جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في الوقت الذي تمكنت فيه الحكومة السورية الجديدة من تحقيق اختراقات ملحوظة على الصعيد الخارجي، عبر استعادة علاقات طبيعية مع عدد من الدول العربية وعودة مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، وفتح قنوات تفاوض بشأن العقوبات الدولية، لا يزال الداخل السوري يواجه سلسلة من الأزمات المتراكمة التي لم تُحل بعد.
ورغم الحراك السياسي الخارجي النشط الذي منح الحكومة حضوراً إقليمياً ودولياً، إلا أن الواقع الداخلي لا يزال يعاني من صعوبات كبيرة، تمثلت في تراجع الخدمات الأساسية، وتدهور الأوضاع المعيشية، واستمرار التوترات الأمنية في مناطق مثل السويداء والساحل.
هذا التفاوت بين الحضور الخارجي والتحولات الداخلية يثير تساؤلات حول قدرة الحكومة على تحويل الحراك الدبلوماسي إلى إنجازات داخلية. فهل الأولوية كانت لاستعادة المكانة الإقليمية؟ أم أن الملفات الداخلية تواجه تعقيدات تفوق قدرة الحكومة الراهنة على معالجتها بالسرعة المطلوبة؟
استقرار سوريا.. حاجة دولية متزايدة
على الرغم من اختلاف التقييمات الإقليمية والدولية للحكومة السورية الجديدة، إلا أن ثمة توافقاً متزايداً على أن استقرار سوريا يمثل ضرورة تتجاوز حدودها، ويمس قضايا الأمن والهجرة ومكافحة الجريمة المنظمة في المنطقة.
وتستند هذه المقاربة إلى الأهمية الجيوسياسية لسوريا، التي تجعل من استقرارها عاملاً مؤثراً على أمن الجوار، لا سيما الأردن ودول الخليج العربي، فضلاً عن ارتباطه المباشر بأمن أوروبا مع تصاعد الهجرة غير النظامية وتهريب المواد المحظورة عبر البحر خلال السنوات الماضية.
هذا الوعي انعكس في زيارات رسمية متعددة إلى دمشق من قبل وزراء خارجية دول أوروبية مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، إضافة إلى مشاركة سوريا الرسمية في فعاليات دولية كبرى مثل مؤتمر ميونيخ للأمن ومنتدى دافوس، بعد فترة طويلة من العزلة الدبلوماسية.
ويقول الباحث أحمد قربي، مدير وحدة الهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، إن استقرار سوريا أصبح “هدفاً مشتركاً لقوى إقليمية ودولية متعددة، ليس بالضرورة انطلاقاً من دعم سياسي، بل نتيجة إدراك التكاليف الكبيرة للفوضى التي عاشتها البلاد خلال السنوات الماضية”.
ملامح السياسة الخارجية
رغم ما يبدو من تحرّك دبلوماسي نشط للقيادة السورية الجديدة، يرى مراقبون أن إدارة الملفات الخارجية لا تتم من خلال المؤسسات الوطنية وحدها، بل تأتي ضمن تنسيق واسع مع شركاء إقليميين مؤثرين.
فالعزلة التي خلّفها النظام السابق نتيجة سياساته وتحالفاته، فرضت على القيادة الجديدة إعادة بناء العلاقات الخارجية على أسس أكثر مرونة. وتُعد الشراكات الإقليمية أداة أساسية في هذا المسار، سواء من حيث الترتيب للقاءات أو تسهيل الانفتاح السياسي والاقتصادي.
ويشرح السياسي السوري أيمن عبد النور هذه المسألة بالقول إن “التحرك الخارجي السوري يجري ضمن توافقات مسبقة مع دول داعمة، تلعب دوراً مباشراً في تسهيل العودة السورية إلى الساحة الدولية”، مشيراً إلى أن “زيارة الرئيس السوري إلى فرنسا تمّت بترتيب من السعودية، التي قدمت طائرة رسمية لتأمين انتقال الوفد”.
كما يشير عبد النور إلى أن “الخارجيتين القطرية والتركية، بالتعاون مع الرياض، ساهمت في تيسير لقاءات دبلوماسية مهمة، من أبرزها لقاء ترمب ـ الشرع، ومارست هذه الدول دوراً إيجابياً في دفع الولايات المتحدة نحو تخفيف بعض العقوبات المفروضة”.
وفي هذا السياق، عبّر وزير المالية السوري محمد يسر برنية عن تقديره لما وصفه بـ”الدور البناء الذي لعبه الأشقاء والأصدقاء، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية ودولة قطر وجمهورية تركيا، في دعم خطوات استعادة العلاقات الخارجية”.
التعافي الداخلي.. بين الطموح والعقبات
رغم الإشارات الرسمية إلى انطلاق مرحلة إعادة الإعمار، إلا أن التحديات لا تزال تعيق التقدم في هذا المسار. فالعقوبات المفروضة على سوريا، وتداعيات الحرب الطويلة، إضافة إلى البنية التحتية المتآكلة، جميعها تمثل عقبات أمام أي نهوض اقتصادي ومؤسساتي فعلي.
ووفق تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) عام 2024، تحتاج سوريا إلى ما يفوق 117 مليار دولار لإعادة تأهيل البنية الأساسية في قطاعات كالصحة والتعليم والطاقة، وهو ما يعكس حجم التحدي البنيوي القائم.
ويقول الباحث فراس فحام من مركز أبعاد للدراسات إن “التحدي لا يكمن في تدهور جديد، بل في استمرار أوضاع مزمنة لم تُعالَج جذرياً بعد”، مؤكداً أن البنية المؤسسية تعرضت لتآكل تدريجي خلال فترات سابقة، ما يتطلب خططاً بعيدة المدى لإصلاحها.
كما يرى أن تحريك عجلة الاقتصاد لا يزال محدوداً، رغم وجود بوادر إيجابية في بعض المناطق المستقرة نسبياً، مثل حلب وإدلب، لكنه يشير إلى أن “الاستقرار الكامل يتطلب توافقاً سياسياً داخلياً حقيقياً، وهو ما لم يتحقق حتى الآن بسبب استمرار الانقسامات”.
من جهته، يرى الباحث أحمد قربي أن بعض الإنجازات بدأت تظهر على المستوى الخدمي، مثل تعزيز شبكة الكهرباء وتوسيع قطاع المياه، إلى جانب اندماج فصائل ضمن المؤسسة العسكرية الرسمية، مؤكداً أن “الأثر الإيجابي لهذه الخطوات سيحتاج إلى وقت حتى يلمسه المواطن”.
وتجدر الإشارة إلى توقيع مذكرة تفاهم نهاية أيار الماضي بين وزارة الطاقة السورية وتحالف من الشركات المختصة، بقيمة تصل إلى 7 مليارات دولار، بهدف الاستثمار في قطاع توليد الكهرباء.
الشرعية الحقيقية تبدأ من الداخل
في ضوء هذه التحديات، يتعزز لدى قطاعات واسعة من السوريين شعور بأن الاستقرار الحقيقي لا يمكن أن يأتي من الخارج فقط، بل من إصلاحات داخلية شاملة تفتح المجال أمام مشاركة أوسع للفئات المجتمعية، وتوزيع أكثر عدلاً للسلطة والفرص.
ويؤكد الباحث أيمن عبد النور أن “الشرعية المستدامة تُبنى داخلياً من خلال مصالحة وطنية شاملة، ومؤتمر جامع يعيد هيكلة الدولة بطريقة تمثّل جميع السوريين وتعيد ثقتهم بالمؤسسات”.
بدوره، يشير الباحث فراس فحام إلى أن التحديات الأمنية والسياسية الداخلية لا تزال قائمة، لكنه يرى أن “الانفتاح على مكونات المجتمع، والانخراط في عملية سياسية حقيقية، قد يفتح الباب أمام استقرار تدريجي”، مع التحذير من وجود قوى ترفض الاعتراف بمؤسسات الدولة، وتسعى لترسيخ واقع موازٍ خارج إطارها الرسمي.
وفي المحصلة، يُظهر التباين بين الإنجازات الدبلوماسية والتعثر الداخلي أن نجاح سوريا في المرحلة المقبلة يتطلب تكاملاً بين الجهد الخارجي والإصلاح الداخلي، مع إرادة سياسية واضحة للانتقال من حالة التعليق إلى حالة الفعل.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية