«نبض الخليج»
منذ لحظة الفرار الأولى عام 2011، لم تكن ألمانيا مجرد محطة لجوء للسوريين، بل تحولت تدريجيًا إلى مساحة لبناء حياة جديدة. وبعد موجة اللجوء الكبرى عام 2015، استقبلت ألمانيا أكثر من مليون سوري، موزعين على مختلف الولايات، غالبيتهم يحملون إما صفة لاجئ معترف به أو حماية ثانوية. وبلغ عدد السوريين المقيمين في ألمانيا حتى نهاية آذار الماضي 968 ألفا و899 سوريا، وبين عامي 2016 و2022، حصل نحو 86 ألف سوري على الجنسية الألمانية، ما يجعلهم أكبر مجموعة من المجنسين في تلك الفترة.
ساهم السوريون في ألمانيا في خلق صورة جديدة للاجئين، فبينهم من أسس شركات صغيرة، ومنهم من انخرط في العمل السياسي أو الأكاديمي، فقد أكمل حوالي نصف عدد السوريين الذين وصلوا بين عامي 2015 و2017 التعليم الثانوي أو العالي، حاليًا، يتلقى نحو 186 ألف طالب سوري تعليمهم بالمدارس العامة الألمانية، وقرابة 50 ألف آخرين يلتحقون بمدارس مهنية. بالإضافة إلى ذلك، سُجِّل ما يصل إلى 17 ألف طالب جامعي سوري في الفصل الشتوي للعام الدراسي 2021/2022.
وبعد سقوط نظام بشار الأسد، برزت فكرة لدى شريحة واسعة من المغتربين بالعودة، ومنهم المحامي عبدالحميد بيرقدار.
هل أصبحت العودة ممكنة إلى سوريا؟
في زاوية مكتبه الصغير في مدينة كوتبوس، كان المحامي السوري عبد الحميد (53 عامًا) طوى أوراقه الأخيرة، لم تكن هذه أوراق دعوى جديدة، بل استمارات العودة الطوعية إلى سوريا، التي ملأها بعد ترددٍ طويل دام عدة أشهر.
“أنا لم أهرب من الحرب فقط، بل من نظام لا يؤمن بالحرية والعدالة.. ولكن حين شعرت أنني تحررت منه نفسيا، وجدت أن العودة باتت ممكنة”، يقول عبد الحميد لموقع تلفزيون سوريا بصوت هادئ، وحازم.
غادر عبد الحميد دمشق عام 2015، بعدما طالت حملات الاعتقال المحامين والناشطين الحقوقيين، وعاش في ألمانيا لاجئًا يحمل إقامة حماية ثانوية، تعلّم اللغة، وبدأ يعمل بشكل غير رسمي في مكاتب الاستشارات، لكنه لم يستطع بناء حياة مستقرة، بحسب تعبيره. “المنفى طويل، والغربة قاسية.. وأنا لست مجرما حتى أبقى منفيا إلى الأبد”.
في مطلع هذا العام، بدأ يفكر جديًا بالعودة، بعد أن تلقى اتصالات من عائلته في ريف دمشق تؤكد أن الوضع الأمني أكثر هدوءا. تواصل مع جمعية محلية تقدم المشورة بشأن العودة الطوعية، وهناك التقى بسيباستيان.
سيباستيان هو متطوع ألماني يعمل مع عدة جمعيات غير حكومية، وهي عبارة عن منظمات تعنى بتقديم الدعم النفسي والاستشاري للاجئين الراغبين بالعودة إلى بلدانهم. التقى بعدة سوريين، وكان من ضمنهم عبد الحميد، يقول لموقع تلفزيون سوريا: “دورنا ليس أن نشجع أو نمنع العودة، بل أن نوفر المعلومة والدعم كي يتخذ الشخص قراره بشكل حر وواعٍ”.
يوضح سيباستيان أن برنامج العودة الطوعية المخصص للسوريين يُدار بالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة (IOM) عبر برنامج “REAG/GARP”، ويمكّن العائدين من الحصول على تذكرة سفر مجانية، ومساعدة مالية قد تصل إلى 1200 يورو للفرد، حسب الحالة.
سوريا مازالت بلدا غير آمن
لكن، ليست كل الطلبات تُبتّ بسرعة. فبحسب سيباستيان: “بعض الولايات الألمانية أكثر تحفظًا من غيرها. برلين مثلًا لا تشجع العودة حتى الطوعية، بسبب اعتبارها أن سوريا ليست بلدًا آمنًا. بينما ولايات أخرى مثل ساكسونيا أو تورينغن أكثر مرونة في معالجة الطلبات”.
لا يُنظر إلى سوريا حاليًا كبلد آمن من قبل الحكومة الألمانية، وهو ما ينعكس على التعامل مع طلبات العودة، حتى وإن كانت طوعية، “تُراجع الطلبات بدقة، للتأكد من أن العودة ليست ناتجة عن ضغوط قانونية أو نفسية”، يوضح سيباستيان. وأضاف أن هناك حالات تم تجميد طلباتها بسبب الشك في دوافعها أو بسبب تعقيدات إدارية.
وتختلف سرعة معالجة الطلبات من ولاية إلى أخرى، فبينما تُقبل بعض الطلبات خلال أسابيع، تتأخر أخرى لأشهر دون تفسير واضح، ما يضع العائدين المحتملين في حالة انتظار قلقة.
بالنسبة لعبد الحميد، لم تكن العودة قرارًا سهلاً، بل معركة داخلية بين العقل والقلب. “لن أكون بأمان كامل هناك، لكنني تعبت من حياة معلقة، ومن شعور بأنني عالق بين اللجوء واللاعودة”.
غادر عبد الحميد ألمانيا قبل شهر، بعد أن حصل على دعم برنامج العودة، وساعده سيباستيان في ترتيبات السفر. حتى لحظة نشر هذا التقرير، لم يرد منه سوى رسالة قصيرة: “وصلت.. أنا بخير حتى الآن. دعواتكم”.
يبقى مصير العائدين الطوعيين معلقًا بين الواقع السياسي في سوريا، والتشريعات الأوروبية التي تعجز أحيانًا عن مواكبة التحديات الإنسانية. في هذا السياق، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يستطيع السوري أن يختار العودة بحرية فعلًا، أم أن ما يبدو خيارًا طوعيًا هو في الحقيقة اضطرار بلون آخر؟
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية