«نبض الخليج»
حذر سرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي من أن “خطر النزاع النووي لا يزال قائما ولم ينخفض”، مضيفا أنه مع اقتراب موعد انتهاء سريان معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية (ستارت-3) في فبراير 2026، ترى موسكو خطر اختفاء كافة آليات الرقابة في هذا المجال”.
تصريحات ريابكوف جاءت في سياق تعليقه على التطورات حول مصير معاهدة تدمير الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، باعتبارها واحدة من أهم معاهدات الحد من التسلح التي وقعها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية إبان الحرب البادرة، وساهمت في خفض التوتر وإبعاد شبح نشوب حرب نووية في أوروبا.
وكانت وزارة الخارجية الروسية أعلنت في بيان رسمي يوم في 4 أغسطس/آب، أن “موسكو، نتيجةً لتصرفات الغرب، قد تخلت عن قرارها الأحادي بوقف نشر الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى”. وأشار البيان، إلى أنه “رغم التحذيرات الروسية العديدة”، فإن الولايات المتحدة وحلفائها ينشران صواريخ برية متوسطة المدى في مناطق عدة تشكل أهمية من وجهة نظر الأمن الاستراتيجي لروسيا، حيث يتم نشر منظومات هذه الصواريخ في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، بشكل شبه علني، بما في ذلك اختبار هذه الأنظمة في الدنمارك، ونشر منصات إطلاق “إيجيس آشور” في رومانيا وبولندا، ونقل أنظمة صواريخ تايفون إلى الفلبين، وخطط رسمية لنشرها في ألمانيا وأوروبا الشرقية اعتباراً من عام 2026″.
صواريخ أوريشنك الروسية تدخل الخدمة
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكد مطلع شهر أغسطس أن صواريخ أوريشنك متوسطة المدى، القادرة على حمل رؤوس نووية، قد دخلت الخدمة في القوات الروسية. وفي 8 أغسطس/آب صرح الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو أن مواقع نشر صواريخ أوريشنك الروسية على أراضي بيلاروسيا، تم تحديدها وتجري تهيئتها.
ولايستبعد سياسيون وخبراء روس أن يتم لاحقا نشر منظومات صواريخ روسية متوسطة وقصيرة المدى على أراضي دول أخرى حليفة لروسيا، منها بعض دول أميركا اللاتينية.
لفهم تأثير انتهاء معاهدة تدمير الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى على الاستقرار الدولي، لا بد من مرور سريع على تاريخها وبعض تفاصيلها. إذ بدأ كل شيء مطلع الثمانينات من القرن الماضي، حين بات واضحاً أن الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي تمكنا من تطوير أنظمة صاروخية قصيرة ومتوسطة المدى، راهن كل طرف عليها بأن تمنحه الفرصة لتوجيه ضربة مدمرة للآخر، لا يتمكن بعدها من تشغيل أسلحته النووية لتوجيه ضربة انتقامية. بمعنى أن هذه المنظومات الصاروخية ولدت لدى من يملكها اعتقاداً بأنه قادر على تحقيق النصر في الحرب النووية، وهو ما شكل اغراءاً باستخدام تلك الأسلحة، التي انتشرت حينها بصورة رئيسية في أوروبا.
في عام 1973، كشف وزير الدفاع الأميركي جيمس شليزنغر عن مفهوم “ضربة قطع الرأس”، والتي تعني إمكانية توجيه ضربة نووية سريعة ضد مواقع الصواريخ الباليستية والمراكز القيادية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، تؤدي إلى تدميرها قبل أن تتمكن القيادة السوفياتية من الرد واتخاذ قرار بتوجيه ضربة صاروخية نووية انتقامية. وفي عام 1974، تم تكريس مفهوم شليزنغر على مستوى الاستراتيجية النووية الأميركية،وبدأت واشطن التعاون مع حلفائها البريطانيين والفرنسيين في هذا المجال.
بعد ذلك بعامين، أمر وزير دفاع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية دميتري أوستينوف بنشر صواريخ متوسطة المدى، كل منها مزود بثلاثة رؤوس نووية بقوة 150 كيلو طن لكل منها، على الحدود الغربية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية. منح نشر هذه الصواريخ تفوقاً عسكرياً للاتحاد السوفياتي في أوروبا، حيث يمكنها الوصول للأهداف الاستراتيجية (مقر القيادة ومواقع الصواريخ النووية) في أوروبا، وتدميرها، خلال 10 دقائق.
رداً على ذلك، قررت الولايات المتحدة والناتو نشر 572 صاروخاً في أوروبا من طراز “بريشينغ”، كل منها مجهز برأس حربي نووي واحد بقوة متغيرة من 5 إلى 80 كيلوطن، ولا تزيد مدة تحليقها لإصابة الأهداف في الاتحاد السوفياتي عن 6-8 دقائق. وبالتزامن مع نشر تلك الصواريخ، وافقت دول الناتو عام 1983 على بدء المفاوضات مع الاتحاد السوفياتي حول هذه القضية.
خلال القمة الأميركية السوفياتية في 8 ديسمبر 1987 بواشنطن وقع الرئيس الأميركي رونالد ريغان والأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، معاهدة تدمير الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، والتي تعهد الطرفان بموجبها بتدمير ترسانتهما من هذا النوع من الصواريخ على الحوامل البرية، بينما لم تشمل المعاهدة الصواريخ المحمولة جواً وبحراً. كما تعهدا بعدم إنتاج أو اختبار أو نشر هذا النوع من الصواريخ، وكذلك عدم انتاج أو اختبار منصات إطلاق لها.
وأهم ما جاء أن المعاهدة غير محدودة الأجل، أي أنها تفرض حظراً تاماً وغير محدد بفترة زمنية معينة على امتلاك أي من الطرفين للأنواع المشار إليها من الصواريخ. وبحلول يونيو 1991، دمر اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية 1846 نظاماً صاروخياً (كان نصفها تقريباً صواريخ مصنّعة ولم تكن في المناوبة القتالية)؛ ودمرت الولايات المتحدة الأميركية – 846 نظاماً صاروخياً متوسط وقصير المدى.
بدأت موسكو وواشنطن تتبادلان الاتهامات بانتهاك معاهدة “تدمير الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى”، خلال السنوات ما بعد عام 2004 بصورة رئيسية، وذلك بعد عامين على انسحاب الولايات المتحدة أحادي الجانب من معاهدة “الأنظمة الصاروخية المضادة للصواريخ”، والبدء بنشر منظومتها الصاروخية المضادة للصواريخ (الدرع الصاروخية) في عدد من دول أوروبا الشرقية، بذريعة “حماية الحلفاء من خطر الصواريخ الإيرانية”. حينها رأت روسيا أن منظومات صواريخ (الدرع الصاروخية) يمكن استخدامها لإطلاق صواريخ متوسطة وقصيرة المدى، وبالتالي فإن الولايات المتحدة تنتهك معاهدة تدمير الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى.
على الجانب الآخر اتهمت الولايات المتحدة روسيا بتطوير صواريخ متوسطة وقصيرة المدى، وبصورة خاصة دار الحديث عن صواريخ “إسكندر”. وفي 1 فبراير 2019، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير الخارجية مايكل بومبيو أن واشنطن ستعلق التزاماتها بمعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى اعتباراً من 2 فبراير، وبعد ستة أشهر (2 أغسطس) ستنسحب منها بصورة نهائية إذا لم تتخذ روسيا إجراءات للعودة إلى تنفيذ أحكام هذه المعاهدة. في اليوم ذاته، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توقف بلاده عن المشاركة في تلك المعاهدة. وأصدر تعليماته بعدم الشروع في مفاوضات مع واشنطن بهذا الشأن.
في 2 أغسطس عام 2019 لم تعد معاهدة تدمير الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى سارية. مع ذلك أعلنت روسيا عن التزام طوعي بعدم نشر تلك الصواريخ طالما لم تفعل الولايات المتحدة ذلك، ودعت الغرب إلى الإعلان عن وقف مماثل، إلا أن الولايات المتحدة ودول الناتو لم تستجب للدعوة الروسية.
إن معاهدة تدمير الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى واحدة من 8 معاهدات وقعها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، ساهمت في الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي، والتقليل من احتمالات نشوب أي شكل من أشكال المواجهة بينهما، والتي قد تتحول إلى حرب نووية مدمرة. وفي وقتنا الحالي لم يبق سوى معاهدة واحدة تضبط سلوك موسكو وواشنطن في مجال التسلح النووي، هي معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية (ستارت-3)، التي ينتهي سريانها في فبراير 2026.
ومع أن روسيا وكذلك الولايات المتحدة مهتمتان بالتوصل إلى معاهدات جديدة بديلة للحد من التسلح وتخفيف مخاطر الانزلاق إلى حرب نووية لا رابح فيها، إلا أن هذا، على الأرجح، لن يحدث في المستقبل القريب، نظراً للتوتر بينهما على خلفية الوضع في أوكرانيا، وإصرار الولايات المتحدة بأن تكون الصين طرفاً فيها، بينما تطالب روسيا بأن تنضم دولاً نووية في أوروبا إلى المعاهدات الجديدة، والحديث بصورة رئيسية، وبداية، عن معاهدة ستارت.
وإلى أن تتوصل موسكو وواشنطن إلى تفاهمات بهذا الصدد يبقى العالم دون معاهدات تحدد أطراً قانونية ملزمة دولياً، تضبط سلوك القوى النووية الكبرى، ما قد يجرهما نحو سباق تسلح جديد، يضع العالم أمام خطر نشوب حرب نووية.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية