«نبض الخليج»
بالقرب من حديقة السبكي في وسط دمشق، ووراء مولدة الكهرباء الكبيرة، اجتمع خمسة أطفال في أعمار متفاوتة، يمسكون أكياساً في داخلها مادة لاصقة أو كما يسميها السوريون “الشعلة”، ثلاثة أكياس يتناوبون على استنشاق ما بداخلها، ظناً منهم أنهم متوارون عن الأعين، فينتقلون بكيسٍ ومادة إدمانية إلى ما يسمونه “عالم تاني” متناسين بذلك فقرهم وخوفهم.. والأهم من ذلك: جوعهم.
وعن الإحصائيات المتعلقة بأعداد المدمنين من الأطفال، فقد أجابت دائرة الرعاية الصحية الأولية بوزارة الصحة عن تساؤل موقع تلفزيون سوريا حول ذلك، بأنه لا يوجد رقم وطني لأعداد المدمنين من الأطفال لهذا العام حتى الآن.
لكن الأرقام المسجلة في وزارة الصحة خلال عام 2024 وصلت إلى 92 حالة ما قبل عمر 12، و297 حالة ما بعد البلوغ حتى عمر 18. وهو ما يؤكد أن وزارة الصحة في زمن النظام كانت “عمياء” عن الإحصائيات الدقيقة للأعداد الهائلة للمدمنين في مختلف الأعمار وفي دمشق وحدها.
يقف الشباب السوري بعد سنوات أغرق فيها نظام الأسد المخلوع البلاد بالمخدرات والحشيش والكبتاغون، على حافة الانهيار النفسي، في سلوكيات إدمانية مردّها الواقع المرير الذي عايشه المراهقون والشبان والشابات وحتى الأطفال، دون أن يدركوا معنى الحياة بلا معاناة وإذلال ومخاوف تفوق طاقتهم.
ولا تبدو ظاهرة الإدمان في سوريا كما هي في بقية أنحاء العالم، بل هي ببساطة وباء خفي يسرق من الأطفال والشباب صحتهم ويسلبهم عقولهم، ومستقبلهم؛ وهذه هي النتيجة المنطقية لنظام أدار عمليات تغييب العقول في سوريا بالكبتاغون من أفرعه الأمنية ومن مكاتب ضباط الحرس الجمهوري.
جهود مستمرة لمكافحة تجارة المخدرات
لا تغيب عن ذاكرة السوريين، الصور التي تم التقاطها في الأفرع الأمنية والقطع العسكرية عقب سقوط النظام، والتي يقوم فيها عناصر من إدارة العمليات بإحراق كميات كبيرة من حبوب الكبتاغون، وكان آخرها تلك الملتقطة في مستودعات مطار المزة العسكري في قلب دمشق.
وتفاجأ العالم بكمية المخدرات ولا سيما الكبتاغون التي خرجت إلى العلن للمرة الأولى من معاقل النظام المخلوع ومؤسساته العسكرية ومستودعاته في مختلف المحافظات، في مشاهد علّق السوريون عليها بطريقة ساخرة لا تخلو من التعبير عن هول المأساة التي طبعت سنوات حكمه.
وتَبع ذلك عدد كبيرة من الحملات الأمنية التي نقلت أخبارها وزارة الداخلية، والتي هدفت إلى ملاحقة المتورطين بتجارة المخدرات أو الترويج لها، كما تم إحباط عدد من محاولات تصدير تلك المواد بمختلف الوسائل “الإبداعية” كانت آخرها عملية تم فيها ضبط ما يقارب 3 ملايين حبة كبتاغون ضمن أكياس طُبعت عليها عبارات مثل “رضاكِ يا أمي”.
وكانت الوزارة قد كشفت سابقاً عن ضبط 13 مستودعاً لتصنيع المواد المخدرة في سوريا منذ سقوط النظام، كما أكد وزير الداخلية في تصريحات صحفية، بأن الوزارة ستواصل حملاتها المكثفة والدقيقة لمحاربة تجارة المخدرات، معتبراً أن “مكافحة المخدرات جزء من معركتنا لحماية حاضر سوريا ومستقبلها” بحسب قوله.
كيف يبدو المشهد في دمشق؟
لم يعد شراء باكيت من الدخان أمراً يحتاج إلى تجميع المال، فبعد دخول كميات كبيرة من الدخان الأجنبي بعد سقوط النظام، وإغراق السوق بمختلف أنواع الدخان، انخفضت أسعار الدخان إلى أكثر من النصف، بينما كان سعر باكيت النوع الأجنبي الممتاز مثل المالبورو يصل إلى 40 ألف ليرة سورية، لا يتجاوز سعره اليوم 11 ألف ليرة سورية “نوعية مضروبة” كما يسميها المدخنون المحترفون، و23 ألف للأصلي.
وبالتزامن مع تحول ظاهرة التسول إلى مهنة في الآونة الأخيرة، يدخل فيها الناس أفواجاً أفواجاً وبمختلف أعمارها بدءاً من الثلاث سنوات وحتى الثمانين، تحول أيضاً الإدمان بمختلف أشكاله وعلى مختلف المواد الإدمانية إلى ظاهرة ملازمة للتسول وموازية تنهش المجتمع وتفقد أبناءه شيئاً من إنسانيتهم لا كرامتهم فحسب.
وفي مشهد صار اعتيادياً، ينتشر الأطفال فاقدو الرعاية في شوارع دمشق، يتسولون المال، أو يطلبون من الناس ما يحملون في أيديهم من المأكولات أو المشروبات، ثم يتجمعون في نهاية اليوم ليحصوا “الغلة” التي قد تصل إلى 200 ألف ليرة يومياً وأكثر للطفل الواحد، يتباهون فيما بينهم بما استطاعوا جمعه بينما يدخنون سجائر رديئة أو يتناوبون على سيجارة واحدة، هي سيجارة حشيش على الأغلب، ملفوفة بطريقة عشوائية.
ولا يتوقف الإدمان عند السجائر العادية أو الشعلة التي يتناقلها الأطفال وينفثها المراهقون من أفواههم، بل ظهر أيضاً إدمان مشروبات الطاقة ذات الأسعار الرخيصة مع تدفقها إلى الأسواق بكميات كبيرة منذ الشهر الأول لتحرير البلاد، حيث تباع العبوة الكبيرة من نوعيات مثل “بايسون” و”جاك” بسعر 7 – 10 آلاف ليرة سورية، ولا يتجاوز سعر بعض النوعيات الأخرى الـ 5 آلاف ليرة سورية.
كما انتشر إدمان السجائر الإلكترونية التي لم تعد حكراً لذوي الدخل الجيد، بل صارت في متناول الجميع بعد انخفاض أسعارها إلى الثلث أو النصف، فالسيجارة الإلكترونية (نمط السحبات) التي كانت تباع بأسعار تصل إلى 200 ألف ليرة سورية، لا يتجاوز أسعار بعضها اليوم 75 ألف ليرة سورية.
وقد أشارت دائرة الرعاية الصحية الأولية بوزارة الصحة إلى أن “الشعلة” هي المادة الإدمانية الأكثر شيوعاً بين الأطفال ما قبل عمر 12 سنة، بينما يكون الحشيش هو المادة المنتشرة في أعمار ما بعد البلوغ من 15 عاماً وما فوق.
وبينما كان الأطفال والمراهقون يضطرون إلى شراء السجائر العادية بالسيجارة الواحدة والسيجارتين، صار بإمكانهم شراء باكيت كامل من السجائر الرديئة بسعر لا يتجاوز الـ 5 آلاف ليرة سورية، ما سهّل الأمر بالنسبة إليهم ولا سيما مع انتشار الدخان في كل مكان وإمكانية بيعه من دون رقابة صارمة على البسطات والعربات المتنقلة.
يُذكر أن السرقات التي طالت عدد كبير من مراكز توزيع الدخان الحكومية “الريجة” في الأيام التالية لسقوط النظام، ساهمت أيضاً في انتشار كراتين الدخان التي بيعت بكميات كبيرة في الأسواق وبأسعار زهيدة كونها “مسروقة”.
وبهذا الخصوص، أوضح الدكتور فراس الحسين مدير دائرة صحة الأطفال والمراهقين في مديرية الرعاية الصحية الأولية بوزارة الصحة على الموضوع في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أنه تم وضع إطار عمل سيترجم إلى استراتيجية ضمن سياق الخطة الوطنية لمكافحة الإدمان اعتباراً من النصف الثاني من عام 2025.
وتتضمن هذه الاستراتيجية خدمات المشورة الصحية للمراهقين وعائلاتهم حول التعامل مع الإدمان والأمراض النفسية المرتبطة به، إضافةً إلى تأهيل كادر من أطباء “رأب الفجوة” والاختصاصيين النفسيين لمتابعة حالات الإدمان.
يقول الحسين لموقع تلفزيون سوريا: “نسعى في المرحلة القادمة إلى إقامة الفعاليات والأنشطة للتوعية بمخاطر الإدمان في المدارس والمراكز الثقافية والمؤسسات الشبابية وغيرها، ويتضمن ذلك التعاون مع وزارتي التربية والتعليم بهدف نشر التوعية من خلال المناهج الدراسية، إلى جانب مشاركة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في تقديم خدمات الإحالة إلى التدبير الاختصاصي المتكامل الذي يتضمن العلاج وإعادة التأهيل والدمج المجتمعي”.
حملة “على مستوى سوريا” لمكافحة الإدمان
أطلقت وزارة الصحة بالتعاون مع وزارتي الأوقاف والتعليم العالي، وبالتنسيق مع وزارتي الداخلية والشؤون الاجتماعية والعمل، وبدعم وتعاون عدد من الوزارات بما فيها العدل والإعلام والشباب والرياضة، حملة لمدة 14 يوماً بدأت بتاريخ 26 حزيران 2025.
وحملت الحملة عنوان “من أجل وطن يتعافى.. شباب سليم بلا إدمان” ويُشارك في الحملة عدد كبير من الأطباء النفسيين والاختصاصيين في مختلف المحافظات على امتداد سوريا.
وتأتي هذه الحملة في مرحلة مفصلية تعيشها البلاد من التعافي والاستشفاء على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وأيضاً بما يتعلق بالصحة النفسية لأبنائها وسلامتهم الجسدية.
وقد أوضح مدير المكتب الإعلامي في وزارة الصحة (أحمد العبد الله) لموقع تلفزيون سوريا، أن الحملة تركز بالدرجة الأولى على التوعية عبر إطلاق رسائل وجدانية مثل “لا تهلك نفسك، إن الله كان بكم رحيماً”، ورسائل مجتمعية عامة مثل “وطننا يتعافى فلنتعافَ معه”، وأيضاً رسائل رياضية مثل “اختر ملعبك لا مستشفى علاجك!”.
كما تهدف الحملة إلى إبراز مخاطر الإدمان كأحد التحديات التي تخرّب فكرة استشفاء الوطن وتعكّر صفو سلامه ومستقبل أبنائه، يقول العبد الله لموقع تلفزيون سوريا: “مكافحة الإدمان اليوم هي مسؤولية جماعية تقع على عاتق الجميع، وهي لا تقتصر على جهة حكومية بعينها بل تحتاج إلى تضافر الجهود الحكومية والمجتمعية لضمان تعافٍ حقيقي في أقرب وقت”.
وقد بدأت صفحات وزارة الصحة على مواقع التواصل الاجتماعي بنشر منشورات توعوية مرتبطة بالحملة، والتي تتضمن تصاميم إرشادية هادفة، ومقابلات مع أطباء واختصاصيين للتوعية حول مخاطر الإدمان وكيفية الانسحاب من متاهته وضرورة معالجة هذه الظاهرة كطريقة لتعافي المجتمع من الآفات الصحية والنفسية والاجتماعية.
يقول الدكتور أحمد سلامة مدير دائرة الصحة النفسية بوزارة الصحة، في حديثه لموقع تلفزيون سوريا: “يبدأ العلاج من إدراك المشكلة وتسليط الضوء عليها مع كسر حالة الوصمة الاجتماعية التي ترافق المدمنين ودفعهم إلى مراكز الاستشفاء لتخفيف هذه الحالات قدر المستطاع، نواجه تحديات كبيرة متعلقة بنقص الأدوية وقلة الكوادر المتخصصة، وهذه الحملة هي البداية في خطتنا لمكافحة الإدمان والتعافي من آثاره”.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية