«نبض الخليج»
لدمشقَ سحرٌ خاص، كلّ من يزورها يغرم بها وبحضارتها وبهائها، وأعرف من لم يزرها يوماً لكنّه علق بحبائلها، فأن تبقى مدينة بكامل ألقها حتّى اليوم وهي الموجودة منذ عشرة قرون قبل الميلاد ليس بالأمر الهيّن، فذاك يتعلّق بموقعها وطبيعتها وطبيعة أهلها وسكّانها كلّ هذا أسهم بنجاتها من الحروب والجائحات والكوارث التي مرّت عليها.
وأكبر دليل على حضورها في عصرمن العصور هو ذكرها في الكتب بدءاً من النّصوص الآرامية التي تحدّثت عنها، لمحدّث الشّام ابن عساكر الذي كتب عن تاريخها ثمانين مجلّداً في القرن السّادس الهجري، أو ذكرها في القصائد ذكراً سريعاً بوصفها المكان الذي يقصده الشّاعر، فقد وجدتها في قصيدة للنّابغة الذّبياني باسمها “جلّق” كانت في مدح الغساسنة ملوك الشّام وفقد كان النّابغة يحبهم ويتغزّل بالرّياض الغنّاء حيث يسكنون ويمتدح لباسهم وشجاعتهم.
كما ذكرها المتنبي في فاتحة إحدى قصائده:
مبيتي من دمشق على فراشٍحشاه لي بحر حشاي حاش
أو أن تكون القصائد متحورةً حولها تمتدح طبيعتها، جمالها، تاريخها، حضارتها، أهلها ،وغير ذلك فمثلاً البحتري كتب عن دمشق يمتدح برودة ليلها بعدما دخلها الخليفة المتوكّل من منطقة داريا:
العيش في ليل “داريا” إذا بردا
والرّاح تمزجها بالرّاح من (بردى)
أما دمشق، فقد أبدت محاسنها
وقد وفّى لك مطريها بما وعدا
إذا أردت، ملأت العين من بلد
مستحسنٍ، وزمان يشبه البلدا
و لسان الدين الخطيب ابن الأندلس تغزّل بها كأنها أنثى جميلة سابقاً نزار قباني بذلك:
بلدٌ تحفّ به الرّياض كأنّه وجهٌ جميلٌ والرياض عذاره
ولم تقتصر قصائد دمشق في مدح رباها وأنهارها وطقسها إذ أنّها خلال العهد الزّنكي والأيوبي -بشكلٍ خاص- بنيت فيها الكثير من المدارس ودور العلم وصارت نقاط علّام تميّز دمشق حيث ذكر عبد القادر النّعيمي الدّمشقي (المتوفى 927هـ) في كتابه “الدّارس في تاريخ المدارس” أن دمشق في القرن الخامس الهجري ضجّت بالعلم وضمّت عشرات المدارس للقرآن والسنة وللحديث وللمذاهب ومدارس خاصة للهندسة والطب كذلك، وبذلك اكتسبت جانباً جديداً يستحق المديح، وقد وصف الأمير سديد الملك ابن منقذ الكناني هذا مازجاً ما بين المكانة العلميّة المتجليّة بالمدارس مع الرّياض الغنّاء والينابيع:
ومدارس لم تأتها في مشكلٍ
إلا وجدت فتى يحلُّ المشكلا
وبها وقوفٌ لا يزال مَغَلُّها
يستنقذ الأسرى ويغني العيّلا
إذا عنان اللّحظ أطلقه الفتى
لم يلق إلا جنة أو جدولا
أو روضة أو غيضة أو قبّة
أو بركة أو ربوة أو هيكلا
أو واديًا أو ناديًا أو ملعبًا
أو مِذبنا، أو مجدلاً أو موئلا
وعنها كتب المقري التلمساني (من أعلام الفكر العربي في الجزائر) متحدّثاً عن مائها:
تزيد على مرّ الزمان طُلاوةً دمشقُ التي راقت بحُلوِ المشارِب
وقال أيضاً ذاكراً مناطقها وجمالها:
أمّا دمشقُ فخضرةٌ لعبتْ بألباب الخلائقْ
هي بهجة الدنيا التي منها بديع الحسن فائقْ
لله منها الصالحيّـ ـةُ فاخرتْ بذوي الحقائق
والغوطةُ الغنّاء حيّـ ـتْ بالورود وبالشقائقْ
والنّهرُ صافٍ والنسيـ ـمُ اللدنُ للأشواقِ سائقْ
وإذا ما قلبنا صفحات التّاريخ مسرعين ووصلنا لعصور أقرب، نجد أمير الشّعراء أحمد شوقي، يتغنّى بدمشق وتاريخها وينسب لها فضلها وفضائلها:
آمنت بالله، واستثنيت جنته
دمشق روح وجنّات وريحان
لولا (دمشق) لما كانت (طليطلة)
ولا زهت ببني العباس بغدان
جرى وصفق يلقانا بها (بردى)
كما تلقّاك دون الخلد رضوان
ونحن في الشرق والفصحى بنو رحم
ونحن في الجرح والآلام إخوان
وفي لحظة انكسارٍ وحزنٍ كتب “نكبة دمشق” وكأنّه يعزي دمشق ويمسح على رأسها، غنّاها ولحنها عبد الوهاب في 1943:
سلامٌ من صبا بردى أرقُّ
ودمعٌ لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي
جلال الرزء عن وصفٍ يدقّ
وكلّ حضارة في الأرض طالت
لها من سرحك العلويّ عرق
“أتمنى وتلك وصيتي إليكَ أن يضمني تراب دمشق أينما حلّت منيتي” تلك كانت وصية الجواهري لصديقه وقد تحققت له بعدما قضى الثّمانية عشرة عاماً الأخيرة من حياته على أرضها، لم يبخل على دمشق بشعره، ومن أشهر ما قاله :
شَمَمْتُ تُربَكِ لا زُلفى ولا مَلَقا وسرت قصدَكِ لا خِبّاً ولا مَذَقا
وما وجدتُ إلى لقياكِ منعطفاإلا إليك, ولا ألفيتُ مفترقا
قالوا: دمشقُ وبغدادٌ، فقلت: هما فجرٌ على الغدِ من أمسَيْهِما انبثقا
ما تعجبون؟ أمن مَهْدَيْنِ قد جُمعا أم توأمين على عهديهما اتّفقا؟
أما سعيد عقل الشاعر اللبناني فقد تغزّل بطبيعة دمشق غوطةً ونهراً وبقصيدة أخرى تغزّل بتاريخها وامتدح أهلها بقصائد، وقد تركت تلك القصائد بصمةً خاصةً في الإرث الفيروزي خاصةً وأنّ فيروز بدورها بدأت مشوارها من إذاعة دمشق، ومن أرض معارضها أقامت أهم حفلاتها:
أهلك التاريخ من فضلتهمذكرهم في عروة الدّهر وسام
أمويون فإن ضقت بهم ألحقوا الدنيا ببستان هشام
أما محمود درويش فقد كتب عن الحياة في دمشق:
في دِمَشْقَ,
ينامُ الغريبُ
على ظلّه واقفاً
مثل مِئْذَنَةٍ في سرير الأَبد
لا يَحنُّ إلى بَلدٍ
أَو أَحَدْ
أما الشّاعر الإماراتي مانع سعيد العتيبة فلم يكتب لدمشق ولتاريخها فقط بل انتمى إليها، وكتب ديواناً كاملاً سمّاه “شاميات”، وهنا أبيات من قصيدة له عن دمشق:
لأنك عين أم لا تنام وقلب أب براه الاهتمام
أتيت وهم أيامي جبال تطاول قاسيونك يا شام
أنا ابنك يا دمشق ولي انتسابإلى من لم يهونوا أو يضاموا
أما نزار فحين كتب لدمشق أو كتب عنها فكان يدلق روحه في القصيدة، وذلك جلي لكلّ من قرأ ما كتبه لدمشق، فهي حبيبته التي يحفظ تفاصيلها عن ظهر الغيب كما في قصيدة “من مفكرة عاشق دمشقي”:
حبيبتي أنت فاستلقي كأغنيةٍعلى ذراعي ولا تستوضحي السببا
أنت النّساء جميعاً.. ما من امرأةٍ أحببت بعدك إلا خلتها كذبا
وفي قصيدته الدمشقية يتحدّث عن دمشق والدمشقيّ :
هذي دمشق وهذي الكأس والراحإني أحب، وبعـض الحـب ذباح
أنا الدمشقي لو شرحتم جسديلسـال منه عناقيـدٌ.. وتفـاح
ومن يجب لا يستطيع ألا يحزن ويشكو لمحبوبه ويعتب، فهنا قصيدة ألقاها نزار في مهرجان الشعر العربي في دمشق في ديسمبر/كانون الأول 1971م وما زالت النكسة ترخي بظلالها على سوريا:
يا شام أين هما عينا معاويةوأين من زاحموا بالمنكب الشهبا
فلا خيول بني حمدان راقصةزهوا، ولا المتنبي مالئ حلبا
وقبر خالد في حمص تلامسهفيرجف القبر من زواره غضبا
دمشق.. يا كنز أحلامي ومروحتيأشكو العروبة أم أشكو لك العربا
حتى اليوم مازال الكثير من الشّعراء لا يملكون أمام دمشق إلا أن يصنعوا من شعرهم مرآةً لتتخايل أمامها، ورغم ما مرّت به ما زالت دمشق هي هي، وما زالت القصائد تصلها من كلّ حدبٍ وصوب، وذاك يخجلني أنا فقد كتبت مرةً في تماهيي مع مدينتي:
لا اسم لي سوى دمشق
كلّما ناداها أحدٌ، صحت من في الباب؟
وكلّما أحبّها أحدٌّ
احمرّت وجنتاي.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية