرد مشروع بيئي تقني، بل كركيزة أساسية ضمن مشروع إعادة إعمار عادل ومستدام، يربط بين الإنسان والمكان، ويُعيد الاعتبار للمجتمعات المهمشة والمناطق التي طالها النسيان أو التهميش المتعمد. فالعدالة البيئية هنا ليست مطلبًا منفصلًا عن العدالة الاجتماعية، بل هي امتداد طبيعي لها، لا سيما في بلد يعيش إرثًا طويلًا من المركزية والإقصاء المكاني.
من هنا، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في سياسات التحريج من منظور شمولي يدمج بين البعد البيئي والاقتصادي والاجتماعي، ويُعيد الاعتبار لدور المجتمعات المحلية بوصفها فاعلًا أساسيًا في حوكمة الموارد واستدامتها.
وفي هذا الإطار، فإن صياغة السياسات المستقبلية في مجال الحراج والغابات يجب أن تقوم على المبادئ التالية:
- محلية التشخيص وتفصيل السياسات بحسب المناطق
- إشراك المجتمعات المحلية بصفتها شريكًا أساسيًا لا مستفيدًا سلبيًا
- ربط التحريج بالتنمية الريفية وتعزيز سبل العيش
- الحد من التوظيف التجاري غير المنظم للغابات ومحاسبة مسبّبي الحرائق المفتعلة
- دمج الاعتبارات البيئية ضمن مراحل التعافي المبكر وليس تأجيلها إلى ما بعد الاستقرار
في النهاية، تمثّل الغابات في سوريا أكثر من مجرد مورد بيئي؛ إنها مؤشر على نوع العلاقة بين المجتمع والدولة، بين التنمية والعدالة، بين المركز والأطراف. ومن هنا، فإن التعامل مع هذا الملف بحكمة وشمولية سيكون بمنزلة اختبار حقيقي لنوعية الإعمار الذي تنتظره البلاد.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية