جدول المحتويات
«نبض الخليج»
عندما انهار جدار الخوف في دمشق، تردّد صداه عميقًا في زنازين لبنان، هناك خلف القضبان الباردة كان المعتقلون السياسيون السوريون يعيشون على حافة النسيان مجرّدين من حرياتهم، ومنسيّين في صخب الحسابات الأمنية والتوازنات الإقليمية. عقود من الصمت القسري مرّت عليهم، أجسادهم في الزنازين لكن أرواحهم معلّقة على خبر يأتي من الضفة الأخرى للحدود، “سقط الأسد” وجاء اليوم الموعود، لم يكن بالنسبة لهم مجرد حدث سياسي في سوريا، بل زلزالاً نفسياً وإنسانياً بعد أن طحنتهم أجهزة الاستخبارات المشتركة.
سقط النظام الذي شارك في اعتقالهم وتعذيبهم وتبادلهم كأوراق تفاوض، لكن الأسوار من حولهم بقيت شاهقة وكأن الزمن في لبنان لم يتحرك، والسقوط هناك لم يبلغ صداه أبواب سجن رومية، ليعلق المعتقلون السوريون في فراغ سياسي لا يعترف بمرور الزمن ولا بتغيّر المعادلات.
وفي لحظةٍ بدا فيها أن التاريخ يُكتب من جديد بقيت قضيتهم مؤجلة مُركونة على هامش النقاشات الكبرى، غارقة في تعقيدات “الملف الأمني” و”الحساسية السياسية” و”خصوصية العلاقة بين الدولتين”.
يتصاعد الغضب اليوم داخل سجن رومية في لبنان عقب وفاة السجين السوري أسامة الجاعور، اليوم، الخميس 14 من آب، وسط اتهامات مباشرة لإدارة السجن بالتقصير في تقديم الرعاية الصحية اللازمة له.
أثارت الحادثة احتجاجات وتوترًا داخل السجن، مما أعاد تسليط الضوء على أوضاع السجناء السوريين هناك، وعلى حقيقة أن جدران السجن ما زالت تعزلهم عن العدالة، حتى بعد سقوط النظام الذي كان سببًا في اعتقال كثيرين منهم.
صدى الثورة السورية في سجون لبنانية
“اعتُقلت مرتين ضُربت أمام والديّ، وتعرّضت للتعذيب والإذلال وهددوني بتسليمي إلى نظام الأسد، جرمي الوحيد أنني أوصلت صوت اللاجئين السوريين في عرسال إلى الصحافة”.
بهذه الكلمات يروي ضياء جناح، أحد المعتقلين السياسيين السوريين في لبنان قصّته مع الاعتقال والاضطهاد الذي تعرّض له على يد الأجهزة الأمنية اللبنانية، على خلفية نشاطه الإعلامي المعارض للنظام المخلوع و”حزب الله”.
ضياء لاجئ سوري من القلمون يروي لموقع تلفزيون سوريا تفاصيل اعتقاله الأول عام 2023، حين داهمت ثلاث سيارات تابعة لشعبة المعلومات منزله في عرسال، وقال “ضربوني داخل المنزل أمام أمي وأبي، ولم يكتفوا بذلك بل استمر الضرب داخل السيارة حتى وصولنا إلى فرع التحقيق في بيروت”.
بدأ التحقيق معه بأسئلة عن الصحفيين والإعلاميين الذين كان يتواصل معهم، حيث كان ينقل لهم أخبار اللاجئين في مخيمات عرسال وقد وُجّهت إليه تهم بالانتماء إلى المجلس العسكري في القلمون، وممارسة نشاط إعلامي معارض للنظام المخلوع و”حزب الله”.
يتابع “أنكرت كل شيء لكنهم لم يرحموني وتلقيت أنواعًا من التعذيب والإهانة والتهديدات، وصلت إلى حد تهديدي باعتقال أمي وأبي، أو تسليمي إلى نظام الأسد”، بعد خمسة أشهر من الاعتقال أُطلق سراحه ليخرج منهكًا من الداخل ويحمل في جسده آثار الضرب، وفي ذاكرته صدى التهديدات ولم تدم حريته طويلًا. إذ تلقّى اتصالًا من الأمن العام اللبناني يطلب منه الحضور لاستلام أوراقه، وقال“خفت من أن يتم تسليمي للنظام السوري، فتحدثت مع المحامي محمد صبلوح، ومع منظمة هيومن رايتس ووتش، وأكدوا لي أن الأمر آمن لكنني ما إن وصلت حتى تم توقيفي مجددا”.
أُعيد التحقيق مع ضياء في الملف نفسه، وأضاف “كان المحققون ثلاثة، يتفننون في تعذيبي وإذلالي قال ليخلي ثورتكم تنفعك هلّق”، ورغم العنف النفسي والجسدي بقي ضياء صامدًا لشهر كامل ينكر علاقته السابقة بالمجلس العسكري، وينفي تواصله مع الإعلام، لكن ما كسر صمته كان مشهد والده وشقيقه يُجلبان إلى فرع التحقيق.
“عندما رأيت أبي وأخي موقوفين في الفرع تمنّيت الموت، قال لي المحقق يا بتعترف، يا بتسمع صريخ أبوك وأخوك عندها انهرت واعترفت بأنني كنت سابقًا في المجلس العسكري، وأنني تواصلت مع صحفيين”.
من داخل السجن يبعث ضياء برسالة مؤثرة إلى الدولة السورية الجديدة، قائلًا “اعتُقلنا وعُذبنا من أجل العيش بكرامة، من أجل أن نرفع الظلم عنكم وعنا من أجل أن نرى سوريا حرة افعلوا أي شيء من أجلنا، كما فعلنا نحن كل شيء لأجلكم، لا تتركونا نُدفن أحياء في سجون لبنان، لا تخذلونا”.
يضيف ضياء “مطلبنا من الدولة السورية أن تنظر إلينا بعين الإنسانية نحن لم نُعتقل لأننا مجرمون، بل لأننا ناصرنا الثورة، نطالب بتعيين مسؤول حكومي يتابع ملفنا، لأن تجاهلنا يقتلنا يومًا بعد يوم”.
كما يحمّل ضياء مسؤولية استمرار احتجازهم للتجاهل الرسمي من الدولة اللبنانية، ولتأثير حزب الله على قرارات الترحيل، لكنه بالمقابل يشير إلى وجود دعم شعبي واضح من الشارع السوري واللبناني، خاصة من أبناء طرابلس وعكار الذين وقفوا إلى جانبهم.
ويختم بنداء إلى الإعلام السوري واللبناني والعربي “لا تتجاهلوا قضيتنا في هذا السجن، يوجد سجناء فقدوا حياتهم بسبب الإهمال الطبي هناك من قضى سنوات شبابه في الزنازين لأنه حلم بسوريا حرة لا تتركونا نُمحى بصمت”.
رغم كل العذابات، لا يزال الأمل حيًا في قلب ضياء، وقال “بعد سقوط النظام وفتح السجون في سوريا، عاد إلينا الأمل نعلّق رجاءنا بالله، ثم بالرئيس أحمد الشرع نؤمن أن هذا الرجل لن ينسى من اعتُقل وعُذّب من أجل كلمة حق”.
“من يملك القوة في لبنان يملك القضاء”
في ظل تصاعد التقارير الحقوقية التي توثّق الانتهاكات الممنهجة بحق اللاجئين والمعارضين السوريين في لبنان، سواء على يد الأجهزة الأمنية أو تحت غطاء القضاء، يقدّم المحامي والناشط الحقوقي محمد صبلوح شهادة موسعة تسلّط الضوء على واقع قانوني وقضائي بالغ الخطورة، يكشف حجم التواطؤ بين مؤسسات يفترض بها أن تحمي الحقوق وتصون العدالة.
وفي حديث لموقع تلفزيون سوريا، يبرز صبلوح كيف تحوّل القضاء اللبناني، لا سيما القضاء العسكري إلى “أداة انتقام سياسي وطائفي” تُستخدم لتصفية الحسابات بدل أن تكون مؤسسة مستقلة للعدالة، مشيرًا إلى الخروقات الفاضحة لأبسط حقوق الموقوفين، خصوصًا المعتقلين السوريين على خلفيات سياسية.
ويشرح صبلوح أن المادة 32 من قانون أصول المحاكمات الجزائية تنص على أن التوقيف لدى الأجهزة الأمنية يَجِبُ ألاّ يتجاوز 4 أيام، منها يومان فقط قابلة للتمديد بقرار خطي من النائب العام، غير أن هذا النص لا يُطبّق حيث يُحتجز كثير من الموقوفين لأيام أو حتى أشهر دون إحالة إلى القضاء، فيما يُعدّ “اختفاءً قسريًا” يُجرّمه القانون.
ثم أن المادة 47، التي تكفل للموقوف حق الاتصال بعائلته وتوكيل محامٍ والحصول على معاينة طبية، تُهمَّش بشكل ممنهج في القضايا المصنفة “حساسة” كالإرهاب والمخدرات، ما يمثل خرقًا جسيمًا للضمانات القانونية ويجعل من أي عنصر أمني يخالف هذه المادة شريكًا في الجريمة.
أما بخصوص التوقيف الاحتياطي، فيوضح صبلوح أن المادة 108 من القانون نفسه تحدد مددًا قصوى للاحتجاز قبل المحاكمة، إلا أن هذه السقوف لا تُحترم ويُستخدم الاستثناء المتعلق بجرائم الإرهاب وأمن الدولة كذريعة لإطالة توقيف المعتقلين لسنوات دون محاكمة، بذريعة غياب القاعات أو أماكن الاحتجاز، ما حول الاستثناء القانوني إلى أداة للقمع السياسي.
ويشير إلى أن غالبية القضاة لا يتخذون أي إجراء حتى عندما تظهر آثار التعذيب على الموقوفين، بل يتجاهلونها ما يجعل القضاء شريكًا فعليًا في الانتهاكات لا مجرد متقاعس عن واجبه، لافتًا إلى أن القضاء العسكري بشكل خاص يعمل بازدواجية ويخضع لنفوذ “أمراء الحرب”، حيث يُحاكم من يدعم الثورة السورية بتهم “إرهابية” في محاكم عسكرية منحازة.
ويذكر صبلوح تقريرا شارك في إعداده مع منظمة العفو الدولية بعنوان “كم تمنيت أن أموت”، وثّق حالات تعذيب مروعة للاجئين سوريين، شملت التعذيب الجنسي وتهديدات باغتصاب الزوجات لانتزاع اعترافات، مشيرًا إلى أن القضاء اللبناني يتستّر على هذه الانتهاكات، ويغلق ملفاتها بتقارير كاذبة عن وفاة الموقوفين بـ”ذبحة قلبية” لتجنب المحاسبة.
وبعد خبرة قانونية تتجاوز 19 عامًا، يصرّح صبلوح بأن النظام الأمني في لبنان غير قابل للإصلاح من الداخل، ولا يمكن تغييره إلا بكشف الحقائق للرأي العام وتكثيف الضغط عبر الإعلام والمنظمات الدولية، في ظل غياب أي إرادة سياسية أو قضائية للمحاسبة.
كما كشف عن حالة وفاة جديدة لشاب سوري تحت التعذيب لدى جهاز الأمن العام اللبناني قبل أيام، مؤكدًا استمرار ممارسات التعذيب والفبركة حتى اليوم، ومتهمًا الدولة اللبنانية بالمشاركة في هذه الانتهاكات من خلال صمتها وتقاعسها، معتبراً أن كل مسؤول يطّلع على هذه الجرائم ولا يتحرك يُعد شريكًا فيها.
وانتقد بشدة عمليات الترحيل القسري التي تعرّض لها عشرات السوريين بعد انتهاء محكوميتهم، خصوصًا خلال حكومة نجيب ميقاتي، مؤكدًا أن المجتمع الدولي مقصّر في مساءلة الأجهزة اللبنانية، ويتعامل مع رواياتها الأمنية كما كان يتعامل مع سرديات نظام الأسد المخلوع، دون تدقيق أو تحقق من الأدلة التي توثقها منظمات دولية.
وختم صبلوح حديثه بمطالبة صريحة باعتماد عدالة انتقالية حقيقية في لبنان، تُنصف جميع من ساند الثورة السورية، سواء كانوا سوريين أم لبنانيين، وتعيد فتح ملفات المعتقلين والتحقيق في الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحقهم، معتبرًا أن بقاء النهج الأمني القائم هو امتداد مباشر لسياسات نظام الأسد المخلوع، وأن أي حديث عن عهد جديد أو قضاء عادل سيظل مجرد وهم ما لم تترافق الأقوال بمحاسبة فعلية وتغيير جذري في بنية الدولة.
“صامتون”
بالتزامن مع تصاعد الأصوات المطالِبة بكشف مصير المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية، شهد معبر جوسية الحدودي في 8 من آب الحالي وقفة احتجاجية صامتة نظّمها أهالي معتقلي الثورة السورية تحت عنوان “صامتون”، في محاولة لتسليط الضوء على معاناة أبنائهم الذين لا يزالون محتجزين دون محاكمات عادلة.
وفي حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أوضح المعتقل السابق في سجون لبنان عمر جمول أن هذا الصمت لم يكن ضعفًا بل وسيلة لإيصال رسالة أبلغ من أي شعار، بعدما أعجزهم الكلام وطرقوا كل الأبواب الممكنة لإنهاء هذا الملف دون أن يلقوا آذانًا مصغية.
وقال جمول إنهم جاءوا حاملين وصية أبنائهم المعتقلين الذين ودّعوهم بدموع وتقبيل وتمسكوا برقابهم قائلين “لا تنسونا”، مضيفًا أن مطالبهم واضحة ومشروعة وهي تسليم المعتقلين السوريين إلى الدولة السورية الجديدة، لتشرق شمس الحرية على معتقلي الرأي، الذين سُجنوا ظلماً بموجب ملفات مفبركة وأحكام كيدية وعنصرية، أصدرها قضاة ليسوا سوى امتداد للجلادين الذين هجّروهم في السابق.
ووجّه جمول نداءً إلى “أحرار العالم وكل من يمتلك ضميرًا حيًا”، مؤكداً أن المحاكم التي مثلوا أمامها في لبنان تفتقر للشرعية ولا تستوفي أدنى معايير العدالة، سواء وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان أو حتى بمقاييس الدولة اللبنانية نفسها.
وأبدى أسفه لضعف التضامن مشيرًا إلى أن التفاعل اقتصر على بعض ذوي معتقلي ملف عبرا وعدد محدود من عائلات المعتقلين في طرابلس، في ظل تجاهل واضح من الإعلام اللبناني وتهميش كامل من قبل الدولة اللبنانية التي لا تعير هذه التحركات وزنًا.
وختم جمول بالتأكيد على التزامهم بخط السلمية في تحركاتهم، رغبةً في إيصال صورة حضارية إلى العالم، وأنهم أصحاب حق لن يتراجعوا عنه، مشددًا في الوقت نفسه على أنهم لا ينوون اتخاذ خطوات تصعيدية حتى لا يربكوا دولتهم السورية الجديدة، التي ما تزال منشغلة بإرساء قواعد الشرعية ونزع فتيل الفتن في مختلف المناطق، بينما الطرف اللبناني، على حد وصفه يماطل ويخلف الوعود في هذا الملف الإنساني والوطني بالغ الحساسية.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية