جدول المحتويات
«نبض الخليج»
يقف الإنسان مشدوهاً من حجم الجرائم التي ارتكبت في الأسبوع الأخير في السويداء، هذه الجرائم ليست عنفاً عابراً بين طرفين، بل شكلت جرحاً غائراً في الذات السورية، ولا أبالغ بالقول أن هذا الجرح قد يكون مؤسساً لشكل الاجتماع السوري في المستقبل، لأن انفلات الغرائز الطائفية والقبلية، بهذه الطريقة المروعة والمتوحشة، وانخراط مستويات مختلفة من المجتمع فيها، سواء من نخب سياسية وإعلامية وفكرية، وارتداد جمع كبير من هذه النخب، لطوائفهم وقبائلهم، والتحريض المتبادل على القتل واستسهال الإبادة واستدعاء قوة محتلة لتكون حامياً لفئة من السوريين، في مقابل استدعاء حشد عشائري لإخضاع فئة أخرى، هذا المشهد المربك والمعقّد والذي تختلط فيه الصراعات التاريخية الاجتماعية والطائفية والسياسية وتقاطعات المصالح الدولية والإقليمية، يجعل من الصعب جداً على أي شخص أن يحلل أسبابه والسياق الذي تطورت فيه الحوادث إلى هذا الحد المتوحش من عنفٍ، كنا نظن أنه انتهى بلا رجعة مع سقوط حكم المجرم الهارب.
وللأسف فإن كل التحليلات لا يمكن أن تُحيط بمستويات الصراع المركّب الذي يجري الآن على أرض الجنوب السوري، فلا يكفي مثلاً أن نبني تحليلنا على مقولة ساذجة تتحدث عن صراع بين “الدولة”، وبين “فصيل” حكمت الهجري الذي اختار التحالف مع إسرائيل لمواجهة هذه الدولة، ولا يكفي أن نبني تحليلنا على أساس هجوم متطرفين جهاديين على السويداء وأن “فصيل” حكمت الهجري وجد نفسه مضطراً للدفاع عن العرض والأرض حسب شعارات وبيانات الهجري، كذلك لا يمكن اختزال التحليل بالصراع التاريخي بين البدو والدروز في السويداء، أو الحديث عن صراع سني درزي، إن جميع مستويات الصراع هذه قد تجد ما يشير إليها، ولذلك أي نظرة أحادية للصراع المركب المتعدد المستويات، ستجد عشرات الحقائق التي تدعمها.
لا يكفي أن نبني تحليلنا على مقولة ساذجة تتحدث عن صراع بين “الدولة”، وبين “فصيل” حكمت الهجري الذي اختار التحالف مع إسرائيل لمواجهة هذه الدولة
في مطلق الأحوال فإن تحليل ما يحدث في السويداء بعمق يحتاج لفترة من الزمن ويحتاج لأدوات معرفية كثيرة تنتمي لحقول علمية مختلفة من علم الاجتماع إلى السياسة إلى علم النفس الاجتماعي إلى دراسات العنف وسلوك الجماعات، ولذلك سأختصر ما أريد قوله بثلاث مقولات إن جاز التعبير، مركزاً في هذه المقولات على ما أراه أخطاء قاتلة وقعت بها ثلاثة أطراف، وهي السلطة وحكمت الهجري والنخب المجتمعية سواء السياسية أو الإعلامية أو الزعامات العشائرية والعائلية، وضمن هذا التركيز المكثف ستكون هناك محاولة لاستشراف المستقبل أو كيف نتجنب الأخطاء الكارثية التي وقعنها بها.
مأزق السلطة: من المظلومية إلى الاستعلاء
لم يعد خافياً أن السلطة الحالية انطلقت من مرجعية أيديولوجية سلفية، سنّية الهوى، ذات بنية مغلقة لا تقبل الاختلاف أو التعدد، لا دينياً ولا فكرياً، حتى داخل الطيف السني نفسه، ووصلت السلطة للحكم في دمشق، محمولة على أربعة عشر عاماً من المجازر والانتهاكات وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبها نظام المجرم الهارب بشار الأسد، وهذه الجرائم بكاملها تم توظيفها في إطار بناء ” مظلومية سنية” تحوّلت إلى عنصر مركزي في الوعي السياسي لدى شرائح واسعة من السوريين.
غير أن هذه المظلومية، ومنذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، ما لبثت أن تحوّلت إلى شعور بالاستعلاء والانتصار، ليس فقط على النظام السابق، بل على إيران وحلفائها، بما يمثلونه من قطب مذهبي مناوئ، وانطلقت بذلك سردية جديدة تُحيي ما بات يُعرف بـ”الأموية الجديدة”، عبّر عنها الرئيس أحمد الشرع في خطابات متعددة تحدث فيها عن “استعادة دمشق لمجدها”، وعن “عودة المركز الحضاري الفاعل في تشكيل المشرق”.
هذا المزج الخطير بين شعور الاضطهاد وشعور الغلبة، أفرز نمطاً نفسياً سياسياً مُركباً يهيمن الآن على بنية السلطة الصلبة، وهو ما جعلها تتصرف وكأنها في موقع لا يوجب المراجعة أو المصالحة أو التنازل، بل في موقع الوصي على المجتمع السوري، الذي ينبغي تطويعه على مثالها، لا التحاور معه أو احتضانه، وهكذا بدلاً من أن تُعيد السلطة النظر في أدواتها لتشكيل الدولة، شرعت في تشكيل المجتمع نفسه وفق تصوّراتها الأحادية، باعتباره كتلاً أهلية طائفية صلبة، سنّة في مواجهة علويين ودروز ومسيحيين وإسماعيليين ومرشديين، وبهذا المسلك، أهدرت السلطة قرناً كاملاً من التراكم السياسي والقانوني السوري، وقامت بقطيعة معرفية وإدارية مع تاريخ الدولة منذ نشأتها الحديثة في عام 1918.
انطلقت سردية جديدة تُحيي ما بات يُعرف بـ”الأموية الجديدة”، عبّر عنها الرئيس أحمد الشرع في خطابات متعددة تحدث فيها عن “استعادة دمشق لمجدها”، وعن “عودة المركز الحضاري الفاعل في تشكيل المشرق”
ولم تكتف السلطة بهذا الانفصال، بل بدأت بتطبيق تجربتها في بناء المؤسسات من “الصفر” – تلك التجربة التي تبلورت في إدلب – على كامل الجغرافيا السورية، متجاهلة أن سوريا ليست أرضاً خلاء، وأن لها بنية قانونية وإدارية متجذّرة لا يمكن القفز فوقها، ولذلك مارست انتقائية فجة في التعامل مع المنظومة القانونية، فما ينسجم مع أيديولوجيتها يُعتمد، وما يصطدم بها يُلغى، حتى لو خالف الإعلان الدستوري الذي تكرر انتهاكه دون تردد.
هذه المقاربة للسلطة، بدأت تشكل ترسيخاً لحكم سلطاني يقوم على مركزية الفرد ويشكل عائقاً أمام بناء “الدولة” بمفهومها كياناً عقلانياً يُجسد الإرادة العامة والحرية الكلية، أو كما يقول هيغل في فلسفة الحق: ” إن الدولة هي العقل الأخلاقي الواقعي، وإن الإرادة العامة لا تجد تعبيرها الحقيقي إلا في الدولة”، هذا التفارق بين مفهوم الدولة والسلطة، أدى حقيقة لاختلاط مفاهيمي كبير عند الجميع، فمن يؤيدون السلطة، باتوا يتحدثون عن الدولة وحق الدولة وسلطة الدولة، متناسين أن المرحلة الانتقالية هي جسر للعبور إلى الدولة التي يتفق السوريون على تشكيلها، وأننا الآن ما زلنا نقف عند أول الجسر ولم نخطو أي خطوة على هذا الجسر، فالتركيز الذي يجري الآن على بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية وإحكام السيطرة على المناطق السورية، لا يقود لبناء دولة، بل يقود في أحسن الأحوال إلى بناء سلطة مركزية تفرض رؤيتها على المجتمع السوري.
وفي مقابل ذلك فإن الرافضين للسلطة، يخلطون بينها وبين الدولة المرجوة، بحيث أن رفضهم للسلطة بات يتجلى في الرفض العميق لفكرة الاجتماع السوري الواحد أي فكرة بناء دولة، وهذا من أخطر ما نمر به الآن، حيث تظهر دعوات الانفصال والنزعات الانعزالية ونزعات المطالبة بالالتحاق بدول أخرى، وهذا أخطر ما نواجهه كسوريين في اللحظة الراهنة.
الرافضين للسلطة، يخلطون بينها وبين الدولة المرجوة، بحيث أن رفضهم للسلطة بات يتجلى في الرفض العميق لفكرة الاجتماع السوري الواحد أي فكرة بناء دولة
الشيخ حكمت الهجري: رفضٌ صفري بلا مشروع
في المقابل، لم يقدّم الشيخ حكمت الهجري أي رؤية واضحة يمكن أن تُفهم في إطار سياسي أو تفاوضي، منذ اليوم الأول لسيطرة السلطة الجديدة على دمشق، تبنّى الهجري موقفاً رافضاً بالكامل، لا يعترف بشرعية السلطة ولا يسعى للتفاوض معها، بل يضع شروطاً تعجيزية أقرب إلى السرديات العقائدية منها إلى الخطاب السياسي.
وخلف هذا الخطاب، تتوارى نزعة طائفية صريحة، تستند إلى شعور بالتمايز وربما بالتفوق، تُخفي نفسها خلف شعارات “الديمقراطية العلمانية”، والمفارقة أن الهجري نفسه لم يكن يعترض على دستور 2012، الذي لم يكن علمانياً، في ظل حكم الأسد، لكنه اليوم يشترط “علمنة الدولة” قبل أي حوار، هذا التناقض الفجّ يضعف مصداقية خطابه، ويفضح افتقاره لرؤية واقعية لحل سياسي لمعضلة السويداء التي خلقها الهجري بنفسه.
إن رفض الهجري المطلق للسلطة، لا يمكن تفسيره إلا ضمن منطق عدمي، يُحوّل الأزمة إلى صراع صفري مغلق، تتلاشى فيه فرص التفاوض، وينزلق نحو الاحتراب الأهلي، ويبدو أن الهجري ومن معه، لا يجدون وسيلة لهدم مشروعية السلطة الجديدة في دمشق والتي تحظى بقبول كبير لدى طيف واسع من السوريين، سوى بإغراقها بالدم، ولذلك اتخذ ومنذ أشهر مجموعة من الخطوات التصعيدية التي تدفع للصدام العسكري المباشر، في محاولة منه لجر السلطة لهذا المستنقع من الدماء، والكفيل ربما من وجهة نظره أن يدفع المجتمع الدولي للتدخل، ويحقق حلم الهجري بخلق كانتون درزي في السويداء، مع فتح ممر له باتجاه الأردن، وربما هذا الهدف هو الذي يقف وراء رفض الهجري غير المبرر والمتعنت لدخول قوافل المساعدات الإنسانية القادمة من دمشق، وإصراره على فتح معبر خربة عواد مع الأردن ليكون ممراً لهذه المساعدات، وهذا تأسيس لفكرة حدود دولية للكيان الدرزي الذي يحلم به الهجري ومن معه.
إن رفض الهجري المطلق للسلطة، لا يمكن تفسيره إلا ضمن منطق عدمي، يُحوّل الأزمة إلى صراع صفري مغلق، تتلاشى فيه فرص التفاوض، وينزلق نحو الاحتراب الأهلي
نكوص النخب: حين تسقط الذات في قبضة القطيع
أمّا الأخطر من ممارسات السلطة ومواقف الهجري، فهو انهيار النخب المجتمعية والأهلية أمام موجة العنف، لقد رأينا كيف انحازت فئات من المثقفين والكتاب والفنانين إلى طوائفهم أو قبائلهم، وبدأوا يبرّرون الجرائم ويُجيّشون الناس بخطابات بدائية: “الثأر”، و”الفزعة”، و”غيرة الدين”، في عودة مذهلة إلى ما قبل الدولة… بل ما قبل المجتمع السياسي.
إنه سقوط مدوٍ للذات السورية، التي لطالما تباهت بحداثتها وتعدديتها، وكما يقول إريك فروم: “حين يصبح الخوف أقوى من الفكر، ينحاز الإنسان إلى القطيع”، وهذا ما جرى بالضبط: محوٌ للفرد، وتحكّمٌ للجماعة، وإقصاءٌ للعقل.
ما الحل؟
لا يمكن الادعاء بامتلاك حل جاهز، فالأزمة معقّدة ومتداخلة، لكن يمكن اقتراح مسارات أولية للخروج من هذا النفق، تبدأ من السلطة، بصفتها الطرف الأقوى الذي يملك أدوات التأثير السياسي والعسكري والإعلامي، والأكثر مسؤولية:
أولاً: يجب فتح المجال العام، وحلّ الأمانة السياسية العامة التابعة لوزارة الخارجية، التي باتت تحتكر المجال السياسي بشكل شبه أوحد.
ثانياً: إعادة الالتزام بالسير وفق المنظومة القانونية النافذة في سورية، وعدم استسهال مخالفتها، وعدم التطبيق الانتقائي للقانون.
ثالثاً: بناء جيش وأمن مهنيين، منزّهين عن التوظيف الطائفي، ومنع أي شعارات دينية أو طائفية أو رموز دينية يرفعها عناصر الأمن والجيش، ومعاقبة كل من يخالف هذا المنع.
رابعاً: إطلاق حوار وطني حقيقي يشمل كافة المستويات المجتمعية ولا يكون هذا الحوار تحت هيمنة الإدارات السياسية في المحافظات والتي يجب أن يتم حلها.
خامساً: إعادة الاعتبار لفكرة المواطنة، بدلاً من هندسة المجتمع على أسس طائفية، والتوقف عن التعامل مع السوريين باعتبارهم جماعات أهلية، بل باعتبارهم مواطنين يخضعون للقانون، وبالتالي عندما ترى السلطة أن الهجري يخالف القانون فعليها أن تصدر مذكرة توقيف بحقه، لا أن ترسل له أحد مسؤوليها ومحاولة حل الأمور بتبويس اللحى والشوارب.
ما جرى في السويداء ليس مجرّد “أحداث مؤسفة”، إنه اختبار وجودي للدولة السورية، ولسؤالها الوطني الكبير: هل نريد دولة تُعبّر عن إرادة الجميع، أم سلطة تُلغي الجميع؟
إن ما جرى في السويداء ليس مجرّد “أحداث مؤسفة”، إنه اختبار وجودي للدولة السورية، ولسؤالها الوطني الكبير: هل نريد دولة تُعبّر عن إرادة الجميع، أم سلطة تُلغي الجميع؟ وزعماء يختطفون طوائفهم ومحافظات كاملة لإرضاء شهوة الزعامة ولبناء كانتون طائفي حتى ولو أدى ذلك للقيام بتطهير عرقي كامل لمكون ديني آخر، أو حتى لو أدى ذلك لاستدعاء جيش محتل للتدخل، هذه الأسئلة يجب أن يسألها كل مؤيد للسلطة أو الهجري لنفسه أولاً، فالوطن وسورية أكبر من السلطة ومن الهجري ومن كل هذا العبث الدموي الذي يجري الآن.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية