جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في قلب الشام القديمة، حيث كانت المقاهي والحانات تضج بالموسيقى ورواد السهر، وحيث كان التنوع الديني والثقافي سمة الحياة اليومية، تشهد دمشق اليوم ملامح جديدة تحت حكم سلطات ذات توجهات محافظة قادمة من الشمال السوري. فبينما رحّب كثيرون بزوال النظام الاستبدادي الذي حكم البلاد لعقود، بدأ آخرون يشعرون بقلق متزايد إزاء تغير ملامح المدينة التي عرفوها، وتراجع الحريات الاجتماعية التي كانت تميز العاصمة عن باقي المناطق. المادة التالية، المترجمة عن صحيفة نيويورك تايمز، ترصد كيف تغيّر المشهد الدمشقي بين الأمس واليوم، وكيف بات التعايش بين التوجهات الليبرالية والمحافظة تحديًا يوميًا لأبناء المدينة.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بواقع الأمن والتشدد الديني في سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:
في حواري الشام القديمة التي يعود تاريخها للعصور الوسطى، والتي تنتشر فيها الحانات حول الكنائس والمساجد ومتاجر الأنتيكا، كانت ليالي الخميس تتحول إلى سهرات وحفلات يحييها دي جي وتوزع فيها المشروبات الروحية على أشخاص يرتدون ثياباً بالكاد تسترهم وسط صخب الموسيقى والاحتفال. ولكن لم يكن السوريون يتمتعون بأي حرية سياسية أيام الحكم القمعي القاسي لبشار الأسد، ومع ذلك كان بوسع السوريين المسلمين العلمانيين والسوريين من غير المسلمين الذين يعيشون في العاصمة أن يرتدوا ما يشاؤون ويشربوا ما يحبون ويرقصوا كما يحلو لهم.
أما في ريف إدلب حيث بنى قادة سوريا الجدد ذوو التوجه الإسلامي دويلة للثوار خلال فترة الحرب قبل إسقاط الأسد والسيطرة على دمشق في كانون الأول الماضي، كانت القهوة أقوى مشروب مطروح للبيع، كما منعت المقاهي من تشغيل الموسيقى، بل حتى النارجيلة كانت ممنوعة.
على مدى سنين طويلة، لم يختلط أهل العاصمة الدمشقيين بالسوريين الذين ينتمون إلى أنحاء أخرى من سوريا والذين زادت نزعة التشدد الديني لديهم، إلا بالقليل النادر. ولكن الآن، أضحى بعض أشد المتدينين في المجتمع السوري حكاماً فجأة لأكثر فئة ليبرالية في المجتمع السوري.
وهذا ما شجع المسلمين السنة المتدينين في العاصمة السورية على ممارسة نشاطاتهم، بيد أن ذلك هز العلمانيين والأقليات الدينية في البلد، فبالرغم من أن الحكومة الجديدة لم تفرض قوانين متشددة بسرعة على الحريات الاجتماعية، إلا أن القوة التي هبطت على المتشددين فجأة مع زيادة الأجواء المشحونة بالتوجهات المحافظة دفعت الليبراليين لوقف سلوكياتهم، خوفاً مما يمكن أن يحصل مستقبلاً.
وما يقلق تلك الفئة من الناس هو أن الحكومة الجديدة التي يترأسها أحمد الشرع الذي كان أحد الثوار الذين بايعوا تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، لابد أن تفرض حكماً إسلامياً متشدداً على البلد.
هل تحولت سوريا لأفغانستان؟
تعلق على ذلك نيفين طوروسيان، 40 عاماً، وهي مسيحية وصاحبة حانة تيكي الشهيرة الموجودة منذ عقود طويلة في تاريخ الحياة الليلية بالشام القديمة، فتقول: “كيف أصبحنا الآن؟ أفغانستان؟”
تخبرنا نيفين أنه في إحدى ليالي الربيع من هذا العام، وعندما كانت إحدى الحفلات في أوجها، دخلت الحانة ثلة من المسلحين التابعين للحكومة، حيث أمروا بوجوههم المتجهمة إنهاء كل هذه المتع، وقد كرروا زياراتهم تلك عدة مرات والتي ضايقوا من خلالها صاحبة الحانة بسبب الحفلات والمشروب حسب زعمها، ولهذا أضحت حانات الشام القديمة خاوية على عروشها تقريباً، بحسب ما ذكرته هي وغيرها من أصحاب الحانات.
نيفين طوروسيان (إلى اليمين) صاحبة حانة تيكي الشهيرة في الشام القديمة
تعهدت الحكومة الجديدة باحترام التعددية في سوريا، إلا أن الرئيس الجديد ركز السلطات بيد ثلة قليلة العدد من حلفائه، وبذلك أصبح القطاع الحكومي والجهات التي تعمل على إنفاذ القانون تعج بسوريين قدموا من إدلب، كما لم تستطع الحكومة أن تمنع الهجمات التي استهدفت الأقليات، والتي كان بينها تفجير انتحاري نفذ في حزيران الماضي داخل كنيسة بدمشق.
أصدرت الحكومة قانوناً بشأن لباس المرأة يدعو النساء لارتداء لباس بحر محتشم وفضفاض على الشواطئ المفتوحة للعموم. كما طالب هذا القانون الرجال بتغطية أكتافهم وركبهم أمام الناس، وعدم ارتداء “ملابس شفافة أو ضيقة”.
ولكن بعد موجة الغضب التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي احتجاجاً على هذا القانون، أوضح معاون وزير السياحة، غياث الفرا، عبر إحدى القنوات التلفزيونية بأن هذا المرسوم يشتمل على إرشادات فحسب وهذه الإرشادات “تراعي فئات اجتماعية” مختلفة، في إشارة واضحة للنسبة الكبيرة من السوريين المحافظين.
وحتى لو لم يفرض شيئا بشكل رسمي، بدا هذا الصيف مختلفاً، إذ على الشواطئ العامة الممتدة على الساحل السوري المطل على البحر المتوسط، لم يظهر البكيني إلا بنسبة ضئيلة جداً، كما قل استهلاك المشروبات الكحولية، وزاد ارتداء البوركيني، وذكر بعض الليبراليين بأنهم باتوا يبتعدون عن الشواطئ خوفاً من مضايقات مرتاديها من المحافظين.
رحب أغلب السوريين بأي تغيير عن حكم الأسد الذي قصف شعبه واستهدفه بالكيماوي وعذبه، بدلاً من أن يقوم بتسليم السلطة والتخلي عنها، إلا أن طوروسيان وغيرها يرون بأن كل ذلك قضى على سوريا التي يعرفونها، حيث كان الناس من مختلف الطوائف الدينية يختلطون ببعضهم على مدى قرون طويلة، إذ تقول طوروسيان: “كل من يريد أن يصلي فليصل، وكل من يرغب بالشرب فليشرب، لماذا لا يجوز أن تسير الأمور على هذا النحو؟”
دمشق تبدو مختلفة
لم تصدر السلطات الجديدة أية قوانين بشأن شرب الكحوليات أو الحد من الموسيقى أو الاختلاط بين الجنسين، كما لم تفرض على النساء ارتداء الحجاب أو عدم الخروج ليلاً.
إلا أن الأجواء الدينية المحافظة أصبحت تخيم على دمشق بحسب وصف معظم أهلها.
كانت الفئة الحاكمة البائدة، أي حزب البعث الذي هيمن عليه آل الأسد لفترة طويلة، تشجع على العلمانية حتى تبقى في السلطة، فقد ساعد قمع المظاهر الإسلامية الأسدين، الأب والابن، على الاحتفاظ بتأييد الأقليات الذين خشيوا من سيطرة الغالبية السنية عليهم.
ولكن منذ شهر كانون الأول الفائت، أصبحت دمشق تعج بزوار قدموا من مناطق سورية أخرى، ومعظمهم حملوا معهم قيماً محافظة أكثر تشدداً.
أجواء توحي بترييف دمشق
أصبح الموظفون القدماء في الإدارة المتشددة التي قامت بإدلب يديرون اليوم دوائر الحكومة ومخافر الشرطة في العاصمة، كما حلت قوات الأمن التي ترتدي الزي الموحد الأسود، ومعظمهم من الثوار، محل جيش الأسد البائد. كما غزت العاصمة بعد سقوط الأسد موجة اللحى الكثيفة التي كان الثوار يطلقونها، ما دفع كثيراً من الشبان إلى إطلاق لحاهم هم أيضاً.
تعلق على ذلك ماريا قداح، 27 سنة، وهي مسلمة والدها سني وأمها شيعية، وتفضل ارتداء الشورت على الحجاب، فتقول: “لدينا كل الأديان هنا، ولم نتجاوز بحياتنا حد التعايش”. وحتى فترة قريبة، بقيت ماريا تعمل كرئيسة لقسم التسويق في شركة تستورد المشروبات الكحولية، وتتابع بالقول: “أصبحنا نرى اليوم وجوها جديدة صارت تقول لنا بكل فجاجة: “لا نقبل بوجودكم حتى بالحد الأدنى”.
تجلى هذا التصادم بكل جلاء أمامنا في إحدى الأمسيات أثناء تناول العشاء، وذلك عندما حاول مسؤول أمني كان في السابق ثائراً وعرف عن نفسه باسم أبو يزن أن يتحدث مع سائق اسمه خالد، فسأله: “من شيخك؟” فتوتر خالد، وأجاب: “بصراحة، لست متديناً” وشعر بارتياح كبير عندما انفض أبو يزن عنه.
بدأت بعض النسوة العلمانيات وغير المسلمات يشعرن بضغط يجبرهن على ارتداء ملابس محتشمة، فعلى حواجز التفتيش، صارت تطرح عليهن أسئلة فضولية إن كن يقدن سياراتهن برفقة رجال ليسوا من محارمهن حسب ما ذكرن.
تقول مايا صالح، 37 عاماً، والتي تنتمي للطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد: “إنهم ليسوا معتادين على رؤيتنا نلبس ما يحلو لنا، ولهذا ترى التوتر في نظراتهم ومواقفهم”، فهي كغيرها من العلويات لا ترتدي الحجاب.
يخبرنا رضا جدو، 27 عاماً، وهو أحد ثوار إدلب السابقين، بأن السلطات الجديدة لا تخطط لفرض معتقداتها على بقية السوريين، ويقول: “نحترم حق كل شخص بالقيام بما يريده، ولكني شخصياً أفضل الحشمة بالنسبة للنساء” كونه يعمل على أحد الحواجز الأمنية بمدينة دمشق.
حاجز أمني على أطراف العاصمة
بيد أن أغلب السوريين المتدينيين يفضلون فرض بعض التغييرات التي تتسم بتوجه محافظ أكبر، إذ في مسجد بني أمية الأثري، بدأت القيادة هناك بفصل الرجال عن النساء في باحة المسجد عبر الاستعانة بحواجز معدنية، بعد أن كان الفصل يتم بين الجنسين فقط في مكان إقامة الصلاة.
فصل النساء عن الرجال في مسجد بني أمية الكبير بدمشق
بعد زيارتها للجامع الأموي، أخبرتنا الدمشقية أمينة الحوراني، 25 عاماً، عن تجربتها فقالت: “أصبحنا نحس بارتياح أكبر الآن، نظراً لعقليتنا الإسلامية”، ووصفت الفصل بين الجنسين بأنه: “جيد للغاية” وذلك لحماية النساء من مضايقات الذكور.
منذ سقوط الأسد، أصبحت رؤية النساء اللواتي يرتدين النقاب أمراً شائعاً في دمشق.
تحدثنا شام عطايا، 24 عاماً، وهي طبيبة تعمل في أحد المشافي العامة بأنها تدعم حق المرأة بارتداء النقاب، ولكن تساورها شكوك بخصوص احتمال أن يهدد ذلك بقية الحريات في المجتمع، فهي تغطي شعرها، لكنها كانت ترتاد الحانات برفقة أصدقائها، ولم تعد تذهب لتلك الأماكن اليوم، ولهذا تقول: “يمكن أن يحكم الناس علي بما أني مسلمة، إذ على الرغم من عدم وجود قانون، تحس بأن هنالك قانون”.
خطر العنف يخيم على دمشق
في أيار الماضي، اقتحم مسلحون ملثمون كباريه الكروان الشهير، فقتلوا امرأة من الحضور، وجرحوا آخرين، بحسب ما ذكره شهود وضابط في الشرطة.
أتى ذلك بعد عدة أيام على اقتحام مسلح لناد ليلي في المحلة نفسها، وهو نادي ليالي الشرق، إذ ظهر في مقطع فيديو صورته كاميرا مراقبة وانتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي مسلحون وهم يهددون ويضربون رواد النادي.
في صبيحة اليوم الذي تلى حادثة إطلاق النار بملهى الكروان، كانت الدماء ماتزال تلطخ الدرجات، كما صبغت طبعات الأيدي الغارقة بالدماء كل أطراف الأبواب في الملهى.
أكد أبو هادي الشرع، وهو قائد شرطة المنطقة وأحد أبناء عمومة الرئيس الأباعد والذي سبق له أن عمل في سلك الشرطة بإدلب، بأن ضباطه يفتشون النوادي بهدف حمايتها، إذ ليست لدى السلطات أية مشكلة بالنسبة لمرتادي الحفلات، ولهذا يقول: “لسنا ضدهم، فالناس يريدون أن يستمتعوا بوقتهم”.
إلا أن الحانات والنوادي أغلقت أبوابها بصورة استباقية، في حين كف غيرها عن بيع المشروبات الكحولية أو عرضها، بحسب ما ذكره مدراء تلك الأماكن والقائمون عليها.
أحد البارات الدمشقية
في إحدى ليالي الربيع، وتحديداً في حانة بيانو التي تعتبر من أقدم الأماكن التي تقيم حفلات الكاريوكي بدمشق، لم يكن هناك من الزبائن سوى مجموعة أخذت تحتفل بمناسبة تخرج أحد أفرادها، ولهذا أخذوا يدندنون إحدى أغنيات الشامي بصوت خفيض.
تخبرنا حنان الغوثاني، 28 عاماً، وهي مديرة تلك الحانة، بأنها تطرد كل ثوري ملتح يأتي إلى الحانة أو تطلب منهم حجزاً مسبقاً، وذلك خوفاً من أن تصدر منهم أي ردة فعل سلبية عند رؤية النساء والرجال وهم يشربون ويرقصون معاً، وتعلق على ذلك بقولها: “لم أكن مؤيدة لنظام الأسد، ولكن لم تظهر أي مشكلة أيام حكمه، أما مع هذه الحكومة، فلم نعد نعرف ما يجب علينا أن نتجنبه”.
في آذار الماضي، حاولت السلطات إغلاق حانة بيانو وغيرها من الأماكن، غير أنها تراجعت عن ذلك القرار بعد موجة انتقادات لاذعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك بقيت تلك الأماكن تعاني من مشكلة أخرى، بحسب رأي الغوثاني، وهي اختفاء البيرة اللبنانية التي كانوا يستوردونها، وانخفاض كميات الخمور التي توزع عليهم بما أن الموزعين كفوا عن استيراد المشروبات الروحية.
لم تفرض حتى الآن قيود رسمية على شرب الكحول، ولكن حتى يبقى المرء على مسافة آمنة من كل القرارات، أصبحت الشركة التي تعمل لديها ماريا القداح والتي كانت في السابق تستورد الكحوليات، تستورد المياه المعلبة والشوكولا والبيرة الخالية من الكحول، وقد حدث ذلك التحول الكبيرة بعد مرور ثلاثة أيام على سيطرة الثوار على مقاليد الحكم في سوريا.
في ربيع هذا العام، استقالت ماريا من عملها كونها تخطط للسفر إلى ألمانيا، وتعقيباً على ذلك: “خسرنا 14 سنة من عمرنا” وذلك في إشارة للحرب التي امتدت لفترة طويلة، وتتابع: “ولا نريد أن نخسر 14 سنة أخرى”.
المصدر: The New York Times
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية